البحث

عبارات مقترحة:

الرب

كلمة (الرب) في اللغة تعود إلى معنى التربية وهي الإنشاء...

الحليم

كلمةُ (الحليم) في اللغة صفةٌ مشبَّهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل)؛...

اللطيف

كلمة (اللطيف) في اللغة صفة مشبهة مشتقة من اللُّطف، وهو الرفق،...

موسى ولطف الله (7) عناد فرعون

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك - التاريخ وتقويم البلدان
عناصر الخطبة
  1. تضحية السحرة دليل صدق إيمانهم .
  2. العبادة زاد المؤمنين للأزمات .
  3. طبع اليهود الانحرافي وإيذاؤهم لموسى عليه السلام .
  4. عناد الطغاة حتى الهلاك .

اقتباس

فحَذارِ مِن أن تتخيلوا أن الطاغوت -مهما بدا لكم قويا جبارا- هو بالضرورة مَكِينٌ في الأرضِ، غير مزحزح عنها! كلا! فإن صاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يخلع الطاغوت ويأخذه، فمهما طال الزمان؛ فإن العاقبة للمتقين، فاستعينوا بالله واصبروا.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد : فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

ما أبلغ دعاء السحرة! ما أبلغ دعاءهم لما أيقنوا بعذاب فرعون! فتقطيع الأيدي والأرجل من خلاف على هذه الصورة المشوهة ليكون عبرة ثم الصلب على جذوع النخل، موت بطيء وقاسٍ وشاق، أقول: ما أبلغ دعاءهم! (قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ * وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آَمَنَّا بِآَيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ) [الأعراف:125-126].

الإفراغ هو الصَّبُّ، وأصله من إفراغ الإناء، أي صب ما فيه حتى يخلو الإناء، وهو من أقوى أنواع التعبير، أي: ربنا صُبَّ علينا الصبر صَبَّاً حتى ينتهي الصبر. ذلك مدى حاجتهم للصبر.

فتأملوا في صدق الإيمان الذي حملهم على تحمل الأذى في سبيل دينهم، والتضحية في سبيله إلى هذا المدى.

يقول ابن عباس -رضي الله عنهما-: "كانوا في أول النهار سَحَرَةً، وفي أخر النهار شهداء". فما أجمل حسن الخاتمة!.

وبالرغم من عظمة موقعة الميزان بين موسى والسحرة يوم الزينة إلا إن تأثر الناس لم يكن بمستوى الحدث، قال تعالى (فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ) [يونس:83].

إلا ذرية من قومه! اختلف المفسرون في الهاء التي في قومه، ترجع إلى مَن؟ قيل: هي راجعةٌ إلى موسى، قال مجاهد: "هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من بني إسرائيل، هلك الآباء -أي قبل مجيئه- وبقي الأبناء -أي الذرية- فآمنوا به".

وقيل: الهاء في قومه تعود إلى فرعون، قال ابن عباس: "هم ناس يسيرٌ من آل فرعون آمنوا، منهم امرأة فرعون وماشطتها، ومؤمن آل فرعون، وخازن فرعون، وامرأة خازنه".

الحاصل أن التأثير لم يكن قويا على معظم الناس بالرغم من عظم الحدث وقوة الآيات.

وتسير الأقدار بأمر الله تعالى دون أن يقتل موسى -عليه السلام-؛ بل إن ربه يمكنه من وعظ قومه وإيصال التأثير الأمثل إليهم حين قال: (يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) [يونس:84-85].

ماذا يصنع نبي الله موسى وأخوه هارون بعد تلك الموقعة؟ هل يغادر مصر الآن؟ هل يسيرا بقومهما؟ هل يختبئ ويأتي المدد من السماء بلطف الله تعالى؟ (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [يونس:87].

إنه لابد من الاشتغال بالعبادة وزيادة الإيمان والتزود بالتقوى حتى يصمد القلب في وجه الفتن، فالصراع صراع إيماني، (وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ) [يونس:87]، أي: اجعلوا بيوتكم دور عبادة وأقيموا فيها الصلاة. هكذا هو التأهب لتلقِّي الفِتَن بالصبر وبالعلم.

ويجتمع فرعون بالملأ بعد هول حادثة السحرة فيرى مدى ولائهم، فربما خشي أن تكون الحادثة أثرت في بعضهم فأخفوا مشاعرهم، ولكنهم بادؤوه بنصيحة السوء؛ لأن بطانة السوء لا تأمر إلا بالسوء! (وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآَلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127].

وتصل هذه الأخبار المخيفة إلى موسى وقومه فيذكرهم بالله -تعالى- ويحثهم على الصبر؛ لأن طريق الكرامة والعزة الإيمانية شاقٌّ ومليءٌ بالأخطار والفتن: (قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [الأعراف:128].

