البارئ
(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...
العربية
المؤلف | مراد وعمارة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان |
ومن أشبه الناس بهؤلاء اليوم الذين إذا رأوا آية كالكسوف ونحوها قالوا: إنَّها مجرَّد ظاهرة طبيعيَّة جميلة، ولذلك انصبَّت جهودهم على النصيحة بحمل النظارات الواقية من الأشعَّة المنبعثة من الشمس عند الكسوف؛ ليتمتَّعوا بالنظر إلى جمال الآية في أمان من خوف العمى.
وأمَّا المؤمنون الموقنون فهؤلاء هم الذين ينتفعون تمام المنفعة بهذه الآيات ..
قال تعالى: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء:59].
أيُّها المسلمون: أذاعت وسائط الإعلام في هذا الأسبوع ما تنبَّأ به الفلكيون -وأنباؤهم تخطئ وتصيب- من احتمال حدوث كسوف الشمس في ضحوة يوم الأربعاء القادم، فلذلك أهتبل هذه الفرصة لأشرح لكم ما ينبغي أن تعلموه من شأن هذه الآية العظيمة، آية الكسوف، وما يشرع لنا فعله عند حدوثها.
أيُّها المسلمون: مِن رحمة الله بالعباد أن يرسل من حين إلى آخر ببعض الآيات الدالة على عظمته وربوبيَّته وجلاله؛ ليثوب الناس إليه بعد طول فتور، وليخافهُ المذنبون بعد غفلة وغرور، وليُقْلع أهل الشرِّ عن جميع الشرور.
قال قتادة: "إن الله تعالى يخوّف الناس بما شاء من الآيات؛ لعلهم يعتبرون ويذكرون ويرجعون. ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه فقال: يا أيها الناس، إن ربَّكم يستعتبكم فأعتبوه، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات فقال عمر: أحدثتم. والله، لئن عادت لأفعلنّ ولأفعلنّ".
فالحكمة من إرسال الله بالآيات تخويف العباد لعلَّهم يرجعون. والناس عند حدوث الآيات أصناف ثلاثة:
فمنهم: الجاحدون المكذبون كما جحد فرعون وقومه بالآيات التي جاء بها موسى عليه السلام، وفي هؤلاء قال الله تعالى: (وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا) [الأنعام:25]، وقال: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:132].
ومنهم: الطبائعيون المعرضون كما قال تعالى: (وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ) [يس:46]، وقال: (وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ) [القمر:2]، وهذا كما أعرضت ثمود -وهم قوم النبي صالح- لمَّا رأوا السماء تلبَّدت وظنّوا أنَّه مجرَّد سحاب عابر ممطر فقالوا: عارض ممطرنا، وإذا هو عذابٌ أرسله الله عليهم، فلم يشعروا به حتَّى أصابهم.
ومن أشبه الناس بهؤلاء اليوم الذين إذا رأوا آية كالكسوف ونحوها قالوا: إنَّها مجرَّد ظاهرة طبيعيَّة جميلة، ولذلك انصبَّت جهودهم على النصيحة بحمل النظارات الواقية من الأشعَّة المنبعثة من الشمس عند الكسوف؛ ليتمتَّعوا بالنظر إلى جمال الآية في أمان من خوف العمى.
وأمَّا المؤمنون الموقنون فهؤلاء هم الذين ينتفعون تمام المنفعة بهذه الآيات، فتحملهم على الخوف والمبادرة إلى التضرع والدعاء والسجود.
وقد قال عكرمة: "قيل لابن عباس: ماتت فلانة -بعض أزواج النبي- فخرَّ ساجدًا، فقيل له: تسجد هذه الساعة؟! فقال: قال رسول الله: "إذا رأيتم آية فاسجدوا" وأيُّ آية أعظم من ذهاب أزواج النبي"؟! رواه أبو داود بسند حسن.
وكان النبيُّ إذا هبَّت الريح الشديدة عُرِف ذلك في وجهه؛ لأنَّ وراء الآيات سرًّا؛ فما سرُّ الكسوف؟ علماء الفلك والطبائعيون لا يملكون جوابًا على هذا السؤال.
وغاية ما عندهم هو تفسير طبيعة ما يجري وكيفيَّة وقوع ذلك فقط، فيقولون: حين يقع القمر بين الأرض والشمس ويكون الجميع في مستوى خط واحد فإنَّ ظلَّ القمر القاتم يمتدُّ خلفه على وجه الأرض في شكل مخروط، حيث ينتهي ببقعة سوداء على سطح الأرض يبلغ عرضها قريبًا من مائتي كلم، ويسير سيرًا بطيئًا على المناطق الحارة... إلى آخر تلك الشروح العلميَّة القائمة على المعاينة والنظر.
ولكن لماذا يحدث ذلك؟ وبأمر من؟ فهذا ما يعجز العلم عن الجواب عليه، وإنَّما يُعرف ذلك من جهة الوحي؛ لأنَّه من الغيب الذي لا يعلمه إلاَّ الله، وقد علمنا من جهة الوحي سرَّ ذلك فاسمعوا.
قال تعالى -في سبب بيان الآيات وإرسالها-: (وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفًا) [الإسراء:59]، وقال: (كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [البقرة:73]، وقال: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) [البقرة:187]، وقال: (وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) [البقرة:221]، وقال: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103]، وقال: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [الأعراف:89].
فبيَّن سبحانه أنَّه تعالى يرسل بالآيات -ومنها الزلازل والصواعق والرياح الشديدة والمعجزات وعجائب المخلوقات كالشمس والقمر وكسوفهما- لأجل أن يعقلها العاقلون فيهتدوا بهديه، ويتَّقوه، ويتذكَّروا، وليخافه الخائفون، ويشكره الشاكرون.
وقد بيَّن النبي هذه العلَّة في خصوص كسوف الشمس، وردَّ على الذين ظنوا أنَّها كسفت لموت ابنه إبراهيم؛ فعن المغيرة بن شعبة قال: "كسفت الشمس على عهد رسول الله يوم مات إبراهيم، فقال الناس: "كسفت الشمس لموت إبراهيم"، فقال رسول الله: "إنَّ الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فصلُّوا وادعوا الله" متفق عليه، وعن جابر عن النبي قال: "كانوا يقولون: إن الشمس والقمر لا يخسفان إلا لموت عظيم، وإنهما آيتان من آيات الله يريكموهما، فإذا خسفا فصلّوا حتى تنجلي" رواه مسلم.
وعن أبي موسى الأشعري قال: "خسفت الشمس في زمن النبي ، فقام فزعاً يخشى أن تكون الساعة، حتى أتى المسجد فقام يصلي بأطول قيام وركوع وسجود ما رأيته يفعله في صلاة قطّ، ثم قال: "إن هذه الآيات التي يرسل الله لا تكون لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلها يخوف بها عباده، فإذا رأيتم منها شيئا فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره" متفق عليه.
وعن أبي بكرة قال: قال رسول الله: "إنَّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينكسفان لموت أحد، ولكنَّ الله تعالى يخوِّف بها عباده".
وهذا لا يتعارض مع تفسير الفلكيين؛ لأنَّ الفلكيين بما يتوفَّر لهم اليوم من أدوات الحساب الدقيقة يمكنهم أن يطَّلعوا على كلِّ كسوف حصل في الماضي، ويحصل في المستقبل، وليس ذلك من التنجيم -كما ظنَّه بعض القدماء من علمائنا-؛ فالفلكيون إنَّما يتعرَّضون للجانب المشهود، وفي الوحي بيانٌ للجانب الغيبي، وهو العلَّة والحكمة من وقوعه، فلا تعارض بين الأمرين، وقد بيّن هذا أبو حامد الغزالي وابن دقيق العيد وابن السبكي وغيرهم رحمهم الله.
والخلاصة: إنَّ هذه الآيات يجب أن تحدث فينا الخوفَ من الله تعالى، وتتبدَّى ثمرة ذلك في التوبة وتجديد العهد مع الله تعالى وإصلاح الحال.
ويتعلَّق بهذه الآية آية الكسوف أحكام وأفعال سنشرحها بعد حين.
