البحث

عبارات مقترحة:

الطيب

كلمة الطيب في اللغة صيغة مبالغة من الطيب الذي هو عكس الخبث، واسم...

الظاهر

هو اسمُ فاعل من (الظهور)، وهو اسمٌ ذاتي من أسماء الربِّ تبارك...

أمن وإيمان

العربية

المؤلف عبد الله بن محمد البصري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. نعمة الأمن وفضلها في القرآن والسنة .
  2. الأمن من ضرورات الحياة .
  3. كيفية المحافظة على نعمة الأمن .
  4. غلو يقابله غلو .
  5. وجوب السمع والطاعة والحذر من مفارقة الجماعة .

اقتباس

إِذَا كَانَ ثَمَّةَ شَرَاذِمُ مِمَّن نَبَذُوا مَنهَجَ التَّوَسُّطِ وَالاعتِدَالِ، وَغَلَوا وَتَجَاوَزُوا وخَرَجُوا عَلَى الأَئِمَّةِ، وَنَابَذُوا وُلاةَ الأُمُورِ وَوَجَّهُوا أَسلِحَتَهُم لِرِجَالِ الأَمنِ في بِلادِهِم، وَأَرخَصُوا النُّفُوسَ المَعصُومَةَ وَسَفَكُوا الدَّمَ الحَرَامَ في الشَّهرِ الحَرَامِ، فَإِنَّ مِن وَرَائِهِم آخَرِينَ يَعبَثُونَ بِالأَمنِ وَيُزَعزِعُونَ الاستِقرَارَ، وَيُسَاهِمُونَ في هَدَمِ البِنَاءِ وَتَعكِيرِ الصَّفوِ، مِن رَافِضَةٍ بَاطِنِيِّينَ مُشرِكِينَ، أَجسَادُهُم في هَذَا البَلَدِ تُنَمَّى بِخَيرَاتِهِ، وَقُلُوبُهُم في بُلدَانٍ أُخرَى تَرتَضِعُ مِنهَا الكُفرَ وَالإِلحَادَ وَحُبَّ الإِفسَادِ، وَثَمَّةَ مُنَافِقُونَ مَرَدُوا عَلَى التَّلَوُّنِ وَالنِّفَاقِ، وَأَذنَابٌ لَهُمُ اتَّخَذُوا...

الخطبة الأولى:

أَمَّا بَعدُ، فَـ(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم وَالَّذِينَ مِن قَبلِكُم لَعَلَّكُم تَتَّقُونَ) [البقرة: 21]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللهَ يَجعَلْ لَكُم فُرقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنكُم سَيِّئَاتِكُم وَيَغفِرْ لَكُم وَاللهُ ذُو الفَضلِ العَظِيمِ) [الأنفال: 29].

أَيُّهَا المُسلِمُونَ، الأَمنُ بِمَفهُومِهِ الوَاسِعِ الشَّامِلِ، وَالَّذِي يَدخُلُ فِيهِ أَمنُ الأَفرَادِ وَالجَمَاعَاتِ، وَالأَمنُ عَلَى الدِّينِ وَالعَقلِ وَالنَّفسِ وَالمَالِ وَالعِرضِ، بَل وَالأَمنُ في الدُّنيَا وَالآخِرَةِ، مَقصِدٌ مِن مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ العَظِيمَةِ، يَرتَبِطُ ارتِبَاطًا وَثِيقًا بِالإِيمَانِ بِاللهِ وَالعَملِ الصَّالحِ، قَالَ - عَزَّ وَجَلَّ - : (وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُم وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَستَخلِفَنَّهُم في الأَرضِ كَمَا استَخلَفَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِم وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُم دِينَهُمُ الَّذِي ارتَضَى لَهُم وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِن بَعدِ خَوفِهِم أَمنًا يَعبُدُونَني لا يُشرِكُونَ بي شَيئًا وَمَن كَفَرَ بَعدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الفَاسِقُونَ) [النور: 55]، وَقَالَ - جَلَّ وَعَلا - : (الَّذِينَ آمَنُوا وَلم يَلبِسُوا إِيمَانَهُم بِظُلمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الأَمنُ وَهُم مُهتَدُونَ) [الأنعام: 82]، وَقَالَ - سُبحَانَهُ - :  (إِنَّ المُتَّقِينَ في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * اُدخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ)[الحجر: 45- 46]، وَقَالَ - سُبحَانَهُ - : (إِنَّ المُتَّقِينَ في مَقَامٍ أَمِينٍ * في جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * يَلبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِستَبرَقٍ مُتَقَابِلِينَ * كَذَلِكَ وَزَوَّجنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ * يَدعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ)[الدخان: 51- 55].

