البحث

عبارات مقترحة:

الولي

كلمة (الولي) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) من الفعل (وَلِيَ)،...

المحيط

كلمة (المحيط) في اللغة اسم فاعل من الفعل أحاطَ ومضارعه يُحيط،...

البارئ

(البارئ): اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (البَرْءِ)، وهو...

صراع الحق والباطل في قصة موسى وتكراره في زمننا

العربية

المؤلف خالد بن سعد الخشلان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات التربية والسلوك
عناصر الخطبة
  1. قصة موسى وفرعون وهلاك فرعون .
  2. وسائل الطغاة في محاربة الحق .
  3. غلبة الحق .
  4. صيام عاشوراء احتفاءً بهلاك الطاغية وانتصار الحق .

اقتباس

إنه صراع لا هوادة فيه، صراع بين المؤمنين الموحدين، بين الخاضعين لله رب العالمين، بين من أدركوا سرّ وجودهم وهدف خلقهم وهو توحيد العبادة لله عز وجل لا شريك له، وبين أقوام أعرضوا عن ذلك كله، انتكست فطرهم، واسودت قلوبهم، فأعرضوا عن ربهم وأعرضوا عن الدين الذي أنزله الله عز وجل على رسله من أجل هدايتهم ..

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه وسلم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

فيا عباد الله: اتقوا الله -عز وجل-، حققوا وصية مولاكم لكم بتقواه، وذلك بفعل أوامره واجتناب نواهيه والتقرب إليه بكل ما يحب -سبحانه وتعالى-.

واعلموا -رحمكم الله- أنكم في شهرٍ من أشهر الله المحرمة، فعظموا هذا الشهر، واجتهدوا فيه بالأعمال الصالحة، وبخاصة الصيام، فلم يكن -صلى الله عليه وسلم- على شهر أشد محافظة على صيامه بعد رمضان من شهر الله المحرم، فليكن لك -أخي المسلم- حظ وافر ونصيب كبير باغتنام هذه الأيام المباركة حتى تستفتح عامك وتستقبله بطاعة واجتهاد باتباع ما يرضي الله -عز وجل-.

أيها الإخوة المسلمون: إن كتاب ربنا -عز وجل- مملوء بالعظات والمواعظ، مملوء بآيات التفكر والتدبر؛ وإن من أعظم ما يستلهم منه المسلم العبرة والعظة ما قصّه الله -عز وجل- في الذكر الحكيم من قصص الأنبياء والمرسلين مع أقوامهم الذين أرسلوا إليهم، هذه القصص التي تمثل نماذج من الصراع بين الحق والباطل منذ أن خلق الله الخليقة، وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

إنه صراع لا هوادة فيه، صراع بين المؤمنين الموحدين، بين الخاضعين لله رب العالمين، بين من أدركوا سرّ وجودهم وهدف خلقهم وهو توحيد العبادة لله -عز وجل- لا شريك له، وبين أقوام أعرضوا عن ذلك كله، انتكست فطرهم، واسودت قلوبهم، فأعرضوا عن ربهم وأعرضوا عن الدين الذي أنزله الله -عز وجل- على رسله من أجل هدايتهم.

لقد كانت قصة موسى -عليه السلام- من أكثر القصص ورودًا وتكرارًا في القرآن الكريم لما تتضمنه من دروس بالغة وعظات نافعة: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [يوسف:111]، (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود:120].

إن قصة موسى -عليه الصلاة والسلام- في مجملها قصة تحكي عن الصراع بين الحق والباطل، هذا الصراع الذي يتكرر دائمًا في كل عصر ومِصر مهما تعددت أشكال الباطل وتنوعت أساليبه، هذا الصراع الذي نشاهد أمثلة منه في واقعنا على أرض فلسطين وعلى أرض الشام وعلى أرض بورما وعلى كل أرضٍ ينادي فيها أهلها بتطبيق دين الله وتطبيق شرعه، ويعارضهم في ذلك المفسدون والطغاة والظالمون.

لقد قضت حكمة الله -عز وجل- أن يبعث رسلاً إلى الناس لينقذهم من الوثنية والشرك، ويخرجهم من الظلمات إلى النور، ويهديهم إلى صراطه المستقيم.

