البحث

عبارات مقترحة:

المنان

المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...

السلام

كلمة (السلام) في اللغة مصدر من الفعل (سَلِمَ يَسْلَمُ) وهي...

العظيم

كلمة (عظيم) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وتعني اتصاف الشيء...

تأملات في سورة الفتح

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. ملابسات نزول السورة .
  2. فضح المنافقين .
  3. بيعة الرضوان .
  4. صلح الحديبية .
  5. التبشير بالنصر والمغفرة .
  6. مشابهة أحوال المسلمين اليوم لأحوالهم وقت نزول السورة .

اقتباس

ننظر إلى ما حدث كما كشفته الأيام، وكما نبأت به سورة الفتح، لقد بدأت سورة الفتح فقالت للمسلمين: الشروط التي ضقتم بها، المعاهدة التي كرهتموها ينطق عليها قول الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة:216]، إن هذه المعاهدة فتح مبين!! فتح مبين، كيف تكون فتحا؟.

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمدا رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: فنستعين الله في هذه الخطبة ونتحدث عن سورة الفتح. والحديث عن هذه السورة يرجع بنا قليلا إلى أحداث سبقتها، فإن المسلمين في السنة الخامسة من الهجرة تعرضوا لهجوم الأحزاب على المدينة، كان هذا الهجوم كابوسا رهيبا زلزل المجتمع الإسلامي، وترك المسلمين داخله يترنحون تحت وطأة حصار غامت نتائجه، وصحبته متاعب شتى؛ فلما حلت نعمة الله بالمسلمين، وانفضت جموع الأحزاب عن المدينة بقدرة الله وحده، قال -صلى الله عليه وسلم- معلقا على ما حدث: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"، والمعنى: أن الوثنية في جزيرة العرب ومعها اليهودية فشلتا في دك المجتمع الإسلامي، وخلع جذور التوحيد من تربته، وبعد هذا الاحتشاد الذي أعدوا له، واستماتوا فيه، ثم تبدد أمره، وانتهى بالبوار كيده، بعد هذا نستطع -نحن المسلمين- أن نمسك بطرف المبادءة، وأن نتحرك نحن لنؤدب غرنا، لا لنتلقى الضربات منه: "الآن نغزوهم ولا يغزوننا"، وبعد أن انفض الجمع من حول المدينة، وأدب المسلمون "بنى قريظة" تأديبا أوقع الفزع في قلوب الخونة، مصداقَ قولِه جل شأنه (فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ) [الأنفال:57].

والواقع أن ناسا من أهل الكتاب حاولوا قديما، ويحاولون حديثا، أن يطعنوا الإسلام في ظهره، وأن يخونوا الأمة التي لم تسيء إليهم، ولم تسلف شرا إلى أحدهم، وحاولت أن تعيش معهم في وئام، ولكنهم لطموا اليد الممدودة، وأصروا على الخصام، فكان ما كان.

وجاءت السَّنة السادسة من الهجرة والمسلمون باقون على دعوتهم، ماضون في طريقهم، ماذا يريدون؟ ماذا يجعل الناس ضائقين بالإسلام؟ لم لا يكون الإسلام وجهة نظر لأصحابها، يتركهم الناس بها دون غدر، ودون مقاومة خبيثة؟ إن المسلمين يقولون: إن الله واحد، وإن هذا الإله الواحد جدير بكل صفات الكمال، منزه عن كل صفات النقص، هل هذه جريمة يعتبر أصحابها أهلا لمخاصمة الناس؟ ويقول المسلمون: إن من حق كل امرئ أن يعرف هذا الإله الواحد، وأن يعبده دون وساطة كاهن، ولا شفاعة أحد من أهل الأرض أو السماء، فهل هذه جريمة؟ ورأى بعض الناس أن الله اثنان، وقال القرآن ردا على هؤلاء: (وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل:51]، خافوني أنا وحدي. ورأى البعض أن الله ثلاثة، وأن الوالد قتل الولد افتداء لخطايا الخلق. وقال المسلمون: يا عجبا! كيف يكون القاتل والمقتول شخصا واحدا؟ إن القاتل غير المقتول بداهة وان الإله واحد، ولا يمكن أن ينشق عنه من يقتله، هل فكر الإسلام في أن يُدخل هذه الأفكار في أدمغة الناس بالعنف؟ لا، انه يقول: (اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ) [الشورى:47]، هذه وظيفتك، ماذا في الإسلام بعد هذا يضايق الخلق؟ لكن الذي حدث أن السنة السادسة بعد الهجرة جاءت، والمسلمون متشبثون بإيمانهم، مستمرون على طريقتهم، يدعون الناس بالحسنى إلى مبادئهم، فمن أجاب فهو أخوهم، ومن رفض تركوه مادام يتركهم لا يخونهم ولا يعتدي عليهم.