وَيَومَ أَنِ امتَنَّ اللهُ عَلَى قُرَيشٍ قَومِ النَّبيِّ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ - بِإِطعَامِهِم مِنَ الجَوعِ وَبَسطِ الأَمنِ عَلَيهِم، أَمَرَهُم بِعِبَادَتِهِ جَزَاءَ مَا مَنَّ بِهِ عَلَيهِم، فَقَالَ - سُبحَانَهُ -  : (لإِيلَافِ قُرَيشٍ . إِيلَافِهِم رِحلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيفِ . فَلْيَعبُدُوا رَبَّ هَذَا البَيتِ . الَّذِي أَطعَمَهُم مِن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِن خَوفٍ) [سورة قريش: 1- 4]، وَحِينَمَا ذَكَّرَهُم - سُبحَانَهُ - بِتَمكِينِهِم حَولَ البَيتِ وَالنَّاسُ مِن حَولِهِم تَتَخَطَّفَهُمُ المَصَائِبُ وَالمِحَنُ، وَتُقلِقُهُم المُشكِلاتُ وَالفِتَنُ، أَنكَرَ عَلَيهِمُ الكُفرَ بِنِعمَتِهِ وَالإِيمَانَ بِالبَاطِلِ، فَقَالَ - تَعَالى - : (أَوَلَم يَرَوا أَنَّا جَعَلنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِن حَولِهِم أَفَبِالبَاطِلِ يُؤمِنُونَ وَبِنِعمَةِ اللهِ يَكفُرُونَ)[العنكبوت: 67] .

وَكُلُّ أُولَئِكَ وَغَيرُهُ مِنَ الأَدِلَّةِ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - صَرِيحٌ في أَنَّهُ لا أَمنَ بِلا إِيمَانَ، وَلا تَمكِينَ بِلا طَاعَةٍ للهِ وَلا اطمِئنَانَ، وَلا استِقرَارَ دُونَ تَوحِيدٍ وَشُكرٍ وَعِرفَانٍ، عَرَفَ ذَلِكَ إِمَامُ الحُنَفَاءِ إِبرَاهِيمُ - عَلَيهِ السَّلامُ - فَدَعَا رَبَّهُ بِأَن يَبسُطَ الأَمنَ عَلَى المُؤمِنِينَ وَيَرزُقَهُم، وَأَن يَحمِيَهُ وَوَلَدَهُ مِنَ الشِّركِ وَالكُفرِ، قَالَ - تَعَالى - : (وَإِذْ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّ اجعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارزُقْ أَهلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَن آمَنَ مِنهُم بِاللهِ وَاليَومِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضطَرُّهُ إِلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئسَ المَصِير)[البقرة: 126]، وَقَالَ - سُبحَانَهُ - : (وَإِذْ قَالَ إِبرَاهِيمُ رَبِّ اجعَلْ هَذَا البَلَدَ آمِنًا وَاجنُبْني وَبَنيَّ أَن نَعبُدَ الأَصنَامَ . رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَني فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَن عَصَاني فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[إبراهيم: 35- 36].

وَكَمَا أَنَّهُ لا أَمنَ بِلا إِيمَانٍ، فَإِنَّهُ لا يَستَقِرُّ لأَهلِ الإِيمَانِ إِيمَانُهُم، وَلا يَهنَؤُونَ في عَيشِهِم، وَهُم في حَالٍ مِنَ الخَوفِ وَعَدَمِ الطُّمَأنِينَةِ، فَالمَالُ بِلا أَمنٍ لا قِيمَةَ لَهُ، وَالصِّحَّةُ بِلا أَمنٍ لا طَعَمَ لَهَا، وَالطَّعَامُ بِلا أَمنٍ لا يَسُوغُ وَلا يُسمِنُ وَلَو أَغنَى مِن جُوعٍ، وَلا وَاللهِ يَذُوقُ الإِنسَانُ طَعمَ الحَيَاةِ وَيَسعَدُ بِمَن حَولَهُ، إِلاَّ أَن يَكُونَ آمِنًا مُطمَئِنًّا، قَالَ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - : " مَن أَصبَحَ مِنكُم آمِنًا في سِربِهِ، مُعَافًى في جَسَدِهِ، عِندَهُ قُوتُ يَومِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَت لَهُ الدُّنيَا بِحَذَافِيرِهَا" (أَخرَجَهُ البُخَارِيُّ في الأَدَبِ المُفرَدِ وَالتِّرمِذِيُّ وَابنُ مَاجَهْ، وَحَسَّنَهُ الأَلبَانيُّ).