لقد كان بنو إسرائيل في مصر مستعبدين من قبل الطاغية فرعون وقومه، يستضعفهم، يعذبهم، مدعيًا أنه ربهم الأعلى! وكان يقول كما ذكر الله -عز وجل- في كتابه عنه: (أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى) [النازعات:24]، (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي) [القصص:38].

وبلغ فساد فرعون وعلوه في الأرض منتهاه لما أخبره سحرته وكهنته بأنه سيخرج من بني إسرائيل طفل يكون زوال ملك فرعون على يديه، فاستشاط فرعون غضبًا وأخذ يفكر في مكافحة هذا الخطر القادم عليه كما يفكر طغاة كل زمن وعصر، فهداه عقله الضال إلى التصفية الجسدية، فأخذ يذبح أبناء بني إسرائيل فلا يعلم عن مولود ولد إلا وهو يرسل إليه من يذبحه ظنًّا منه أنه يستطيع القضاء على هذا الخطر بزعمه: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [القصص:4].

كان فرعون يعمد إلى قتل كل مولود يولد في بني إسرائيل في سنة كاملة ويترك المواليد في السنة الأخرى، واقتضت حكمة الله -عز وجل- أن يكون موسى -عليه السلام- من مواليد السنة التي يقتل فيها فرعون الأطفال؛ من أجل أن يظهر عجز فرعون وضعفه وعدم قدرته في الوقوف أمام ما يريد الله -عز وجل-.

وولد الغلام موسى -عليه السلام- ونشأ وترعرع في القصة المعروفة في كنف فرعون وبيته، حتى إذا ما أراد الله -عز وجل- إرسال موسى وبعثه إلى فرعون وقومه كلمه ربه -عز وجل- في الوادي المقدس طُوى، وكلفه بالرسالة، وطلب منه أن يذهب إلى فرعون وقومه: (وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى * فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِي يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى * إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي * إِنَّ السَّاعَةَ ءاَتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى * فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لاَ يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى) [طه:9-16]، إلى أن قال الله -عز وجل-: (اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى) [طه:24].

فلما أتى موسى -عليه السلام- فرعون أبلغه برسالة الله: (فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى) [طه:47].

جُنَّ جنون فرعون غضبًا على هذا الغلام الذي نشأ في كنفه وأكل من نعمته ثم هو يخاطبه بهذا الخطاب! فقال -كما ذكر ربنا عز وجل في كتابه-: (قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ * وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنتَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ * فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ * وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ) [الشعراء:18-22].

ثم أخذ فرعون يجادله ويناقشه، وموسى -عليه الصلاة والسلام- يرد عليه بالبراهين الساطعة، والحجج القاطعة، والبينات الدامغة: (قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ * قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إن كُنتُم مُّوقِنِينَ) [الشعراء:23-24].

قال فرعون كما ذكر الله -عز وجل-: (قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ * قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) [الشعراء:25-26]، فقال فرعون لجنده وأعوانه: (قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27]، فرد موسى -عليه السلام-: (قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ) [الشعراء:28].

وأخذت آيات الله تأتيهم تباعًا لكنهم مستكبرون، أصموا آذانهم وأعموا أبصارهم، بل سخِروا من آيات الله واستهزؤوا بها! (فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ * وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الزخرف: 47-48].

ولكن لم تزدهم هذه الآيات والبينات إلا علوًّا وتكبرًا وطغيانًا وفسادًا، عندئذ لجأ عدو الله فرعون إلى أسلوب السخرية والاستهزاء واللمز والطعن بموسى -عليه السلام-، وهذا ما نشاهده اليوم من الإعلام الكاذب الذي يهزأ بالدعاة الصادقين، ويهزأ بالمجاهدين، ويهزأ بالدعاة إلى تطبيق الشريعة في كل زمان ومكان.

(قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ) [الشعراء:27]، وقال: (أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ) [الزخرف:52]، ولكن هذا المنطق، منطق السخرية واللمز والطعن هو منطق الضعفة العاجزين عن الوقوف لمنازلة الحجة بالحجة والبينة بالبينة.