وحاول المسلمون في السنة السادسة أن يتحركوا في المجتمع العربي، في أي إطار يتحركون؟ في إطار أنهم قبيلة من القبائل العربية، جنس من أجناس الناس، حزب من الأحزاب يريد أن يحيا كما يحيا غيره من الخلق، ولهذا فإن النبي -صلى الله عليه وسلم- أعلن أنه سائرٌ إلى مكة ليؤدى عمرة، ومعنى العمرة: أنه سيطوف بالبيت العتيق -تحية له-، وأنه سيسعى بين الصفا والمروة، ويتحلل من عمرته، ويعود إلى مدينته، ولا شيء أكثر من هذا، وأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- من استمع إليه في المدينة: "أنه رأى في منامه أنهم يدخلون المسجد الحرام ويطوفون به!" فخرج المسلمون من مدينتهم مولين وجوههم شطر مكة يريدون أن يؤدوا العمرة، وقد ساقوا أمامهم "الهدْي"، هذا الهدي سيذبح لفقراء مكة يأكلون منه ويتمتعون به، فأي حرج؟ ومضت قافلة العمرة في طريقها إلى البيت الحرام، وحدث أن فوجئت مكة بالمسلمين وهم قادمون لأداء النسك والتقرب إلى الله بالعمرة، فاستقر قرارهم على أن يمنعوا المسلمين، وكان المسلمون قد استعدوا للعمرة، ثم هم ليسوا بضعاف حتى يُمنعوا، ولِمَ يعتبرون خارجين على القانون؟ ولم يعتبرون صنفا من الخلق يعامل على غير ما تقضي به القواعد المقررة في جزيرة العرب؟ إن هذا البيت الحرام يستوي فيه الطارئ عليه والمقيم عنده، جاره والغريب سواء، وهو للكل وليس لواحد من المسلمين، أو لجماعة من الناس، أيا كان لونها؛ فلم يصد الناس عنه؟ ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- لما رأى قريشا قررت منعه أراد أن تحل العقدة بالمفاوضات، وجعله يلجأ إلى هذا الحل أنه وهو على ناقته متجه إلى مكة حدث أن توقفت الناقة وقيدت في مكانها، فقال الناس: خلأت القصواء، خلأت القصواء. فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما خلأت القصواء، وما ذاك لها بخلق، ولكن حبسها حابس الفيل"، وحابس الفيل هو الله جل شأنه، والفيل رمز لزحف الحبشة على مكة يريدون تدمير الكعبة فيها، ولكن الله -جل شأنه- دمر الجيش الزاحف، وقضى على الفيلة التي كانت تحمل الجند، وانتهى الأمر.

ثم قال -عليه الصلاة والسلام- بعد قوله: "حبسها حابس الفيل": "والذي نفسي بيده، لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله إلا أعطيتهم أياها". وهنا بدأت مفاوضات عسيرة شاقة، تذهب الوفود وتجيء دون أن تصل إلى نتيجة، وأخيرا، وبعد أخْذٍ ورَدٍّ، انتهت المفاوضات إلى ما يأتى: أربعة شروط قبلها النبى -صلى الله عليه وسلم- وهى شروط عندما نستمع إليها تأخذنا الدهشة لما احتوت عليه.

أول الشروط: أن يعود المسلمون هذه السنة دون أن يدخلوا مكة معتمرين، ويجيئون السنة المقبلة ليؤدوا العمرة قضاء؛ أما هذه السنة فلا يدخلون مكة.

الشرط الثاني: من كان يريد من مسلمي المدينة أن يرتد ويلحق بكفار مكة فلا يحجر عليه ولا يمنع من اللحاق بمكة، أما الذي يسلم من أهل مكة ويريد أن يلحق بإخوانه في المدينة فلا يجوز أن يستقبله أهل المدينة بالترحاب بل يردوه.

الشرط الثالث: من أراد أن يدخل في حلف محمد دخل، ومن أراد أن يدخل في حلف قريش دخل.

الشرط الرابع: تبقى هذه المعاهدة عشر سنين.

وعندما بدأت الكتابة وجاء مندوب قريش وأخذ النبي -صلى الله عليه وسلم- يملى: "هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله" رفض مندوب مكة وقال: لا تكتب كلمة رسول الله، ما نقر أنك رسول، محمد فقط، وكان الذي يتولى الكتابة على بن أبى طالب فأبى أن يشطب، ولكن النبي -صلى الله عليه وسلم- شطب بيده لقب الرسالة.

وبدأت المعاهدة: بسم الله الرحمن الرحيم، فقال مندوب قريش: لا نعرف الرحمن الرحيم اشطب، وقبل النبي عليه الصلاة والسلام، فلما فوجيء المسلمون بهذه النصوص خيم عليهم الصمت، وأخذ شيء من الأسف والوجوم يشيع بينهم، لقد تغيرت مشاعرهم النفسية، خرجوا من المدينة وأملهم كبير في أن يعتمروا، لكنهم صدموا، ثم ما تضمنته الشروط من أن المسلم من أهل مكة يمنع من اللحاق بإخوته في المدينة بينما يمكن من ارتد من المدينة أن يذهب إلى مكة، هذا شرط فيه إذلال، وتحرك عمر في غضب يقول لأبى بكر: "لم نعطى الدنية في ديننا؟" ولكن أبا بكر يقول له: "إنه لرسول الله وليس يعصي ربه، فاستمسك بغرزه، فو الله إنه على الحق".

هذه هي الملابسات التي نزلت في أحوالها وأفعالها وأجوائها سورة الفتح، نزلت سورة الفتح لتشرح مواقف، ولتفسر مواقف، ولتنبئ بمستقبل، ولتحسم الأمور فيما اشتبه على الناس من هذه القضايا كلها، أول ما حسمته سورة الفتح من مواقف أنها فضحت النفاق، فعندما خرج المسلمون ينوون العمرة من المدينة تحركت الريبة في قلوب ضعاف الإيمان أو أدعياء الإيمان من المنافقين، ورفضوا أن يخرجوا وقالوا: سيخرج ولن يعود، إن هؤلاء الذين يريدون العمرة ستضربهم قريش ضربة تبدد جموعهم، وتفض حشودهم، وتنهى حاضرهم ومستقبلهم، هذا ما وقر في نفوسهم، والمنافقون ناس أصحاب فرص، يتحركون إن وجدوا نفعا، ويفرون إن وجدوا خطرا، ويعتذرون عندما تجئ الأمور على غير ما يتخيلون؛ ولذلك فإن السورة تحدثت عنهم في قوله تعالى: (سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ) بعد عودتك إليهم (شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا) [الفتح:11]، هو خبير بما في نفوسكم، بكشف ما في نفوسكم؟ نكشفه: (بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا * وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا) [الفتح:12-13]، لكن ما هو الموقف مع هؤلاء مستقبلا؟ لقد كُشف ماضيهم، فما هو الموقف منهم بعد؟ (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ)! إن المنافقين عندما كانوا متوجسين من مستقبل المعركة اعتذروا وفروا، لكن عندما يعلمون أن معركة ما مضمونة يريدون أن ينضموا إلى جيشها المؤمن كى يحرزوا ما يرتقبون من مغانم، لكن لا، يجب أن ينتبه المسلمون إلى هذا وأن يمنعوا أولئك من أن ينضموا إليهم أو يختلطوا بهم (سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا) [الفتح:15].

قيل للمنافقين: إن أردتم توبة فأخلصوا نفوسكم لله، ومحضوا نياتكم لله، وتحملوا التضحيات في سبيل الله، ولا تكونوا أصحاب مطامع كلما لاح برقها تحركتم، وكلما خمدت ريحها هبطتم، (قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا) [الفتح:16].

هذا موقف فضح للمنافقين، هناك موقف حُمِدَ وأُثنى على أصحابه وهو موقف المؤمنين، فإنهم في أثناء المفاوضات كان عثمان بن عفان -رضي الله عنه- قد ذهب إلى مكة في محاولة لإقناع رؤسائها أن يتركوا المسلمين يحجون البيت –أي: الحجة الصغرى، يعنى يعتمرون- وعثمان كان رجلا محبوبا إلى الناس، وكان رقيقا نبيل الشمائل، فعرض عليه أهل مكة أن يعتمر هو، فرفض وقال: لا أعتمر قبل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- والمسلمين، ومكثت المفاوضات مدة، وانطلقت إشاعة أن عثمان قُتل، فلما بلغ الأمر المسلمين قرروا أن يقاتلوا حتى الموت، وبايعهم النبي -صلى الله عليه وسلم- على هذا، ونزلت الآية: (إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [الفتح:10]، وذلك لأن النبى -صلى الله عليه وسلم- لا يبايع على منفعة خاصة، أو مجد شخصي، إنما يبايع كي يُعبد الله في الأرض عبادة صحيحة، فإن العبادات المزورة ملأت القارات والكهانة الكاذبة، زورت العقائد هنا وهناك، فكانت البيعة لله، ولذلك كان الذي يغدر بها أو يخون إنما يغدر برب العالمين ويخونه، وتكرر الثناء على أهل البيعة وإعلان الرضوان الإلهي عليهم في قوله -جل شأنه-: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ) أى ظهر علمه (فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:18-19].

هذه مواقف لطرفين متناقضين، موقف المنافقين وقد كُشف، وموقف المؤمنين من أهل الفداء والنجدة والتضحية وقد كُشف، لكن الأمور تحتاج إلى تفسير، كيف ينطلق هذا العدد -نحو ألف وأربعمائة- ليعتمروا فيردوا دون قصدهم بسهولة على هذا النحو؟ أهو ضعف من المؤمنين؟ أهو ضعف من ناصر المؤمنين؟ لا يمكن، ومسحا ومحقا لهذه الشبهة تكرر في السورة معنى في عدة آيات، هذا المعنى أن قُوى الأرض والسماء بين إصبعين من أصابع الرحمن، يقول جل شأنه: (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا) [الفتح:4].

كيف يغلب الله وكل شيء ملكه، وكل شيء جنده؟ كيف يغلب؟ ويتأكد هذا المعنى ويتكرر في قوله: (وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا) [الفتح:4]، ثم يؤكد هذا المعنى مرة أخرى فيقول في نفس السورة: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) [الفتح:22]، لو حدثت معركة لولَّى المشركون، لماذا؟ هذا هو السؤال، ولم لم تحدث وتتم الهزيمة عليهم؟ توضح السورة هذه المعافى فتقول: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا * سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الفتح:22-23]، إن هزيمة الباطل أمام الحق لابد منها، ولن تتبدل سنن الله أبدا في نهاية كل صراع بين الحق والباطل، لكن لِم لَم تقع الهزيمة للمشركين؟ يقول الله: إنهم كانوا أهلا لأن تقع بهم الهزيمة، لكن هناك سبب، لماذا كانوا أهلا للهزيمة: (إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا) [الفتح:26]، وقبل ذلك يبين سبحانه وتعالى لِم لَم تحدث معركة، يقول: إنه كان في مكة ناس مؤمنون أخفياء، ناس مؤمنون لا تعرفونهم، كانوا يكتمون إيمانهم، ولو حدث أن وقعت معركة واستُبيحت مكة وكان انتصار المؤمنين مؤكدا في هذه المعركة، لو حدث هذا لقتل كثير من المؤمنين: (لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ) [الفتح:25]، هذا المعنى -معنى أن هناك ناسا من أهل الإيمان أراد الله أن يصون دماءهم، وأن يمنع عدوان إخوانهم عليهم وهم لا يدرون- هذا المعنى هو الذي جعل المعركة تتوقف، وعالم الغيب سبحانه هو الذي رسم الخطة على هذا النحو. لكن، هل كانت هذه الخطة مفيدة للإيمان ولأهل الإيمان؟.

والجواب: ننظر إلى ما حدث كما كشفته الأيام، وكما نبأت به سورة الفتح، لقد بدأت سورة الفتح فقالت للمسلمين: الشروط التي ضقتم بها، المعاهدة التي كرهتموها ينطق عليها قول الله تعالى: (وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ) [البقرة:216]، إن هذه المعاهدة فتح مبين!! فتح مبين، كيف تكون فتحا؟.

والجواب: المستقبل كشف عن أن المعاهدة كانت فتحا، فإن المعاهدة ما كادت تمضى عليها سنة وسنتان حتى كان الذين يدخلون في الإسلام أضعاف من دخل فيه منذ بدأت دعوة الإسلام إلى أن وقعت قصة الحديبية أو نزلت سورة الفتح، بدليل أن الذين اعتمروا مع النبى -صلى الله عليه وسلم- كانوا ألفا وأربعمائة، فلما جاء فتح مكة في السنة الثامنة -أي بعد سنتين من المعاهدة- كان الذين يشتركون في الفتح عشرة آلاف! كيف تضاعف العدد؟ والجواب: إن الناس تربصوا حين قرؤوا المعاهدة، وكانت نفوس كثيرة تشعر بأن الإسلام حق، تشعر بأن التوحيد أفضل من الشرك، تشعر بأن منطق العقيدة كما يعرضه محمد -صلى الله عليه وسلم- في قرآنه هو أفضل منطق يعرض به دين الله منذ نزل آدم إلى الأرض إلى أن يلقى الناس ربهم! لأنه منطق واضح، ليس هناك أسهل ولا أعقل ولا أفضل من العقيدة، كما يشرحها القرآن الكريم!.

الله واحد، لا تناقضات ولا خرافات ولا أوهام، نحن جميعا عبيده، الرسل كلهم أخوة، المؤمنون جميعا يمثلون حزبا واحدا، البشر أخوة، أي شيء في هذا؟ فبدأ الناس يدخلون في دين الله أفواجا، دخلوا بكثرة فكان ذلك كسبا؛ لأن الإسلام بمعاهدة الحديبية اعتُرف به اعترافا قانونيا في المجتمع بعد أن كان أهله ينظر إليهم على أنهم خارجون على القانون، أو مبعدون عن المجتمع، شيء آخر، فسر النبي-صلى الله عليه وسلم- سماحه بأن من يترك المدينة مرتدا يخرج، بأن من تركنا لا حاجة لنا به، ما نستبقى بيننا من ترك ديننا، فليذهب إلى حيث ألقت، أما من ترك مكة موحِّدا واكرهه أهل مكة على أن لا يلجأ إلينا فثقوا أن الله جاعل له مخرجا وفرجا، وفعلا فإن عشرات من المؤمنين الذين لفت النظر إليهم وأن الله أخر المعركة، ومنع الفتح في السنة السادسة بسببهم.

كثير من هؤلاء خرجوا واحتلوا مكانا على الشاطئ ضربوا به تجارة قريش ضربة قاصمة، فذهبت قريش إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- في المدينة تقول له: تنازلنا عن هذا الشرط، من ترك مكة مؤمنا بك وبرسالتك نرجوك، اقبله عندك! اقبله عندك! لكن يبقى الحديث عن المستقبل، الحديث عن المستقبل نزلت السورة تقول للمؤمنين: اطمئنوا لقد سمعتم من نبيكم أنكم داخلون المسجد الحرام، ثقوا أنكم داخلون المسجد الحرام، وما هي إلا سنة حتى دخلوا في عمرة القضاء، وما هي إلا سنة حتى دخلوا مكة وكسروا رأس الشرك فيها: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آَمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) [الفتح:27]،النصر لابد منه، وهو شيء تحقق للمسلمين.

ثم بينت السورة أن الإسلام سيكون مصير البشرية! إن البشرية التي تقدمت عقليا سوف تجيئها أيام تشعر فيها بأن الإلحاد ظلمة، وأن الزعم بأن الناس ركبوا هكذا أجهزة مادية ومعنوية في منتهى الذكاء، والأداء الجيد، وفى منتهى الضبط، إن تصور أن الإنسان خلق هكذا، التراب خلقه هكذا عقلا عبقريا ومواهب ومشاعر في منتهى الدقة والجودة، إن التصور أن التراب فعل هذا جنون، إن الإلحاد صائر إلى ضياع وإلى انتهاء، أما الإيمان فإن الناس سوف يبحثون، وسوف يقارنون، وسوف يقول كل امرئ لنفسه: ترى من خلق هذا الكون؟ من خلق هذا الإنسان؟ أهو واحد أحد، فرد صمد،لم يلد ولو يولد، ولم يكن له كفوا أحد؟ أم هو إله يشتغل، ويتعب، ويعمل ويندم، ويلام، ويهزم، كما تقول بعض الكتب؟ إن مصير الإنسانية إلى أن الله الواحد -كما شرح الإسلام وبين- هو الذي ينبغي أن يعبد، ولذلك قالت سورة الفتح: (هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا) [الفتح:28].

و بدأت السورة تبشر بالفتح، وتبشر بمغفرة الله، ومغفرة الله -جل شأنه- هي الجائزة الكبرى التي يتطلع إليها الأنبياء، ويتطلع إليها المؤمنون والمؤمنات، وقد بدأت السورة فبشرت النبي -صلى الله عليه وسلم- وجماعة المؤمنين معه أن الله غافر لهم ما تقدم من ذنبهم وما تأخر: (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا) [الفتح:1-2]، قال العلماء: إن مراتب الناس تختلف، هناك من يتورع عن المحرمات والمعاصي، هؤلاء عوام المؤمنين، هناك من يتورع عن الشبهات والريب، هؤلاء أعلى درجة من أولئك، هناك من يترك بعض الحلال المحض لأنه قد يكون قريبا من حرام محض؛ فلكي يحصن يقينه، ويحمى إيمانه، يبتعد عن الحلال، فهذا أعلى درجة من الصنفين السابقين، وهناك من ترتبط بصيرته بالله، ويتجه في حياته ومشاعره إلى الله، فهو -كما قيل-:

وَلَوْ خَطَرَتْ لِي فِي سِوَاكَ إِرَادَةٌ

عَلَى خَاطِرِي سَهْوَاً قَضَيْتُ بِرِدَّتِي

هذا نوع آخر من الخلق أرقى، ولكل من هؤلاء على قدر درجته هفوات، وهفوات الجنس الأعلى تعتبر كمالات للجنس الأدنى، وهذا معنى مغفرة الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله الملك الحق المبين. وأشهد أن محمدا رسول الله إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

عباد الله: أوصيكم ونفسى بتقوى الله عز وجل، لقد اخترت أن أفسر سورة الفتح لأن هناك مشابه بين المؤمنين قديما -في أحوالهم وفيما يحيطهم من منافقين وكافرين- وبين المؤمنين في هذا العصر. والواقع أن العالم العربي والإسلامي تتنازعه الآن ثلاث قوى رئيسية، قوة ترفض الإسلام علنا، وتستميت في أن تحكم الأمة العربية والإسلامية حكما علمانيا كما يقولون؛ وقوة أخرى تريد أن تعود بالمسلمين إلى ماضيهم الأول، وكتابهم الكريم، وسنتهم المطهرة، لا تنزل عن آية من الآيات، ولا تترخص في حديث من الأحاديث؛ وهناك قوة ثالثة لا تزيد أن تكون من هؤلاء ولا من أولئك، تريد أن تنتسب إلى الإسلام، ولكنها تريد أن تتخير من أحكامه أحكاما تنفذها، وأحكاما تتركها، عبادات تقوم بها، وعبادات تنأى عنها.

والصراع قائم بين القوى الثلاث، وألفت النظر إلى أن القوة الأولى لو نجحت، وتحول العالم العربي والإسلامي إلى الإلحاد والمادية، فمعنى ذلك أنه انتحر وأهيل التراب على جثمانه، وانتهى تاريخه؛ أما القوة الثالثة التي تريد أن تأخذ بعضا من الإيمان وتترك بعضا، وتنتسب إليه انتسابا ولكنها لا توفى له الوفاء الواجب، فسوف تؤخر الأمة الإسلامية عن بلوغ أهدافها، وعن غسل العار الذي نزل بها، ولن تنجو أمتنا أو تنجح إلا يوم تكون أزِمَّتها في يد المؤمنين الذين يريدون الإسلام كله شكلا وموضوعا، وعنوانا وحقيقة.

"اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].