بَل حَتَّى الصَّلاةُ في حَالِ الخَوفِ، تَختَلِفُ عَن صَلاةِ الأَمنِ في صِفَتِهَا وَهَيئَتِهَا، وَيَسقُطُ الوُضُوءُ لَهَا وَاستِقبَالُ القِبلَةِ فِيهَا، وَإِذَا فَقَدَ الناسُ الأَمنَ وَحَلَّ بِهِمُ الخَوفُ، سَقَطَت عَنهُمُ الجُمُعَةُ وَالجَمَاعَةُ، وَلم يَجِبِ عَلَيهِمُ الحَجُّ إِلاَّ مَعَ أَمنِ الطَّرِيقِ، أَجَلْ يَا عِبَادَ اللهِ، إِنَّهُ لا قِيَامَ لِلدِّينِ وَالشَّرَائِعِ وَالجُمَعِ وَالجَمَاعَاتِ، وَلا رَاحَةَ لِلنُّفُوسِ وَالعُقُولِ، وَلا حِفظَ لِلأَموَالِ وَالأَعرَاضِ، وَلا استِقرَارَ اقتِصَادِيًّا وَلا نَمَاءَ لِلثَّرَوَاتِ، إِذَا لم يَكُنْ أَمنٌ في القُرَى وَالدِّيَارِ . في ظِلِّ الأَمنِ يَهنَأُ الطَّعَامُ وَيَلَذُّ المَنَامُ، وَيَطِيبُ السَّفرُ في الأَرضِ وَالمَشيُ في مَنَاكِبِهَا، وَتَنتَظِمُ مَصَالِحُ العِبَادِ وَتَتَّحِدُ كَلِمَتُهُم وَتَقوَى شَوكَتُهُم، وَتَشتَدُّ الصِّلَاتُ بَينَهُم وَيَتَفَرَّغُونَ لأَعمَالِهِم، وَيَعلُو بِنَاؤُهُم وَيَكثُرُ إِنتَاجُهُم، وَلَكِنَّ طُولَ الإِلفِ لِلنِّعَمِ قَد يُفقِدُ المَرءَ الإِحسَاسَ بها، فَلا يَعرِفُ قِيمَتَهَا إِلاَّ بَعدَ فَقدِهَا، غَيرَ أَنَّ العُقَلاءَ يَنظُرُونَ وَيَتَبَصَّرُونَ وَيَتَفَكَّرُونَ، وَيَتَأَمَّلُونَ فِيمَن حَولَهُم وَيَعتَبِرُونَ، بَلْ وَيَقرَؤُونَ التَّأرِيخِ وَلا يَنسَونَ، وَإِذَا مَرَّ بِهِم يَومٌ وَقَد سَلِمَ لَهُم فِيهِ دِينُهُم وَأَبدَانُهُم، وَأَمِنُوا عَلَى أَموَالِهِم وَأَعرَاضِهِم وَعِيَالِهِم، فَإِنَّهُم يَشُكُرُونَ رَبَّهُم وَيَحمَدُونَهُ.

 أَلا فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - فَكَم حَولَكُم مِن مَسلُوبٍ دِينَهُ وَمَنزُوعٍ مُلكَهُ، وَمَهتُوكٍ سِترَهُ وَمَقصُومٍ ظَهرَهُ، وَأَنتُم تَتَفَيَّؤُونَ دَوحَةَ الأَمنِ وَالإِيمَانِ، وَتَتَقَلَّبُونَ في مَلاحِفِ السِّترِ وَظِلِّ العَافِيَةِ، فَلْيَحفَظْ كُلٌّ مِنكُم أَمَانَتَهُ وَمَسؤُولِيَّتَهُ، وَلْيُؤَدِّ وَاجِبَهُ في المُحَافَظَةِ عَلَى هَذِهِ النِّعَمِ ؛ وَانتَبِهُوا وَتَيَقَّظُوا وَاحذَرُوا، فَإِنَّ أَعدَاءَ نِعمَتِكُم وَحَاسِدِيكُم في الدَّاخِلِ وَالخَارِجِ، لَن يَفتَؤُوا يُحَاوِلُونَ تَفتِيتَ وِحدَتِكُم وَتَكدِيرَ صَفوِكُم وَزَعزَعةَ أَمنِكُم، وَإِذهَابَ طُمَأنِينَتِكُم وَانتِهَابَ خَيرَاتِكُم، أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ : (أَوَلم نُمَكِّنْ لَهُم حَرَمًا آمِنًا يُجبى إِلَيهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيءٍ رِزقًا مِن لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكثَرَهُمْ لَا يَعلَمُونَ * وَكَم أَهلَكنَا مِن قَريَةٍ بَطِرَت مَعِيشَتَهَا فَتِلكَ مَسَاكِنُهُم لم تُسكَنْ مِن بَعدِهِم إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحنُ الوَارِثِينَ . وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهلِكَ القُرَى حَتَّى يَبعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتلُو عَلَيهِم آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهلِكِي القُرَى إِلَّا وَأَهلُهَا ظَالِمُونَ) [القصص: 57- 59].