ولأن هذا السلاح لا يفيد شيئًا، يلجأ الطغاة وأعداء الرسل حين يرون شمس الهدى تستهوي الباحثين عن السعادة والنور إلى أسلوب تلفيق التهم الباطلة وتدبير المؤامرات الخبيثة، فما كان من فرعون -عليه لعنة الله- إلا أن اتهم موسى -عليه السلام- بأنه يريد أن يُظهر في الأرض الفساد، يريد أن يبدل دين القوم: (وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر:26].

أي دين هذا الذي يخاف فرعون من تغييره وتبديله؟! إنه دين عبادة فرعون، دين السحرة والكهان، يخاف تبديله إلى الدين الحق، وهو عبادة الله وحده!!

وأي فساد يخشى الطاغية فرعون أن يُظهره موسى؟! إنه القضاء على استعباد فرعون لقومه واستضعافه لهم، ولعبه بمقدراتهم.

إنه انتكاس المفاهيم، واختلال المعايير، موسى الأمين الذي يدعو الناس إلى الدين الحق، يدعوهم إلى عبادة الله وحده هو الذي يريد أن يغير الدين! موسى الأمين الذي يدعو إلى عدم استضعاف الناس واستعبادهم هو الذي يريد أن يظهر في الأرض الفساد!!

إنه منطق الطغاة وأعداء الرسل دائمًا وأبدًا في كل زمان ومكان، حينما يرون دعاة الهدى والحق ينشرون الخير ويأمرون بالمعروف ويحاربون المنكر ويدعون إلى إصلاح الأوضاع وتحكيم شريعة الله -عز وجل- يرميهم الطغاة بعظائم الأمور، فهم يريدون قلب الحكم، وهم يتخذون الدين مطية للوصول إلى أغراضهم وأطماعهم، وهم يثيرون الفتن والشغب، إلى غير ذلك من حلقات الاتهام ومسلسلات التآمر على الدعاة الصادقين.

وحاشية الطاغية فرعون وأعوانه يؤكدون هذه الحقيقة وينشرونها ويبثونها: (قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ * يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ * قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ) [الأعراف:109-112]، (وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ) [الأعراف:127].

لكن أصحاب العقول السليمة لا تنطلي عليهم هذه الادعاءات من الطاغية وزبانيته، وكيف تنطلي عليهم وهم يرون الحق أمامهم أبلج واضحًا لا غبار عليه؟! كيف يصدقون هذه التهم التي يلصقها الطاغية وحاشيته بالدعاة، بموسى ومن معه، وهم يرون الدعاة أمامهم أهل تقوى وورع وأمر بمعروف ونهي عن منكر وحب للخير والإصلاح، لا يريدون من الناس جزاءً ولا شكورًا؛ إنما يريدون أن يعبد الناس ربهم ويحكموا شرعه؟!

ولهذا؛ لما رأى السحرة الحق واضحًا جليًّا يدعو إليه موسى -عليه السلام- مؤيدًا بالبينات من ربه؛ ما كان منهم إلا أن آمنوا وأذعنوا وأسلموا لله رب العالمين: (فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى) [طه:70-71].

قالوا -بعد أن ذاقوا حلاوة الإيمان وحلاوة التوحيد-: (قَالُوا لَن نُّؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه:72-73].

وأصبح هؤلاء المؤمنون مثالاً يُحتذى به في الصبر والتضحية والثبات على الدين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأصبحوا قدوات يقتدي بهم المؤمنون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.

وهكذا يظن الطغاة أنهم بتصفيتهم للدعاة والمخلصين يقضون عليهم، وما دروا أنهم وإن قتلوهم فهم أبطال يقتدي بهم المؤمنون إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وكم رأينا في زماننا المعاصر من طغاة ساموا شعوبهم سوء العذاب، قتلوا من قتلوا وصلبوا من صلبوا ونفوا من نفوا وحالوا بين الناس وبين أن يعبدوا الله -عز وجل-، وأن يطبقوا شريعة ربهم -عز وجل-، فذهب الطغاة على عظم مكرهم وكيدهم ومؤامراتهم وقتلهم وجبروتهم، وبقي الدعاة إلى الله، وبقي المؤمنون الموحدون الصادقون.

