البحث

عبارات مقترحة:

الخبير

كلمةُ (الخبير) في اللغةِ صفة مشبَّهة، مشتقة من الفعل (خبَرَ)،...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

في موكب الحج

العربية

المؤلف محمد الغزالي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحج - الحكمة وتعليل أفعال الله
عناصر الخطبة
  1. تكريم الله للعرب .
  2. من حِكم الطواف .
  3. من حكم السعي .
  4. مشهد الوقوف بعرفة .
  5. سنُّ النبي الكريم للقادة إرشاد المسلمين وتوجيههم في الحج .

اقتباس

فأين هذا المعنى من حَج المسلمين الآن؟ إن الحج أصبح شبحا، وأصبح شيئا أقرب إلى الصورية منه إلى دعم تعاليم الإسلام، وحراسة الدولة، ورفع راية الحق، وتحديد المواقف مع من يعبثون بهذا الدين، ويبيِّتون لأمته الضياع ..

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وأشهد أن محمداً رسول الله، الرحمة المهداة، والنعمة المسداة، والسراج المنير. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

أما بعد: ففي قمة الصالحات التي يقوم المسلمون بها في عشر ذي الحجة أداء مناسك الحج. إن هذه المناسك مشهد ضخم، وميدان رحب للعباد الذين جاؤوا من كل فج عميق يرضون ربهم، يرجون رحمته، ويخافون عذابه.

يمكن أن يقال: إن مئات الألوف التي ربما بلغت مليونين من الأنفس، ربما يقال إن هذه الحشود المتكاتفة يمكن أن تكون مظاهرة متلاطمة الأمواج، الهتاف فيها ليس لبشر، إنما الهتاف فيها لرب الأرض والسماء، لا يملأ أذنيك إلا طنين ضخم من كل ناحية بين تلبية وتكبير وتقديس وتمجيد، الحناجر تنشق بالهتاف لله وحده طلبا لرضاه، وانتظارا لجداه، ورغبة في ثوابه، ورهبة من عقابه. (ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ) [الحج:30-32].

ناس جاؤوا من حول البحر الأبيض والأسود والأحمر، من شطآن المحيط الأطلسي والهندي والهادي، من أعماق القارات الخمس، من كل شبر يسطع عليه نور الشمس، أو تحل فيه هدأة الليل، وقد تنبأ نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- إلى أن دينه سوف ينتشر مع انتشار الظل والضوء على ظهر الأرض؛ وصدقت النبوءة.

جاؤوا من كل مكان، كلما صعدوا ربوة لبوا أو كبروا، وكلما هبطوا واديا لبوا أو كبروا، وكلما لاقوا فوجا لبوا أو كبروا، وكلما لقي بعضهم بعضا لبى وكبر. هناك معارض زراعية أو صناعية أو تجارية يجيئها الرواد تشد عيونهم السلع المعروضة التي يهتمون بها، لكن المعرض المقام الآن في الأماكن المقدسة ليس لشىء من الدنيا. إن كل شىء يدفع إلى الهتاف لله تكبيرا وتمجيدا، وتلبية تتجاوب أصداؤها في كل مكان.

نريد أن نتساءل: أصحيح ما يقال من أن أعمال الحج أعمال مبهمة أو غامضة؟ وأن الله -جل شأنه- اختبر الناس بما يعقلون فسمعوا وأطاعوا، فاختبرهم بما لا يعقلون حتى يتبين له كيف يسمعون وكيف يطيعون؟! والجواب: هذا كلام بعيد عن الصحة، والواقع أن لأعمال الحج حكما عرفها من عرفها، وجهلها من جهلها.

إن لأعمال الحج حكما ينبغي أن تدرس بأناة، وأن تعرف حقائقها حتى يدرك الناس أن الإسلام ليس دين أوهام، أو أضغاث أحلام، هذا دينٌ كل شيء فيه له حكمته، وله معناه.

الطواف بالبيت، وهو ركن من أركان الحج، ما سببه؟ سببه واضح، هناك أربع نقط نذكرها في هذا المجال:

النقطة الأولى: هذا البيت أول بيت وضع للناس متعبَّدا في أعماق القارات كلها، لم يبن قبله بيت للعبادة، فمن حق أول بيت أقيم ليكون قلعة للتوحيد، ومثابة للموحدين، وملتقى للمؤمنين المخلصين، من حق البيت الأول على ظهر الأرض أن تكون له مكانة خاصة: (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ) [آل عمران:96].

إن مسجدنا هذا شُرِّف، وحددت معالمه، ووضعت دعائمه، وعرفت حدوده وأركانه، منذ قام إبراهيم وإسماعيل بالبناء، و إلى الآن البيت زاده الله تشريفا وتكريما، يجيئه الرواد من كل أفق، والحجاج من كل فج، يطيرون إليه كما تطير الحمائم إلى أوكارها، في أفئدتهم حنين، وفى قلوبهم مشاعر ملتاعة.

النقطة الثانية: أن المسلمين في المشارق والمغارب، في الشمال والجنوب، يولون وجوههم شطر هذا المسجد في كل صلاة تقام في القارات كلها، ومن حق الذين اتخذوا المسجد قبلة لهم أن يبعثوا كل عام منهم الوفد المستطيع لكي يرى قبلته، كي يحج إليها ويزورها.

وأعرف أن أستاذا يحمل الدكتوراه في الهندسة، كان عضوا في مكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين، وضع كتابا بين فيه أن مكة في وسط المعمور من أرض الله، وأثبت هذا بجملة معادلات جبرية وجغرافية، وما ألفه علميا في هذا الموضوع متداول الآن بين الناس.

كأن أم القرى أم حقيقة، وكأن المصلين حول الكعبة دائرة محدودة، لكن هذه الدائرة تنداح وتتسع، ولا تزال تنداح وتتسع حتى تشمل الأرض كلها وهى تتجه في صلواتها لله رب العالمين، تجمعها قبلة، وما يعبد المسلمون قبلة، ولا يعرفون أن هناك حجرا له كرامة، إن كل حجر في الكعبة لا يضر ولا ينفع، وليس البر في التمسك بجهة من الجهات، ولكن هذا تنظيم وضعه الله ليوحد بين الوجوه والقلوب والصفوف، ولا يسمح للشيطان أن يمزق الناس إلى وجهات شتى: (لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [البقرة:177].

النقطة الثالثة: أن هذه الأمة الإسلامية إنما ولدت في التاريخ إثر دعوة صالحة مستجابة للأنبياء الذين وضعوا حجر الأساس في هذا البيت العتيق، ونهضوا به، وأعلوا دعائمه، (وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ * رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [البقرة:127-129].

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ): هي أمتنا! (رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ) وهو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- صاحب الإمامة العامة في محراب العبادة لخلق الله كلهم، صاحب الرسالة الخاتمة التي لا معقب عليها بنسخ أو تصحيح. فمن حقنا، ونبينا وأمتنا وتاريخنا نتيجة دعوة في بناء هذا البيت، من حقنا أن نزور هذا البيت.

النقطة الرابعة: أن الله عز وجل أراد أن يكرم الأمة العربية، أو أراد أن يكرم الجنس العربي، بم يكرم الجنس العربي؟ بدمه؟ لا فارق في علم الطب بين دم العربي ودم الزنجي ودم الأمريكي ودم الأوربي، تركيب الدم وجريانه في العروق والقوانين التي تحكمه واحدة، فلا فضل لدم على دم. هل يكرم الجنس العربي بالجلد أو باللون؟ إنما كرم هذا الجنس العربي لأنه حمل الرسالة الخاتمة. ويوجد دجالون في عصرنا وكذابون لا دين لهم، ولا شرف، زعموا أن الجنس العربي له شرف خاص بغير الإسلام، والعرب من غير الإسلام مجموعة أصفار لا وزن لها ولا قيمة ولا كيان.

إن الله شرف الجنس العربي برسالة الإسلام، وعندما أمر الناس في كل شبر من أرضه أن يتجهوا لهذا البيت العتيق قال لنا -نحن الذين نقرأ القرآن وننطق باللغة العربية- أنا فعلت هذا تشريفا لكم!.

كنت أقرأ الكتاب العزيز من قوله تعالى: (وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:149-151].

وقفت كرجل يشتغل بالعلم وحرفته الدراسة، قلت: ما معنى "كما"؟ أخذت أتأمل في الكلمة، وأتدبر ما قبلها وما بعدها، فوجدت المعنى واضحا، يعنى: أنا شرفتكم بأن تلتقي وجوه الناس عند كعبتكم، كما شرفتكم من قبل بابتعاث النبي منكم، فعلت هذا كما فعلت ذاك (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ)، وجهنا الناس إلى قبلتكم تشريفا لكم، وإتماما للنعمة عليكم؟ شرفنا بابتعاث النبي الخاتم منكم عليه الصلاة والسلام.

وفي سورة أخرى يقول الله لنبيه -عليه الصلاة والسلام-: (وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ) [الزخرف:44]. شرف لك ولقومك وسوف تسألون عن هذا الشرف، (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ) [البقرة:151]. النتيجة المطلوبة: (فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:152] هل العرب ذكروا الله وشكروه؟ لا، العرب ذكروا أنفسهم فنسيهم الله، ولم يشكروا ولى النعمة، بل شكروا من صفعهم، من لطمهم، فأذلهم الله بين يديه! (كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ * فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ) [البقرة:151-152]. اذكروا ديني الذي شرفتكم به، اذكروا الكتاب الذي أنزلته بلسانكم.

إننى أشعر بفجيعة يوم أرى إذاعات عالمية تخدم لغتها بحرقة، وبقدرة، وبحكمة، وبذكاء؛ وهى لغات ليس فيها من رسالات السماء شيء. أما اللغة التي اختارها الله وعاء لكتابه، فقد أهملناها وتبرمنا بها، وأصبح الخطأ فيها علامة تقدم، وأصبح خطاب الجهَلة بها لا حدود لغلطه ولا لما فيه من اضطراب. كل الناس يحترمون لغتهم ويضبطون قواعدها، إلا هذه اللغة لا حرمة لها، يخطئ فيها من يشاء، ولا تثريب عليه!.

أول ما نأخذه من الحج هذا الطواف وهذه الحكمة فيه، أربع نقط حددت لماذا نرتبط بهذه الكعبة.

هذه واحدة، شيء آخر: السعي بين الصفا والمروة، ما معناه؟ لم نكلف به؟ لم نمثل نفس الدور الذي كانت تمثله هاجر؟ المعنى واضح، إن الإنسان مادي، حسي، والأسباب الحسية هي التي تملكه، أو هي التي تحكمه. يوم يكون في يده مال يقول: مالي في يدي، فهو يعتز به، لكن يوم يكون هذا المال وعدا في الغيوب، وأملا في المستقبل، ورجاء عند الله، فإن قلبه يضطرب ويقول: ليس معي شيء! وجاء في الحديث: "ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال، ولا في إضاعة المال، ولكن الزهادة في الدنيا أن لا تكون بما في يديك أوثق منك بما في يد الله، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أصبت بها، أرغب منك فيها لو أنها أبقيت لك".

لكن أنا ضعيف، ضعيف جدا، ما في يدي هو الذي أستوثق منه، أما ما في يد الله فإنه لا يؤمن به إلا الأقلون، الرزق غيب، ولا يؤمن برزق الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ؛ النصر غيب، ولا يؤمن بنصر الله إلا أصحاب الإيمان الراسخ؛ والتوكل على الله عندما تكون الأسس فيه تعليق النفس بأمل عند الله، هذا النوع من الإيمان قلما يوجد، لكنه عدة المصلحين، كلما أظلم الليل عليهم، ولم يجدوا بصيصا من نور اطمأنوا إلى أن فجرا سيجيء، فهم ينتظرون بَريقه بثقة.

نلمح هذا اليقين أو هذا التوكل عندما نجد أن إبراهيم عليه السلام كلف بأن تسكن امرأته هاجر وابنها الرضيع إسماعيل قريبا من البيت العتيق، تركهما إبراهيم، وانطلق. إلى أين؟ مكة صحراء جرداء، جبال تشبه الكف التي تمتد منها الأصابع، ثم لا شيء. الرجل ماذا يقول؟ سكت، لكن لخمت المرأة، قالت له: آلله أمرك بهذا؟ قال: "نعم"، قالت: إذاً لا يضيعنا.

كيف؟ لا شيء هنا إطلاقا، السماء والرمال والجبال الصم. يُختبر الإيمان لآخر رمق، بدا الرضيع يتلوى من العطش، وبدأت الأم تحس بأن المستقبل مظلم أمامها، وبدأت تجرى يمينا وشمالا، ثم أخبرها الملَك أن نجدة جاءت، وغمز بجناحه الأرض فتفجرت زمزم، وشرب الرضيع، وشربت الأم، و بدأ الخير.

أستغرِب عندما أنظر إلى دنيا الناس، وإلى الغيب الذي لا يعلمه إلا الله، أكانت المرأة مع رضيعها هذا تدرك أن ابنها هذا سيكون من ذريته نبي خاتم؟ سيكون من ذريته شعب كبير؟ سيكون من أثره حضارة تظلل الأرض برحمتها وسناها؟ ما كانت الأم تدرى شيئا من هذا، ونحن البشر علمنا قاصر، علمنا محدود، ولكن الده ذا العلم الواسع يدري ما يصنع لعباده، ويختبرهم في حدود علمهم القاصر، وسعيهم المحدود، وقدرتهم الضيقة؛ وهذا هو الاختبار الذي يتجدد باستمرار، الاختبار مستمر. أتثق في الله وفيما عنده وفيما غيبه عنا؟ هو عنده واقع، لأن الله يستوي في علمه الماضي والحاضر والمستقبل، الصفحات كلها مكشوفة أمامه، أما أنا فلا أرى إلا اللحظة التي أنا فيها، ويغيب عنى ما وراء ذلك، أنسى ما كان قبل ذلك.

من هنا يجيء الاختبار، فإذا كلف الناس أن يفعلوا ما فعلت أم إسماعيل، فلكي تتجدد في مسالكهم عواطف الاتكال على الله، الثقة في الله، الإيمان بأن ما عنده أهم مما عندي، فما عندي قد يُحرق، قد يسرق، لكن فيما عنده لا حرق ولا سرق. لذلك يجب أن نعرف معنى هذه الشعيرة في مناسك الحج.

ثم يلتقى الناس في عرفة، وهو لقاء مهيب، ولقاء غريب؛ لأن الناس فعلا جاؤوا من كل مكان شعثا غبرا، ليس هناك ما يميزهم من أبهة ولا سلطان، وحدت بينهم شارات لا تفاوت فيها في ملابس الإحرام، ثم جمعتهم في هذا المكان طاعة الله، والجوار في هذه الساحة بالدعاء، النشيد الذي يتردد باستمرار هناك: لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك، وله الحمد، بيده الخير وهو على كل شىء قدير.

يروى عن الحسين بن الحسن المروزي قال: سألت سفيان بن عيينة عن أفضل الدعاء يوم عرفة فقال: " لا إله إلا الله وحده لا شريك له". فقلت له: هذا ثناء وليس بدعاء. فقال: أما. علمت ما قال أمية بن أبى الصلت حين أتى عبد الله بن جدعان يطلب نائلة؟ فقلت: لا. فقال: قال أمية:

أأذكُرُ حَاجَتِي أَمْ قَدْ كَفَانِي حَياؤُكَ؟ إِنَّ شِيمتَكَ الحَيَاءُ
وَعِلْمُكَ بِالحُقُوقِ وأَنْتَ قَرْمٌ لكَ الحسَبُ المهذَّبُ والسَّنَاءُ
خَلِيلٌ لا يُغَيِّرُهُ صَبَاحٌ عَن الخُلُقِ الجَمِيلِ وَلَا مَسَاءُ
وَأَرْضُكَ كُلّ مَكْرُمَةٍ بَنَتْهَا بَنُو تَيْمٍ وأنتَ لها سَمَاءُ
إِذَا أثْنَى عَلَيْكَ المَرْءُ يَوْمَاً كَفَاهُ مِن تَعَرُّضِهِ الثَّنَاءُ

ثم قال سفيان: يا حسين، هذا مخلوق يُكتفى بالثناء عليه دون مسألة، فكيف بالخالق؟.

كأن الفقير إذا جاء إلى غني فلم يقل له أكثر من: " الحمد لله الذي أعطاك وأغناك وقواك". فهذا الثناء معناه: أنني محتاج إلى ما عندك. وهو عندما يقف بين يدي الله يذكره بأسمائه الحسنى، إن كان مظلما فمن أسماء الله "النور" فهو ينير له الطريق. إن كان حائرا فمن أسمائه "الهادي" فهو يبصره بسبيل الرشاد. إن كان فقيرا فمن أسمائه: "الغني" فهو يفتح له من خزائن العطاء. إن كان جهولا فمن أسمائه "العليم" فهو يهب له العلم والمعرفة، فنحن عندما نتحقق بأوصافنا من ضعف وفقر وذل بين يدي الله فإنه يعطينا. ولذلك يقول ابن عطاء الله: "تحقق بأوصافك يمنحك أوصافه". "تحقق بالذل يعزك، تحقق بالفقر يغنك".

والواقع أن يوم عرفة يوم من مفاخر الإسلام؛ لأن المسلمين في هذا المكان يحتشدون ما يعرف بعضهم بعضا إلا هنا، كيف؟ قُرر لهم وقت معين ومكان معين، فالمسلم الذي يعيش على شاطئ الأطلسي في الرباط أو في داكار أو في لاجوس في نيجيريا يلتقي بالمسلم القادم من اندونيسيا أو الفلبين. ولذلك كان هذا اللقاء الجامع نقطة استغلال لرؤساء الإسلام وقادته كي يوجهوا المسلمين في اليوم المشهود إلى ما ينفعهم.

ولذلك وقعت حجتان في أيام النبي -صلى الله عليه وسلم-: حجة أبى بكر -رضي الله عنه- بالناس، وحجته -صلى الله عليه وسلم-. فأما حج أبى بكر -رضي الله عنه- بالناس فقد تقرر فيه إلغاء المعاهدات غير المتكافئة الواقعة بين المسلمين وغيرهم، وتقرر إلى جانب هذا... وتنظيف المجتمع الداخلي للأمة الإسلامية من المشركين، ومنع طواف العرايا بالبيت العتيق.

وانطلق المنادون وسط مضارب الخيام، ومجامع الحجيج، وملتقيات الناس، يقولون: "ألا لا يحج بعد العام مشرك، ولا يطوف بالبيت عريان . هذا حج، فأين هذا المعنى من حج المسلمين الآن؟ إن الحج أصبح شبحا، وأصبح شيئا أقرب إلى الصورية منه إلى دعم تعاليم الإسلام، وحراسة الدولة، ورفع راية الحق، وتحديد المواقف مع من يعبثون بهذا الدين، ويبيتون لأمته الضياع.

ثم حج النبي -صلى الله عليه وسلم- بعد ذلك حجة الوداع، وكان يشعر أن هذه الحجة آخر لقاء بينه وبين الناس، ولذلك كان يقول: " أيها الناس اسمعوا قولي، فإني لا أدرى لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، بهذا الموقف أبدا ". فماذا يريد؟ أب يودع أبناءه، فماذا يريد؟ يُلقى في آذانهم آخر ما في قلبه من حب ومن نصح.

"تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا، أمرا بيِّنا: كتاب الله، وسنة نبيِّه". "أيها الناس: إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا، وكحرمة شهركم هذا، وإنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم. وقد بلَّغْتُ".

وأنظر إلى الأمة الإسلامية الآن فأجد العجب! ما رأيت هذه الضراوة في الحرب عندما كان العرب يشتبكون مع اليهود. سبحان الله! ما هذه الدماء المسفوكة؟ إن الطواغيت قادت الناس إلى مهلكهم، والعيب عيبنا، والجهل جهلنا، وكما قيل :

مَا يَبْلُغُ الأعْدَاءُ مِن جَاهِلٍ ما يَبْلُغُ الجاهِلُ مِنْ نَفْسِهِ!

إننا نخرب بيوتنا بأيدينا، إننا نمزق أرحامنا بأيدينا. إذا كان خلق أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم، فخلق مسلمي العصر الحاضر أنهم أشداء على المؤمنين رحماء بالكافرين! أي مسلك هذا؟ أي بلاء هذا؟ كانت الحجة الأخيرة -حجة الوداع- مليئة بما يمكن أن يسمى بالتقرير الحقيقي لحقوق الإنسان، وحريات الشعوب، وعالمية البشر، والقواعد الإنسانية النبيلة، وحسن العلاقة بين الرجل والمرأة، وأمور أخرى كثيرة. آسف إذ أقول: إن المسلمين أجهل الناس بها، وأبعد الناس عنها، لأن الأمة الإسلامية بحاجة ماسه إلى أن تعرف دينها معرفة صحيحة.

الخطبة الثانية:

الحمد لله (الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ * وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ) [الشورى:25-26].

وأشهد أن لا إله إلا الله، الملك الحق المبين، وأشهد أن محمداً رسول الله، إمام الأنبياء وسيد المصلحين. اللهم صلِّ وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه والتابعين.

عباد الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله عز وجل، ولنعلم أن أمتنا تختم الآن القرن الرابع عشر لها، ويوشك أن تستأنف قرنا جديدا. إن مَرَّ الليالي والنهار لا قيمة له بالنسبة إلى من فقد ذاكرته، وفقد وعيه، ونسى تاريخه. إن الأمراض التي تشيع أحيانا وتنقل أصحابها إلى مستشفيات الأعصاب أو مستشفيات المجانين أمراض فقدان الذاكرة.
ويقول "شوقي" -رحمه الله-:

مَثَلُ القَوْمِ نَسُوا تاريخَهُمْ كَلَقِيطٍ عَيَّ في النَّاسِ انتِسَابَا
أَوْ كَمَغْلُوبٍ عَلَى ذَاكِرَةٍ يَشْتَكِي مِنْ صِلَةِ الماضِي انْقِضَابَا

لا يحسن المسلمون استقبال القرن الجديد إلا إذا عرفوا أخطاءهم، و وضعوا أيديهم عليها، وقرروا أن يتوبوا إلى الله منها.

كيف نعرف هذه الأخطاء؟ وكيف نتوب منها؟ إن ذلك يحتاج إلى عدة خطب، أو إلى عدة محاضرات، نسأل الله أن يعيننا على إلقائها إن شاء.

"اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم؛ نسألك ألا تدع لنا ذنبا إلا غفرته، ولا هما إلا فرجته، ولا حاجة هى لك رضا إلا قضيتها يا أرحم الراحمين ".

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر:10].

(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) [النحل:90].