الخطبة الثانية:

أَمَّا بَعدُ، فَاتَّقُوا اللهَ - تَعَالى - وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مَخرَجًا) [الطلاق: 3]، (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجعَلْ لَهُ مِن أَمرِهِ يُسرًا)[الطلاق: 4] (وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعظِمْ لَهُ أَجرًا) [الطلاق: 5].

الأَمنُ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - لا يَكُونُ إِلاَّ مَعَ الإِيمَانِ بِاللهِ، وَالإِخلاصِ لَهُ وَنَبذِ مَا سِوَاهُ، وَالتَّوَجُّهِ إِلَيهِ وَحدَهُ بِصِدقٍ وَاستِسلامِ، وَاتِّبَاعِ نَبِيِّهِ وَاقتِفَاءِ هَديِهِ، وَالوُقُوفِ عِندَ النِّعَمِ بِشُكرِ المُنعِمِ شُكرًا حَقِيقِيًّا، يَتَّفِقُ فِيهِ اعتِرَافُ القَلبِ مَعَ قَولِ اللِّسَانِ وَعَمَلِ الجَوَارِحِ، وَإِلاَّ فَلَيسِ دُونَ الشُّكرِ إِلاَّ الكُفرُ، وَمِن ثَمَّ انفِلاتُ الأَمنِ وَحُلُولُ الجُوعِ وَالخَوفِ، وَسُنَنُ اللهِ في خَلقِهِ مَاضِيَةٌ لا تَتَحَوَّلُ وَلا تَتَبَدَّلُ (وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَريَةً كَانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتِيهَا رِزقُهَا رَغَدًا مِن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الجُوعِ وَالخَوفِ بما كَانُوا يَصنَعُونَ * وَلَقَد جَاءَهُم رَسُولٌ مِنهُم فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذَابُ وَهُم ظَالِمُونَ . فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ حَلَالاً طَيِّبًا وَاشكُرُوا نِعمَةَ اللهِ إِن كُنتُم إِيَّاهُ تَعبُدُونَ) [النحل: 113- 114].

وَإِذَا كَانَ ثَمَّةَ شَرَاذِمُ مِمَّن نَبَذُوا مَنهَجَ التَّوَسُّطِ وَالاعتِدَالِ، وَغَلَوا وَتَجَاوَزُوا وخَرَجُوا عَلَى الأَئِمَّةِ، وَنَابَذُوا وُلاةَ الأُمُورِ وَوَجَّهُوا أَسلِحَتَهُم لِرِجَالِ الأَمنِ في بِلادِهِم، وَأَرخَصُوا النُّفُوسَ المَعصُومَةَ وَسَفَكُوا الدَّمَ الحَرَامَ في الشَّهرِ الحَرَامِ، فَإِنَّ مِن وَرَائِهِم آخَرِينَ يَعبَثُونَ بِالأَمنِ وَيُزَعزِعُونَ الاستِقرَارَ، وَيُسَاهِمُونَ في هَدَمِ البِنَاءِ وَتَعكِيرِ الصَّفوِ، مِن رَافِضَةٍ بَاطِنِيِّينَ مُشرِكِينَ، أَجسَادُهُم في هَذَا البَلَدِ تُنَمَّى بِخَيرَاتِهِ، وَقُلُوبُهُم في بُلدَانٍ أُخرَى تَرتَضِعُ مِنهَا الكُفرَ وَالإِلحَادَ وَحُبَّ الإِفسَادِ، وَثَمَّةَ مُنَافِقُونَ مَرَدُوا عَلَى التَّلَوُّنِ وَالنِّفَاقِ، وَأَذنَابٌ لَهُمُ اتَّخَذُوا دِينَهُم هُزُوًا وَغَرَّتهُمُ الحَيَاةُ الدُّنيَا، وَدُونَ أُولَئِكَ كُلُّ مَن أَتَى مُنكَرًا مِنَ القَولِ وَزُورًا، أَو سَلَكَ ظُلمًا أَو غَشِيَ فُجُورًا، أَو تَنَاوَلَ الرِّشوَةَ وَأَكَلَ الرِّبَا، أَو أَشَاعَ الفَاحِشَةَ وَدَعَا إِلى الزِّنَا، أَو قَصَّرَ في حَقٍّ للهِ وَجَاهَرَ، أَو ظَلَمَ عِبَادَهُ وَتَكَبَّرَ وَفَاخَرَ.

