الغفور
كلمة (غفور) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعول) نحو: شَكور، رؤوف،...
العربية
المؤلف | بلال بن إبراهيم الفارس |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة |
إن سعد بن معاذ رضي الله عنه، عاش في الإسلام قرابة ستة أعوام، ومع ذلك اهتز عرشُ الرحمن لموته، وما ذلك إلا لمكانته عند الله تعالى، تلك المكانة التي اكتسبها بإيمانه وإخلاصه, وعمله الصالح في ستة أعوام فقط، وإن منا معشر المسلمين, من عاش أضعاف أضعاف هذه المدة، إلا أن الأرض التي يمشي...
أما بعد:
إن القارئ لسيرة النبي صلى الله عليه وسلم, وأصحابه الكرام رضي الله عنهم، ليجد فيها البلسم الشافي والقدوة الحسنة، لمن كان يرجو الله واليوم الآخر، رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه, بذلوا للدين أرواحهم وأموالهم وأعمارهم, من مهاجرين أجلاء, هجروا البلاد والرحم, وفرُّوا بدينهم لله ورسوله, وأنصارا كرماء، تبوّؤُوا الدار والإيمان, يحبون من هاجر إليهم, ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا, ويؤثرون على أنفسهم, ولو كان بهم خصاصة.
كانوا للدِّين حماة بررة, وللنبي صلى الله عليه وسلم أنصارًا عظماء, حتى كافأهم المصطفى صلى الله عليه وسلم بخير الهدايا, اللهم ارحم الأنصار, وأبناء الأنصار, وأبناء أبناء الأنصار.
عباد الله، وإن من سادة الأنصار الذين نصروا الله ورسوله، شاب صالح, وقائد رائد, وهمام ضرغام, تسابقت الملائكة للصلاة عليه, واهتزّ لموته عرشُ الرحمن, ولمَّا يَبْلغ الأربعين، إنه الصادق الصدوق, عدو اليهود, وسيد الأوس سعد بن معاذ، رضي الله عنه وأرضاه، أسلم قبل هجرة النَّبي صلى الله عليه وسلم بعام تقريباً، فلما أسلم وقف على قومه, فقال: يا بني عبد الأشهل, كيف تعلمون أمري فيكم؟ قالوا: سيدنا وأيمننا نقيبة، فقال: فإن كلامكم عليَّ حرام، رجالكم ونساؤكم، حتى تؤمنوا بالله ورسوله، فما بقي رجل ولا امرأة في دار بني عبد الأشهل إلا وأسلموا، فكان من أكثر الصحابة بركة على قومه رضي الله عنه.
فيا دعاة الملَّة والدين, دونكم نهجُ سعد رضي الله عنه، فقد ملك قلوبَ قومه بخلقه، فأحبوه, ولما أحبوه أطاعوه .. أحبوه؛ لأنه كان قوياً من غير عنف، ورحيماً من غير ضعف، استجابوا له؛ لأنهم عرفوا صدقه معهم، وحبّه للخير لهم، وما أجمل الداعي إلى الله حين يقتفي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم, وصحبه الكرام في دعوتهم؛ فإنها النبراس والأسوة .
لقد كان سعد رضي الله عنه قوياً ذا عزة ومنعة في الجاهلية، وزادَه الإسلامُ عزَّةً ومنعة، جاء في صحيح البخاري "أن سعداً ذهب إلى مكة معتمراً، فنزل على أمية بن خلف- وكان أمية ينزل على سعد إذا مرّ بالمدينة لتجارته بالشام-.
فقال له: انتظر حتى إذا انتصف النهار, وغفل الناس طفت.
فبينما سعد يطوف إذ أتاه أبو جهل، فقال: من الذي يطوف آمناً؟
فقال: أنا سعد.
فقال أتطوف آمناً، وقد آويتم محمداً وأصحابه؟
قال نعم، فتلاحيا.
فقال أمية: لا ترفع صوتك على أبي الحكم؛ فإنه سيد أهل الوادي.
فقال له: والله لو منعتني لقطعت عليك متجرك بالشام.
فردّد عليه أمية مقولته.
فغضب سعد, وقال: دعنا منك, فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يزعم أنه قاتلك.
فقال أمية:إياي؟
قال: نعم.
فقال: والله ما يكذب محمد، فقتله الله تعالى في بدر".
وإنه لدرس عظيم في نصرة الدين, ودحر أعدائه بكل سلاح, حتى ولو كان اقتصادًا يُقْطَعُ أو مالا يُمْنَعُ.