إنه ليس للصالحين إلا ملاذٌ واحدٌ، ووليٌّ واحد، وهو الولي القوي المتين -جل وعلا-، وهو الذي يقدِّر النصر والخلاص في الوقت الذي يقدره بحكمته وعلمه، فلا تعجلوا النصر؛ لأنكم لا تعلمون الخير المحض، (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ)، ليست لي ولا لكم ولا لفرعون ولا لأي أحد من خلقه، (إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ) وحده، (يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ)، وفق سنته وحكمته.

فحَذارِ مِن أن تتخيلوا أن الطاغوت -مهما بدا لكم قويا جبارا- هو بالضرورة مَكِينٌ في الأرضِ، غير مزحزح عنها! كلا! فإن صاحب الأرض ومالكها هو الذي يقرر متى يخلع الطاغوت ويأخذه، فمهما طال الزمان؛ فإن العاقبة للمتقين، فاستعينوا بالله واصبروا.

ولكن موسى -عليه السلام- بالرغم من كلامه البليغ، وبالرغم من تضحيته بحياته من أجل نجاة قومه، وبالرغم من جهده وتشرفه بالرسالة، لم يستطع كسر طباع قومه؛ فإنه لما قال لهم: (اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ): بماذا ردوا عليه؟ (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) [الأعراف:129]، يعني: ما استفدنا منك!.

اليهود هم اليهود، وإنما عندما نثني على نبي الله موسى -عليه السلام- وهو من أنبياء بني إسرائيل ونثني على الحواريين الذين صبروا وتمسكوا بدينهم فإن الثناء لا ينسحب على كافة بني إسرائيل، لماذا؟
لأن بني إسرائيل ممن اجتمع فيهم الضدان، خير جم قليل في شر واسع عريض، فقد فضلهم الله تعالى بكثرة الأنبياء فيهم، وهذا حق، وهو وجه التفضيل، فإنه لا يُعرَف شعب من الشعوب يزاحمهم في هذه المزية.

لكن العجيب أنه وإن تكرر فيهم من غابر العصور أفراد منهم علوا في صفاتهم وأخلاقهم وقدراتهم بحيث تميزوا عن غيرهم من الأفراد في سائر الأمم في زمانهم، فاصطفاهم الله تعالى بحكمته وعلمه، إلا انه نادرٌ لعموم جنسهم، كما أثبته التاريخ.

ولذلك انحرف معظم بني إسرائيل عن هدي أنبيائهم، وتركوا سنتهم، حتى لعنهم الله لعنا دون غيرهم من الأمم؛ بل إنهم قتلوا كثيرا من أنبيائهم، (فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ) [البقرة:87].

فأنبياؤهم كانوا خير البشر، إلا أن اليهود أنفسهم في الجملة لم يكونوا كذلك، إلا -ربما- في أزمنة قليلة جدا ذكَّرهم بها القرآن: (وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:47، 122]، وذكرهم بها أنبياؤهم: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآَتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) [المائدة:20].

لقد اجتمع فيهم الضدان، فلا عجب إذاً أن يردوا على نبيهم بهذا الرد السيئ، لا عجب! وسوف يرى موسى بعد ذلك ما يناله منهم.

معاشر الإخوة: ما زال اليهود يظنون أنهم شعب الله المختار، وهذا الشعور بالاستعلاء والاستكبار على جميع الخَلق داءٌ مُزْمِنٌ في الأمة اليهودية بيَّنَهُ القرآن الكريم في آياتٍ كثيرةٍ؛ بل وتظفر به نصوص كتبهم المقدسة، فقد ورد في توراتهم المحرفة: "أنتم أولادٌ للرَّبِّ إلهكم؛ لأنكم شعبٌ مقدَّسٌ للرب إلهكم، وقد اختاركم الرب لتكونوا له شعبا خاصاً لجميع الشعوب الذين على وجه الأرض".

وهذا ما أوضحه القرآن أيضا، إذ يقول -تعالى-: (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ) [المائدة:18]، فرَدَّ الله تعالى عليهم: (قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ) [المائدة:18].

وقال تعالى: (قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) [الجمعة:6-7].

بل إن هذه الطباع الرديئة التي تميز بها اليهود عن غيرهم شهد بها العدول من اليهود أنفسهم ممن أسلموا في عهد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وقد صح في البخاري أنه لما بلغ عبدالله بن سلام مقدم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للمدينة، وكان عبدالله بن سلام حبرا من أحبار اليهود، عالما من علمائهم، لكنه أسلم وأصبح من خيار الصحابة -رضي الله عنهم-.

فأتاه فقال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي، قال ما أول أشراط الساعة؟ وما أول طعام يأكله أهل الجنة؟ ومن أي شيء ينزع الولد إلى أبيه، ومن أي شيء ينزع إلى أخواله؟.

فقال رسول -صلى الله عليه وسلم-: "خبَّرَني بهن آنفاً جبريل" قال: فقال عبد الله: ذاك عدو اليهود من الملائكة.

فقال -صلى الله عليه وسلم-: "أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت، وأما الشبه في الولد فإن الرجل إذا غشي المرأة فسبقها ماؤه كان الشبه له، وإذا سبق ماؤها كان الشبه لها".