 فَاتَّقُوا اللهَ - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - وَاحمَدُوهُ عَلَى مَا مَنَّ بِهِ عَلَى هَذَا البَلَدِ مِن تَطبِيقِ الشَّرِيعَةِ وَالمُحَافَظَةِ عَلَى مَقَاصِدِهَا وَإِقَامَةِ حُدُودِهَا، وَالتِزَامِ نَهجِ سَلَفِهَا الصَّالِحِ، وَالأَمرِ بِالمَعرُوفِ وَالنَّهيِ عَنِ المُنكرِ وَالدَّعوَةِ إِلى سَبِيلِ اللهِ بِالحِكمَةِ، وَالزَمُوا السَّمعَ وَالطَّاعَةَ لِوُلاةِ الأَمرِ في غَيرِ مَعصِيَةِ اللهِ، فَعَن عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - قَالَ : دَعَانَا النَّبيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فَبَايَعنَاهُ، فَقَالَ فِيمَا أَخَذَ عَلَينَا : " أَن بَايَعَنَا عَلَى السَّمعِ وَالطَّاعَةِ في مَنشَطِنَا وَمَكرَهِنَا، وَعُسرِنَا وَيُسرِنَا، وَأَثَرَةٍ عَلَينَا، وَأَلاَّ نُنَازِعَ الأَمرَ أَهلَهُ، إِلاَّ أَن تَرَوا كُفرًا بَوَاحًا عِندَكُم مِنَ اللهِ فِيهِ بُرهَانٌ " (مُتَّفَقٌ عَلَيهِ).

وَعَن وَائِلِ بنِ حُجرٍ - رَضِيَ اللهُ عَنهُ - : قَالَ : سَأَلَ سَلَمَةُ بنُ يَزِيدَ الجُعْفِيُّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ : يَا نَبيَّ اللهِ، أَرَأَيتَ إِنْ قَامَت عَلَينَا أُمَرَاءُ يَسأَلُونَا حَقَّهُم وَيَمنَعُونَا حَقَّنَا، فَمَا تَأمُرُنَا ؟ قَالَ : " اِسمَعُوا وَأَطِيعُوا، فَإِنَّمَا عَلَيهِم مَا حُمِّلُوا وَعَلَيكُم مَا حُمِّلتُم " (رَوَاهُ مُسلِمٌ).

نَعَم - أَيُّهَا المُسلِمُونَ - اِلزَمُوا الطَّاعَةَ، وَلا تَظُنُّوا أَنَّ ذَلِكَ مَانِعٌ لَكُم مِن حَقِّ النَّصِيحَةِ وَلا المُطَالَبَةِ بِالحُقُوقِ، وَلَكِنَّ الإخلاصَ وَاجِبٌ وَالأَدَبَ مَطلُوبٌ، وَاجتِمَاعَ الكَلِمَةِ مَقصِدٌ وَلُزُومَ الجَمَاعَةِ دِينٌ وَعَقِيدَةٌ، وَالاختِلافَ ضَعفٌ والافتِرَاقَ شَرٌّ، وَنَشرَ الشَّائِعَاتِ وَتَروِيجَ الأَكاذِيبِ وَالأَرَاجِيفِ، وَقَلبَ الحَقَائِقِ وَالتَّهوِيلَ لِلوَقَائِعِ، وَتَصَيُّدَ الأَخطَاءِ وَتَلَمُّسَ الهَفَوَاتِ، لَيسَ مِن شَأنِ العُقَلاءِ المُخلِصِينَ، وَالمُسلِمُ النَّاصِحُ المُخلِصُ، لا تَرَاهُ إِلاَّ مُشتَغِلاً بِخَاصَّةِ نَفسِهِ وَمَا يَعنِيهِ، حَرِيصًا عَلَى مَا يَنفَعُهُ أَو يَنفَعُ أُمَّتَهُ وَمُجتَمَعَهُ، قَالَ - عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ : " ثلاثٌ لا يُغِلُّ عَلَيهِنَّ قَلبُ امرِئٍ مُسلِمٍ : إِخلاصُ العَمَلِ للهِ، وَالنُّصحُ لأَئِمَّةِ المُسلِمِينَ، وَاللُّزُومُ لِجَمَاعَتِهِم " (رَوَاهُ ابنُ مَاجَهْ وَغَيرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ).