البحث

عبارات مقترحة:

الواسع

كلمة (الواسع) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَسِعَ يَسَع) والمصدر...

القريب

كلمة (قريب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فاعل) من القرب، وهو خلاف...

العالم

كلمة (عالم) في اللغة اسم فاعل من الفعل (عَلِمَ يَعلَمُ) والعلم...

أسباب انشراح الصدر (2) الاستخفاف بالله عزوجل والأنبياء عليهم السلام

العربية

المؤلف عمر القزابري
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الدعوة والاحتساب - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. ضيق الصدر هو مرض العصر .
  2. خطورة الاستخفاف بالدين والسخرية منه .
  3. حكم الاستخفاف بشيء من الدين .
  4. من صور الاستخفاف بالله تعالى .
  5. حكم الاستخفاف بالأنبياء عليهم السلام .
  6. وجوب التأدب مع أنبياء الله ورسله .

اقتباس

أين نحن من الأدب مع الله؟! صرنا في زمن تطاول فيه اللئام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت تسمع كلامًا وتقرأ كتابات تشمئز منها النفس، فبعضهم يتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه شخص عادي، ويعرض كلامه للمناقشة ويخضعه للعقل وإذا ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فبجفاء وقلة أدب، وربما ذكر اسمه الشريف في السهرات الخليعة وعلى لسان المغنين والمغنيات في مجامع اللهو والطرب ..

الحمد لله المتفرد باسمه الأسمى، والمختص بالملك الأعز الأحمى، الذي ليس من دونه منتهى ولا ورائه مرمى، الظاهر لا تخيلاً ووهمًا، الباطن تقدسًا لا عدمًا.. وسع كل شيء رحمة وعلمًا، وأسبغ على أوليائه نعما عُما، وبعث فيهم رسولاً من أنفسهم أنفثهم عربًا وعجمًا، وأذكاهم محتدًا ومنما، وأشدهم بهم رأفة ورحمة حاشاه ربه عيبًا ووصمًا وذكاه روحًا وجسمًا وآتاه حكمة وحكمًا، فآمن به وصدقه من جعل الله له في مغنم السعادة قسمًا، وكذّب به وصدف عنه من كتب الله عليه الشقاء حتمًا، ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى.. صلى الله عليه صلاة تنمو وتنمى وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا..

معاشر الصالحين: تكلمنا في آخر خطبة عن مرض العصر وهو ضيق الصدر وذكرنا بعض الأسباب المفضية بما سلكها إلى انشراح الصدر، وذكرنا أولها وأعظمها وأهمها وهو توحيد الله عز وجل..

وذكرنا أن مجرد قول لا إله إلا الله دون إتيان بشروطها وترك لنواقضها لا ينفع قائلها مستدلين على ذلك بكتاب الله وبما صح عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وبما ورد عن أئمة الأمة.

وسنتكلم اليوم إن شاء الله عن أمر خطير عم به البلاء وهو من نواقض لا إله إلا الله، وكان يمكن أن أدرجه في الخطبة الماضية مع نواقض لا إله إلا الله، ولكن آثرت أن أفرده بخطبة كاملة لخطورته ولوقوع أغلب الناس فيه إلا من رحم الله وسلم..

إنه: الاستخفاف بالدين والسخرية منه عياذًا بالله، ومن خطورته أنه يمكن أن يقع فيه العبد دون أن يلقي لذلك بالاً فيكون عليه حسرة ووبالاً، ومن ثم تظهر أهمية الموضوع وخطورته وسنقسمه إلى ثمانية مباحث نمر عليها بإيجاز..

أولا: حكم الاستخفاف بالله عز وجل، حكم الاستخفاف بالأنبياء عليهم السلام، حكم الاستخفاف بالملائكة، حكم الاستخفاف بالكتب السماوية، حكم الاستخفاف بالأحكام الشرعية، حكم الاستخفاف بالمؤمنين، حكم الاستخفاف بالأمكنة والأزمنة، توبة المستهزئين..

معاشر الأحباب: اختلفت تعابير المفسرين والفقهاء عند الكلام عن الاستخفاف؛ إذ يعبرون عنه بالاستهزاء والسخرية والاحتقار والازدراء والانتقاص والسب وغيرها..

ولخطورة الاستخفاف فقد أبرزه الفقهاء في كتاب الردة، ولا شك أن الردة أعظم من الكفر الأصلي كما هو معلوم ونشرع الآن في بيان حكم الاستخفاف المحظور وفق الترتيب المشار إليه آنفًا..

أولا: حكم الاستخفاف بالله تعالى: أجمع الفقهاء على أن الاستخفاف بالله تعالى بالقول أو الفعل أو الاعتقاد حرام وفاعله يعتبر ويعد مرتدا سواء أكان جادًّا أو هازلاً.. واستدلوا على ذلك من القرآن الكريم وأقوال السلف وأفعالهم، فمن القرآن الكريم قوله تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ) [التوبة: 65- 66].

ذكر الله تعالى في هذه الآية صورة من استخفاف المنافقين بالدين وأهله عندما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وبين حذرهم من نزول سورة تفضحهم فنزلت سورة التوبة (يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ) [التوبة: 64- 65].

قال أبو بكر الجصاص رحمه الله عند تفسيره للآية قال: "فيه الدلالة على أن اللاعب والجاد سواء في إظهار كلمة الكفر على غير وجه الإكراه"، يعني إذا لم يكن مكرهًا "لأن هؤلاء المنافقين ذكروا ما ذكروا في غزوة تبوك أنهم قالوا ما قالوا لعبًا، فأخبر الله عن كفرهم باللعب وأخبر سبحانه أن هذا القول كفر منهم على أي جهة قالوه من جد أو هزل فدل ذلك استواء حكم الجاد والهازل في إظهار كلمة الكفر، ودل أيضا على أن الاستهزاء بآيات الله وبشيء من شرائع دينه كفر من فاعله " ا هـ " رحمه الله

وقال القاضي بن أبو بكر ابن العربي المالكي وهو يشرح موقف المستهزئين في غزوة تبوك قال: "لا يخلو أن يكون ما قالوه من ذلك جدًّا أو هزلا وهو كيفما كان كفر؛ فإن الهزل بالكفر كفر، لا خلاف فيه بين الأمة.." ا هـ رحمه الله

في ظلال هذه الأقوال يتساءل المرء وحُق له أن يتساءل، ما هو الكلام الذي قيل في هذه الغزوة والذي استحق أن تنزل فيه الآية بما تحمله من تهديد ووعيد.. روي في سبب نزولها عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال، قال رجل في غزوة تبوك في مجلس "ما رأيت مثل قرائنا هؤلاء [يسخر من أهل القرآن] إلا أرغبنا بطونا [يصف بطونهم بأنها كبيرة وذلك لرغبتهم في الأكل وما شابه ذلك] وأكذب ألسنة وأجبن عند اللقاء.. فقال رجل في المجلس: كذبت ولكنك منافق لأخبرن رسول الله - صلى الله عليه وسلم – ونزل القرآن..

قال ابن عمر وأنا رأيت الرجل [أي الذي قال هذا الكلام] متعلق بحقب [بالحبل] ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم تنكبه الحجارة وهو يقول: يا رسول الله، إنما كنا نخوض ونلعب. ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ) [التوبة: 65- 66].

وهناك رواية أخرى بخصوص أسباب نزول هذه الآية تدل في مجملها على أنهم ذكروا كلامًا فاسدًا على سبيل الاستخفاف والطعن والسخرية من كلام الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يعد وحيا.

يقول الإمام الرازي عند تفسيره للآية كلامًا جميلاً يُكتب بماء العين قال رحمه الله: "إن الاستهزاء بالدين كيفما كان كفر بالله تعالى وذلك لأن الاستهزاء يدل على الاستخفاف والعمدة الكبرى في الإيمان تعظيم الله تعالى بأقصى الإمكان والجمع محال " أي الجمع بين تعظيم الله تعالى والاستهزاء محال.. ا هـ رحمه الله

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر يكفر به صاحبه بعد إيمانه"، وقال البيجوري: "يكفر من استخف باسم الله تعالى في أوامره ونواهيه".

وجاء في تفسير المنار لهذه الآية "والآية نص صريح في أن الخوض في كتاب الله، وفي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم، وفي صفات الله تعالى، ووعده، ووعيده، وجعلها موضعًا للعب والهُزْو، كل ذلك من الكفر الحقيقي الذي يخرج به المسلم من الملة، وتجري عليه به أحكام الردة، إلا أن يتوب، ويجدد إسلامه".

وهنا يجب علينا أن نقف وقفة محاسبة ومسائلة للنفس خصوصًا، وأن الصورة تكرر نفسها فما أكثر ما نسمع الناس يتفوهون ويتلفظون بكلمات تحت ذريعة الطرفة أو ما يسمى بـ"النكتة" نسمع فيها سخرية بالله وباليوم الآخر وبالشرائع وبالقرآن وبأهل بالعلم وبالملائكة تحت ذريعة الضحك..

بل تجاوز الأمر ذلك فأصبحنا نسمع في إعلام المسلمين ونقرأ في صحفهم ما يندى له الجبين من سخرية من تعاليم الإسلام، واتهام لها بالرجعية والتطرف وعدم مواكبة العصر وتكتب الأقلام وتجسد الأفلام وينشر الإعلام وتُهان تعاليم الإسلام ويمر الأمر وكأن شيئًا لم يكن..

نضحك بذلك ونلهو وننسى أو نتغافل عما يترتب على ذلك من حكم، فيشترك في الإثم القائل والمستمع إن لم ينكر ذلك عليهم أو رضي بذلك ولم ينصرف عنهم.

لذا فليحذر المؤمنون من عاقبة أمرهم؛ لأن الاستخفاف بالله كفر والعمدة الكبرى في الإيمان هو تعظيم الله تعالى وإجلاله.

ولا شك أن الاستخفاف به تعالى يناقض هذا التعظيم، فالمسلم مُطالَب بأن يتذكر دومًا نعم الله عليه فيشكره بلسانه، ويثني عليه بما هو أهله ويشكره بجوارحه بتسخيرها في طاعته بدلاً من الاشتغال بالاستخفاف بالدين ليضحك الآخرين بغية إرضائهم على حساب دينه..

من صور الاستخفاف بالله أيها الأحباب: سبّ الدهر، سب الزمان.. فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر» رواه مسلم.

قال الإمام النووي كلامًا بديعًا عند شرحه لهذا الحديث قال: "أي لا تسبوا فاعل النوازل فإنكم إذا سببتم فاعلها، وقع السب على الله تعالى؛ لأنه هو فاعلها ومنزلها، وأما الدهر الذي هو الزمان فلا فعل له، بل هو مخلوق من جملة خلق الله تعالى".

وفي الحديث القدسي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «يؤذيني ابن آدم يسب الدهر، وأنا الدهر بيدي الأمر أقلب الليل والنهار..».

لذا فما يتلفظ به كثيرًا من الناس إذا أصابهم مكروه كقولهم: "بؤسًا للدهر" "وقبحه الله من زمن" يعد سبا واستخفاف بالله تعالى.

وما يتردد على ألسنة بعض المغنيين مما يوافق هذا الكلام من قبيل قول بعضهم "قدر أحمق الخطى" أو ما شابه ذلك، كل ذلك مما لا يليق بالمؤمن أن يقره ولا أن يرضى به ولا أن يسمعه.

ومن صور الاستخفاف غير المباشر بالله: سب الريح التي هي من مخلوقات الله تعالى تهب بأمره وإرادته، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «الرِّيحُ مِنْ رُوحِ اللَّهِ تَأْتِي بِالرَّحْمَةِ، وَتَأْتِي بِالْعَذَابِ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهَا فَلا تَسُبُّوهَا، وَسَلُوا اللَّهَ خَيْرَهَا وَاسْتَعِيذُوا بِهِ مِنْ شَرِّهَا» رواه أبو داود.

ويُقاس على ذلك التقلبات الجوية من برد أو حرارة؛ لأن كل ذلك بأمر الله وإرادته فلا يليق بالمسلم أن يسب أو يعترض بل يصبر ويستعين بالله..

وما أجمل ما علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نقول إذا هبت الريح حين قال: «لا تسبوا الريح فإذا رأيتم ما تكرهون، فقولوا: اللهم إنا نسألك خير هذه الريح وخير ما فيها وخير ما أُرسلت به، ونعوذ بك من شر هذه الريح وشر ما فيها وشر ما أُمرت به» رواه الترمذي وابن ماجه.

ومن أدلة القرآن كذلك على كفر المستهزئين قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب: 57].

وصور إيذاء الله تعالى قد تكون بالقول أو الفعل سواء كان اعتقادا أو استهزاء وحكمه الكفر وثبت في الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: «يشتمني ابن آدم وما ينبغي له أن يشتمني، ويكذبني وما ينبغي له، أما شتمه فقوله إن لي ولدا، وأما تكذيبه فقوله ليس يعيدني كما بدأني» رواه البخاري.

فكل من يجعل لله الولد فهو يشتم الله، فكيف يوالي المسلمون من يشتم الله وكيف يقيمون الدنيا لموت أحد من هؤلاء الذين يشتمون الله بنسبة الولد إليه، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرًا.

ولما كان الاستخفاف في حقيقته إهانة قابله الله بالإهانة فقال: (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب: 57] لم يقل عظيمًا أو أليمًا، والجزاء من جنس العمل.

جعلني الله وإياكم ممن ذُكر فنفعته الذكرى وأخلص عمله لله سرًّا وجهرًا، آمين..آمين، والحمد لله رب العالمين.

الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي يسبحه الُملك والملك والفُلك والفلك والنور والحلك والسبيل ومن سلك، إذا أعرض عن عبد هلك، وإذا أعان فقيرا ملك، والصلاة والسلام على إمام المتقين وسيد العابدين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين فازوا بحبه وقربه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم وعيده ووعده..

معاشر الصالحين: ندخل إلى المبحث الثاني وهو حكم الاستخفاف بالأنبياء عليهم السلام، ولهذا الاستخفاف صور متعددة سواء أكان بالقول أو الفعل كالانتقاص والاستهانة بهم أو الاستهانة بشرائعهم وبما بعثوا به من النور والهدى كأن يقول قائل : إن شريعة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم لا تساير العصر.. أو يصف بعض ما جاء فيها بالظلامية والرجعية..

وما أكثر ما نسمع هذا في زمننا وعلى لسان من ينسبون زورا وبهتانا إلى الثقافة، فكل شيء يصدر من هذا القبيل يعد حرامًا وأن صاحبه مرتد باتفاق العلماء سواء صدر ذلك منه جدا أو هزلا لأنه لا يليق بمقام النبوة الرفيع الذي أمرنا باحترامه وتوقيره..

وقد أشار إلى هذا الأمر الكثير..الكثير من أئمة الإسلام: كالجصاص وابن حزم وابن العربي والمقدسي وابن تيمية في الصارم المسلول والإمام السبكي وغيرهم كثير..

وقد مرت معنى الآية السابقة (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ *لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ) [التوبة: 65- 66]، وهي عامة حيث تشمل كذلك حكم الاستخفاف بالأنبياء عليهم السلام، وقال (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [البقرة: 67].

وجه الاستدلال بهذه الآية قول بني إسرائيل لموسى عليه السلام لما أمرهم بذبح البقرة (أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا) حيث قالوا ذلك على سبيل الاستخفاف والتشكيك بأمانته فكفروا بهذه العبارة.

قال القرطبي عند تفسيره لهذه الآية: "ولا يصح إيمان من قال لنبي قد ظهرت معجزته، وقال: إن الله يأمرك بكذا: أتتخذنا هزوءا؟ ولو قال ذلك اليوم أحد عن بعض أقوال النبي صلى لوجب تكفيره".

واستدل ابن القيم رحمه الله بهذه الآية كما في إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان قال: "الاستهزاء بالرسل كفرٌ وردة".

من الأدلة كذلك قوله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [البقرة: 104]، جاء في الجامع لأحكام القرآن النهي الوارد في الآية يقتضي التحريم لما فيه من سب وسخرية واستهزاء بالنبي صلى الله عليه وسلم، ويستدل بالآية على وجوب تجنب الألفاظ المحتملة للسب والاستهزاء، وإن لم يقصد بها قائلها ذلك المعنى؛ سدًّا للذريعة ودفعًا للوسيلة وقطعًا للمفسدة؛ لأن اليهود كانوا يقولون راعنا، كانوا يقولنها للنبي صلى الله عليه وسلم وهي كلمة سب وسخرية في لغتهم، فأعلم الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بمقصدهم فمنع من إطلاقها سدًّا لذريعة السب والسخرية.

من الأدلة كذلك من القرآن الكريم على حكم الاستخفاف بمقام النبوة قوله تعالى: (وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [التوبة: 61].

وجه الدلالة في الآية قوله تعالى حكاية عن المنافقين الذين كانوا يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالقول عن طريق الاستهزاء والسخرية والطعن فيقولون هو أذن، أي يتهمونه بأن كان يصغي ويسمع كل ما يقال له فيصدقه، فلما نسبوه إلى أنه يصدق كل ما يقال له ولا يفرق بين الصحيح والباطل وجعلوها مادة للسخرية والاستهزاء فتوعدهم الله على فعلهم بالعذاب الأليم..

وهذا الوعيد يوجب تكفيرهم وردتهم لما في ذلك من استخفاف بشخص الرسول صلى الله عليه وسلم وطعن في رسالته وهذا الإيذاء والسخرية موجب للكفر في حال حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته أيضا كما جاء في الصارم المسلول لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.
من الأدلة كذلك قوله تعالى (إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا) [الأحزاب: 57].

استدل العلماء بهذه الآية على أن إيذاء الأنبياء بالقول أو الفعل حرام سواء أكان صاحبه جادا أم هازلا، لأنه استخفاف بمن حقه التعظيم ووجه الاستدلال في الآية قوله تعالى (لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ) حيث أطلق إيذاء الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم في هذه الآية..

ومعلوم أن إيذائهما باطل لما فيه من استخفاف، لذا جعل الله عقوبتهم الكفر واللعنة في الدنيا مع العذاب الأليم في الآخرة لما فيه من الاحتكار والإهانة؛ لأن إيذاء النبي صلى الله عليه وسلم يعد أعظم جرما من أذى غيره.. لذا لحق بصاحبه اللعن والعذاب.

يقول الإمام أبو بكر الرازي عند تفسيره للآية : ذكر الله تعالى حال من أذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ حيث ذكر عقبه أمرين اللعن والتعذيب واللعن أشد المحذورات لأنه يعني البعد والطرد من رحمة الله تعالى بعدًا لا يُرجى معه خير.. وقوله في الدنيا والآخرة: أي بعدا لا رجاء للقرب معه لأن المبعد في الدنيا يرجوا القربة في الآخرة فكيف إذا أبعد في الدنيا والآخرة..

ثم إنه تعالى أكد العذاب بكونه مهينًا وهذا يُنبئ عن شدة الأمر، ويقتضي كفر من آذى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وخلوده في النار..

لذا نجد أن سلفنا الصالح لم يتهاونوا في عقوبة الاستخفاف بالأنبياء عليهم السلام، ونورد في ذلك مثالاً واحدًا والأمثلة كثيرة..

نورد مثالاً في تطبيق الحد على المستهزئين فيروى أن خالد بن الوليد رضي الله عنه قتل من قال له عند صاحبكم – أي رسول الله صلى الله عليه وسلم – حيث عد كلمة "صاحبكم" تنقيصًا واستخفافًا بمقام النبوة الرفيع ..

يقول القاضي عياض رحمه الله: "ومما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي صلى الله عليه وسلم وما لا يجوز على طريق المذاكرة والتعليم أن يلتزم في كلامه عند ذكره - عليه الصلاة والسلام - وذكر تلك الأحوال، الواجب توقيره وتعظيمه، ويراقب حال بيانه ولا يهمله، وتظهر عليه علامات الأدب عند ذكره، فإذا ذكر ما قاساه – صلى الله عليه وسلم - من الشدائد ظهر عليه الإشفاق والارتماض [والارتماض يعني الأسف والاحتراق - من الرمض ] والغيظ على عدوه، ومودة الفداء للنبي - صلى الله عليه وسلم - لو قدر عليه والنصرة له لو أمكنته، وإذا أخذ في أبواب العصمة وتكلم على مجاري أعماله وأقواله – صلى الله عليه وسلم - تحرى أحسن اللفظ، وآدب العبارة ما أمكنه، واجتنب بشع ذلك، وهجر من تلك العبارة ما يقبح كلفظة الجهل والكذب والمعصية..".

أين نحن أيها الأحباب من هذا التأدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ أين نحن من هذه المعاني الجميلة التي أدركها ووقف عندها الكبار من هذه الأمة الذين عرفوا قدر سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فعظموه ووقروه ودافعوا عنه وعن سنته، بل كان منهم من يبكي لسماع اسمه الشريف صلى الله عليه وسلم..وكان منهم من يرتعد ويصفر لونه ويضطرب إذا سمع اسمه صلى الله عليه وسلم..

أين نحن من هذا في زمن تطاول فيه اللئام على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصبحت تسمع كلاما وتقرأ كتابات تشمئز منها النفس فبعضهم يتكلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكأنه شخص عادي ويعرض كلامه للمناقشة ويخضعه للعقل وإذا ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم فبجفاء وقلة أدب وربما ذكر اسمه الشريف في السهرات الخليعة وعلى لسان المغنين والمغنيات في مجامع اللهو والطرب وربما ذكر اسمه الطاهر في أوضاع لا يليق بالمسلم المحب والعارف الذي يقدر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يذكره فيها.

فهذا أحد طلبة الإمام مالك رحمه الله يسأله عن حديث وهما في السوق، فقال له الإمام مالك "ويحك أتسألني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في السوق؟" قال: فما رأيته يكلمني بعد ذلك..

هؤلاء الأعلام الذين لم يتلوثوا بالإعلام، الذين لم يتلوثوا بالأفكار المسطرة ولم يتربوا في جامعات الإلحاد شرقا غربا، هؤلاء الذين رضعوا حب رسول الله صلى الله عليه وسلم من أثداء أمهاتهم لبنا خالصا سائغا للشاربين فانتفعوا ونفعوا ورفع الله شأنهم..

إنها صرخة أيها الأحباب: إنه نداء إلى الجميع، إلى نفسي أولا، ثم إلى أحبابي، نداء إلى الإعلام، إلى الكتاب، إلى الجرائد، إلى كل المسلمين أن يتقوا الله فيما يقولونه فلا يتكلمون بشيء يشين رسول الله صلى الله عليه وسلم..

وعليهم أن يراعوا حرمة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمة الشرع وحرمة المسلمين، إنه نداء للمسلمين أن يتجنبوا النكت التي تجعل من الشرع موضوعا لها فلا بارك الله في ضحك يذهب الدين ويخرج من ملة المسلمين..

إنه نداء إلى كل كاتب ليس له هما إلا أن يملأ جريدته أو صفحته ولو على حساب الشرع، رسالة له أن يتقي الله وأن يعلم أنه موقوف غدا بين يدي الله للمسائلة والمحاسبة..

ولله در القائل:

وما من كــاتب إلا سيفنى ويبقى الدهرَ ما كتبت يداه
فلا تكتب بكفك غير شيء يسرك يوم القيامة أن تراه

وسنواصل إن شاء الله الحديث عن بعض هذه المعاني..

اللهم أصلح أحوالنا واجعل بطاعتك اشتغالنا..