الخطبة الثانية
اعلموا -أيُّها المسلمون-: أنَّ الشمسَ والقمر من آيات الله تعالى، والله يفعل ما يشاء، فإذا شاء خسفهما، ولا يفعل ذلك لعظيم عنده لا لموته ولا لحياته، ولكن ليخوِّف عباده، سواء باغتهم بذلك، أم توقَّعوا حدوثَه من قَبل بإنباء الفلكيين. وإذا حصل ذلك فرآه الناس فعليهم بالصلاة؛ لما رواه عبد الله بن عمر عن النبيِّ قال: "إنَّ الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكنَّهما آيتان من آيات الله تعالى، فإذا رأيتم ذلك فصلوا".
- وصلاة الكسوف مشروعة باتفاق العلماء، وظاهر قوله: "فصلّوا" يدلُّ على وجوب الصلاة، وبذلك قال بعض العلماء، لكنَّ جمهورَهم على أنَّها سنَّة مؤكَّدة.
- ويستحبُّ في الكسوف الدعاء والاستغفار والصدقة والعتاق والتعوُّذ من عذاب القبر لقول النبيِّ في حديث عائشة: "فإذا رأيتم ذلك فادعوا الله وكبروا وصلوا وتصدَّقوا"، وقال في حديث أبي موسى: "فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره"، وفي حديث أسماء بنت أبي بكر عن النبي أمر بالعتاقة في كسوف الشمس. رواه البخاري.
- والسنَّة أنَّه لا أذان ولا إقامة لصلاة الكسوف، ولكن يُدعى لها بأن يقال: الصلاة جامعة. فعن عائشة قالت: "لمَّا كسفت الشمس على عهد رسول الله نودي: إنَّ الصلاة جامعة". أخرجه البخاري.
- ويصليها الرجال والنساء جماعة في المسجد لقول عائشة: "خسفت الشمس في حياة النبي، فخرج إلى المسجد فصفَّ الناس وراءه". الحديث أخرجه البخاري.
- واختلف العلماء في عدد ركعاتها على أوجه لاختلاف الروايات بذلك، لاسيما أنَّ أكثر الروايات في ذلك ظاهرها الصحة، وللعلماء في ذلك مسلكان: "مسلك التنويع ومسلك الترجيح".
فعلى مسلك التنويع يصلى بأيّ نوع من الروايات الصحيحة، وبنوا اختلاف الروايات على تعدّد الواقعة، وهو مذهب إسحاق بن راهويه وابن حبان والخطابي وابن المنذر وابن حزم وغيرهم، لكنَّ المحقّقين من النقاد كالشافعي وأحمد والبخاري والبيهقي وابن عبد البر على أنَّ الواقعة لم تتعدَّد، بل صلاها النبي مرة واحدة يوم مات ابنه إبراهيم، ولذلك كان مسلك الترجيح أقوى. وأرجح الروايات عندهم حديث عائشة وأسماء وجابر وابن عباس وابن عمرو وغيرهم لكثرتها وكثرة طرقها، فما خالفها حكموا عليه بالشذوذ والنكارة.
وحاصل ذلك أنَّها ركعتان، في كلّ ركعة ركوعان وسجدتان، ويقرأ بين كلِّ ركوعين، ويجهر بالقراءة فيها، ويطيل القيام والركوع والسجود في الركعة الأولى.
عن عائشة أنها قالت: "خسفت الشمس في عهد رسول الله ، فصلى رسول الله بالناس، فقام فأطال القيام، ثم ركع فأطال الركوع، ثم قام فأطال القيام وهو دون القيام الأول، ثم ركع فأطال الركوع وهو دون الركوع الأول، ثم سجد فأطال السجود، ثم فعل في الركعة الثانية مثل ما فعل في الأولى، ثم انصرف وقد انجلت الشمس، فخطب الناس فحمد الله وأثنى عليه"... الحديث متفق عليه.
- ويشرع بعد الصلاة أن يخطبهم الإمام على المنبر بخطبة يحمد الله عز وجل، ويثني عليه، ويعظهم فيها، ويحثُّهم على الدعاء والاستغفار والتعوذ من عذاب القبر كما في حديث عائشة المذكور وغيره.