قال: أشهد أنك رسول الله. ثم قال -وهو الشاهد-: يا رسول الله، إن اليهود قومٌ بُهْتٌ -هذه هي شهادته- إن علموا بالإسلام قبل أن تسألهم بهتوني عندك. قوم بهت: أي: أصحاب بهتان وكذب ورفض للحق.

فجاءت اليهود، ودخل عبد اللّه البيت، فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه-: "أي رجل فيكم عبد الله بن سلام؟" قالوا: أَعْلَمُنَا وابنُ أعْلَمِنا، وأخْيَرُنَا وابْنُ أَخْيَرِنَا.

فقال رسول اللّه -صلّى اللّه عليه وسلّم-: "أفرأيتم إن أسلم عبد اللّه؟" قالوا: أعاذه اللّه من ذلك.
فخرج عبد اللّه إليهم فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، وأشهد أنّ محمّدا رسول اللّه. فقالوا: شرّنا وابن شرّنا، ووقعوا فيه. انقلبوا!.

هكذا هم اليهود، آذوا موسى وأتعبوه، ولذلك قال -صلى الله عليه وسلم- أثناء معاناته من بعض المؤلفة قلوبهم في قسمة غنائم حنين، قال: "رَحِم الله موسى! قد أوذي بأكثر من هذا فصبر".

الحاصل أن رد نبي الله موسى على قولهم: (قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا) [الأعراف:129]، رَدَّ عليهم: (قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ) [الأعراف:129].

ينظر كيف تعملون، لا محاباة، إن موسى يقول لقومه هذه المهمة التي أرسلني الله لأدائها من دعوة فرعون وتخليصكم من ظلم الطاغية واستخلافكم في الأرض، ليس من أجل عرضكم ولا لونكم، وإنما هو من أجل إقامة دين الله في الأرض فينظر كيف تعملون، هل تتقونه؟ هل تطيعونه؟ هل تقيمون شرعه في الأرض؟ فأولياء الله إنما هم أولياء دينه، وحماة شريعته.

هم الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر، ألا ترون هذا الشرط واضحا في القرآن في قوله -تعالى-: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40]، مَن هم؟ (الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ) [الحج:41]. فنصر الله المبارك لا يتأتى إلا بوجود هذه النوايا المباركة لما بعد النصر.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله ناصر المستضعفين، ومدمر الجبابرة المستكبرين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، وعلى آله وصحابته ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.

أما بعد : فماذا عن فرعون؟ أيها الأخوة : إن المتكبر عقيم الإقناع مهما حاولت إقناعه بشتى الأدلة لا يقتنع، وإذا رأى الحق جحده وهو يعرفه تمام المعرفة؛ لأن الكبر مرَضٌ مستعصٍ لا يشفيه الدليل والبرهان، وإنما يشفيه الإيمان، لا شيء سوى الإيمان.

ولذلك نرى إن الآيات البينات كلما توالت على فرعون وملئه كلما زادوا عتوا وجحودا تارة، ومراوغة تارة أخرى.

هذا طبع المتكبرين الذين يجحدون الحق ويرفضونه، توالت الابتلاءات على فرعون وملئه لعلهم يتوبون، لعلهم يتذكرون، جدب ونقص شديد في الثمرات لم يعتادوا عليه، قال -تعالى-: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا آَلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ * فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ) [الأعراف:130-131].

إن كثيرا من الطغاة يعمون عن رؤية مقدمات هلاكهم الموعود، وإذا ما تغير ميزان القوة لصالح خصومهم قليلا أو ظهرت بوادر دمارهم فإنهم لا يقبلون ولا يصدقون تلك البوادر أصلا، فإن فرعون وملأه لا يريدون أن يصدقوا أن هذه الابتلاءات هي فعلا مقدمات هلاك الموعودين بها، وأن تلك العلامات ملامح انجاز وعد الله تعالى لبني إسرائيل للاستخلاف في الأرض، وإنما يجعلون منها تحديا لا يقابلونه إلا بالعناد: (وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آَيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ) [الأعراف:132].

وهنا زادت قسوة البلاء، فلم يعد جدبا فقط: (فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آَيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ) [الأعراف:133].

ولما أصبحت الحياة لا تطاق مع قوة الآيات زلزل فرعون وملؤه، وبعد الاستعلاء والكبر أصبحوا يطرحون المبادرات ويفاوضون: (وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الأعراف:134].

ولكن لا أمانة ولا ذمة للطغاة أبدا! لا يؤمن جنابهم أبدا! (فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ) [الأعراف:134].

ولما تبين لموسى أنه لا خير في فرعون، ولا يؤمن منه خير، توجَّه إلى ربه ودعا بدعاء الغضب لله ولدينه، وهو دعاء يستوجب خوف جميع الطغاة في كل عصر: (وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ) [يونس:88-89].

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأزِلّ الشرك والمشركين...