عباد الله، لقد كانت لسعد في الإسلام مواقف عظيمة وخالدة, فمن ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما أراد الخروج لبدر استشار الناس, فتحدث أبو بكر, والمقداد بن عمرو من المهاجرين, فقالوا: خيرًا, فدعا لهم النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال: " أشيروا علي أيها الناس"، فقال سعد بن معاذ -وهو سيد الأوس-: "والله كأنك تريدنا يا رسول الله؟" قال: "أجل"، فقال سعد: "فقد آمنَّا بك وصدقناك, وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة لك، فامْضِ يا رسول الله لما أردت، فنحن معك، فو الذي بعثك بالحق, لو استعرضت بنا البحر فخضته، لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، وإنا لصُبْرٌ في الحرب، صُدْق عند اللِّقاء، لعل الله أن يريك منّا ما تقرُّ به عينُك، فَسِرْ على بركة الله، فو الله يا رسول الله، لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى: اذهب أنت وربك فقاتلا, إنا هاهنا قاعدون، لكن اذهب أنت وربك فقاتلا, إنا معكما مقاتلون، والله لو استعرضت بنا برك الغماد وخضته, لخضناه معك".
فَسُرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله, ونشط للخروج, فنعم المستشير, ونعم المستشار. اللهم إنا نتقرب إليك بحبنا لهؤلاء الأماجد, اللهم فاجمعنا بهم في الفردوس الأعلى, مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين, وحسن أولئك رفيقا.
عباد الله .. هل تعلمون أن اليهود اليوم في إسرائيل لا يزالون يطلبون الثأر من قتلة أجدادهم, حين حكم فيهم سعد بن معاذ بحكم الله؟
أما قلت لكم إن سعد بن معاذ هو عدو اليهود؟
خذوا شيئا من خبرهم قبل حكم سعد فيهم:
ففي السِّيَر عن صفيةَ بنتِ حيي بنِ أخطب قالت: كنت قبل الإسلام أحبَّ ولدِ أبي إليه وإلى عمّي أبي ياسر - وهما من يهود المدينة -، تقول: لم ألقهما قطّ مع ولدٍ لهما إلا أخذاني دونه، فلما قدم رسول الله المدينة, ونزل قباء في بني عمرو بنِ عوف, غدا عليه أبي، حييُ بنُ أخطب، وعمّي أبو ياسر بنُ أخطب مغلّسَين - أي: بعد الفجر -، قالت: فلم يرجعا حتى كانا مع الغروب، فأتيا كالَّين كسلانين ساقطين يمشيان الهُوينى. قالت صفية: فهشَشت إليهما، كما كنت أصنع، فو الله ما التفت إليّ واحد منهما؛ لما بهما من الغم - من قدوم النبي إلى المدينة -، قالت: وسمعت عمي أبا ياسر يقول لأبي حيي: أهو هو؟ قال: أتعرفه وتثبته؟ قال: نعم، قال: فما في نفسك منه؟ قال: عداوته والله ما بقيت.
وكذلك - إخوة الإسلام - ظلّ هذا اليهودي في عداوته لرسول الله والمسلمين، يكِنّ لهم من العداوة والبغضاء ما يكنّ، ويتمنى لهم الهزيمة، ويتربّص بهم الدوائر. وظل كذلك حتى كان اليومُ الذي نقضت فيه بنو قريظة العهد بينها وبين رسول الله.
وهذا دأبهم- لعنهم الله-، ينقضون العهود، ويغدرون المرّة تلو المرة، ويتربصون بالمؤمنين الدوائر، (عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا) [الفتح:6].
فلما نقضوا العهد، وغدروا حكَّم فيهم رسول الله سعدَ بنَ معاذ، وقد كان حليفا لهم في الجاهلية، قبل قدوم رسول الله المدينة، ففرحوا بذلك، وظنوا أن سعدًا سوف يعاملهم بالحسنى، ويحكم فيهم بالسهل اليسير، وأنى لمؤمن آمن بالله، وصدق برسوله, أن يكون كذلك؟! حتى إذا ما أقبل سعد على رسول الله, جعلوا يقولون له: يا أبا عمرو، أحسن في مواليك؛ فإن رسول الله إنما ولاّك عليهم لتحسن فيهم، فلما أكثروا عليه, قال رضي الله عنه وأرضاه: لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم، ثم قال سعد: عليكم بذلك عهدُ الله وميثاقه, أن الحكمَ فيهم لما حكمت؟! قالوا: نعم، قال: وعلى مَن ها هنا يعنى رسولَ الله ، وهو معرض عنه إجلالا له، فقال: "نعم"، فقال سعدٌ رضي الله عنه وأرضاه: فإني أحكم فيهم بأن تقتلَ الرجال, وتقسمَ الأموال, وتسبى الذراري والنساء، فسرّ عن رسول الله ثم قال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرْقع" أي: من فوق سبع سموات.
ثم خرج رسول الله إلى سوق المدينة، فخندق فيها خنادق، ثم أرسلوا إليه عشرة عشرة, تضرَب أعناقهم في تلك الخنادق، وأتى بعدوّ الله حيي بن أخطب, وعليه حلّة قد شقّها من كل ناحية قدر أنملة؛ لئلا يُسلبها ويستفيدَ منها المسلمون، حِقدا منه وطمعا وكرها. وإن دل ذلك - عباد الله - على شيء, فهو أبرز شاهد على العداوة الشديدة التي تكنها قلوبهم للمؤمنين, والحقدِ الدفين الذي تحمله نفوسهم على هذا الدين.
فأتي به مجموعة يداه إلى عنقه بحبل، فلما أبصر رسول الله قال: أما والله ما لمت نفسي قط في عداوتك، ولكنه من يَخذُلِ الله يُخذل، ثم جلس فضرِبت عنقه.
ألا ما أحوج يهود اليوم لحكم كحكم سعد بن معاذ رضي الله عنه فيهم !.
أرأيتم - معاشر المؤمنين - كيف تكون العداوة والكراهيةُ والبغضاء حتى الموت؟! إنها أخلاق من سلف من أحفاد القردة والخنازير، وما زالوا كذلك، والكون خير شاهد على ما يفعلون ويقترفون، فكم من اتفاقية وعهد نقضوا، وكم من ميثاق أبرموه ثم نكصوه، ولكن فئاما من المتحدثين في العالم الإسلامي اليوم، آذنا لا تعي، وأفئدة لا تتفقّه ما يكاد لها.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنْ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ) [البقرة:120].
بارك الله لي ولكم ....
الخطبة الثانية
أما بعد:
عباد الله, لقد شهد سعد مع النبي صلى الله عليه وسلم المشاهد كلها، ورُمي يوم الخندق في أكحله بسهم، فنزف منه شهراً, وعاده النبي صلى الله عليه وسلم, ثم مات شهيداً في السنة الخامسة.
وكما هو معروف, فإن غزوة الخندق قامت فيها قريش وغطفان بمعاونة يهود بني قريظة, بمحاصرة المسلمين في المدينة، فلما هزم الله تعالى الأحزاب، دعا سعد بن معاذ ربه أن لا يميته, حتى تقرّ عينه من بني قريظة، الذين نقضوا عهدهم مع رسول الله تعالى، فتوقف جرحه عن النزيف، فما قطرت منه قطرة، فأقر الله عينه, وحكَّمهُ رسول الله فيهم, وقُتل ذكورُ بني قريظة، وكانوا قريبا من أربعمائة، واستجاب الله لسعد دعاءه, فانفتق عرقه, ومات رضي الله عنه.
فجمع الله له بين الصحبة والشهادة, والموت في مدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وشرف صلاة النبي صلى الله عليه وسلم عليه, وإنها لمقامات عالية, لا تنال إلا بالاصطفاء من خالق الأرض والسماء.
بل إن سعدا ممن فاز بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم له بأنه في الجنة، فقد أُهدي للنبي صلى الله عليه وسلم ثوب حرير-والحديث في الصحيحين عن أنس- فتعجب الصحابة من لينه ونعومة مَلْمَسِه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: " أتعجبون من لين هذه؟ والذي نفسي بيده لمناديل سعد بالجنة، خير من هذا".
وروى النسائي عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " هذا الذي تحرَّك له العرش، وفُتِحت له أبواب السماء، وشهده سبعون ألف من الملائكة، لقد ضُمَّ ضمة, ثم فرج عنه".
قال الذهبي- رحمه الله-: " وليس هذا الضغط من عذاب القبر في شيء، بل هو من روعات المؤمن, كنزع روحه، وكألمه من بكاء حميمه، وكروعته من هجوم ملكي الامتحان عليه، وكروعته يوم الموقف, وساعة ورود جهنم، كأنك يا هذا تظن أن الفائز لا يناله هول في الدارين، ولا روع ولا ألم ولا خوف؟ سل ربك العافية، وأن يحشرنا في زمرة سعد ".
وبعد عباد الله، إن سعد بن معاذ رضي الله عنه، عاش في الإسلام قرابة ستة أعوام، ومع ذلك اهتز عرشُ الرحمن لموته، وما ذلك إلا لمكانته عند الله تعالى، تلك المكانة التي اكتسبها بإيمانه وإخلاصه, وعمله الصالح في ستة أعوام فقط، وإن منا معشر المسلمين, من عاش أضعاف أضعاف هذه المدة، إلا أن الأرض التي يمشي عليها ربما لعنته؛ لكثرة خطاياه, وشتان مابين المقامين.
السلام على سعد بن معاذ، سلام الله عليه يوم ولد, وسلام الله عليه يوم مات. وسلام الله عليه يوم يبعث حيا.