نسأل الله -عز وجل- أن يرينا في طغاة الشام عجائب قدرته، إنه على كل شيء قدير.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب؛ إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، محمد وآله وصحبه وسلم.

أما بعد:

فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وعليكم بجماعة المسلمين؛ فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذّ عنهم شذّ في النار.

أيها الإخوة المسلمون: حينما أحسّ فرعون بعجز حيله وأسلحته لصد الناس عن اتباع الحق الذي جاء به موسى، وحينما رأى ذلك الحق والنور يتهافت الناس عليه ويقبلون إليه مذعنين لأنه منطق لا لبس فيه ولا غموض، لجأ إلى السلاح الأخير وهو سلاح التصفية الجسدية، فهدد السحرة بتقطيع أيديهم وأرجلهم وتصليبهم في جذوع النخل إن هم بقوا على الإيمان بموسى.

وأخذ يعد العدة للقضاء على موسى وقومه، فأوحى الله إلى موسى -عليه السلام- أن يخرج من مصر، فخرج منها وقومه، فلما علم بهم فرعون جيَّش الجيوش لمحاصرتهم والفتك بهم: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ * فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ * إِنَّ هَؤُلَاء لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ * وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ * وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ * فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ * فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ * فَلَمَّا تَرَاءى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ * فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ * وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ * وَأَنجَيْنَا مُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) [الشعراء: 52-66].

عندها، في اللحظات الأخيرة، آمن فرعون! (قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ) [يونس:90]، لكن هيهات هيهات! (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ) [يونس:91]، وهكذا تكون نهاية الباطل ونهاية الظلم مهما أزبد وأرعد وطالت أيامه، أَلا إن نهايته أكيدة، وزواله أكيد.

وأصبح ذلك اليوم الذي أنجى الله فيه موسى وقومه وأهلك فيه فرعون وقومه من أيام الله المشهودة التي نصر الله فيها الحق على الباطل، وأصبح ذلك اليوم الذي يوافق العاشر من هذا الشهر -شهر الله المحرم- يومًا يصومه المسلمون لله رب العالمين، وجاء في فضل صيامه قوله -صلى الله عليه وسلم- لما سئل عن صيام يوم عاشوراء: "إنه يكفر السنة الماضية".

فاحرصوا -رحمكم الله- على صيام يوم العاشر، وإن صمتم يومًا قبله فهو أولى؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لئن حييت إلى قابل لأصومن التاسع مع العاشر"، ومن صام العاشر مع الحادي عشر فلا حرج أيضًا؛ لأن الشهر كله محل للصوم، بل قد ذهب جماعة من أهل العلم المحققين إلى أن الأفضل صوم الأيام الثلاثة كلها.

ولكن مع هذا لو اقتصر المسلم على صيام يوم العاشر فلا حرج، لكن الأولى والأفضل أن يصوم التاسع معه أو يصوم العاشر مع الحادي عشر.

أيها الإخوة المسلمون: إن قصة موسى -عليه السلام- تمثّل قصة الصراع بين الحق والباطل، هذا الصراع الذي يتكرر دائمًا إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وأحداث هذه القصة هي بعينها أحداث كل صراع بين الحق والباطل على مَرِّ الزمان، حيث دعاة الحق يدعون الناس إلى الهدى والنور، وإلى عبادة الله وحده لا شريك له، ويدعون إلى تطبيق شرعه، وأن يكون الحكم لله في كل شأن من شؤون الحياة، يدعون إلى تخليص البشر من استعباد بعضهم لبعض، وسلب حرياتهم واستبدادهم؛ ودعاةُ الباطل على النقيض من ذلك يدعون إلى عبادة الهوى والشيطان، يدعون إلى الشهوات والملذات.

وهم مع أهل الحق في صراع دائم، وسجال مستمر، يسلكون في مضايقة أهل الحق وأهل الدعوة الأساليب التي سلكها فرعون نفسه، حيث السخرية والاستهزاء، وتكميم الأفواه، وإلصاق التهم، وتدبير المكايد، والتوعد بالسجن والقتل والصلب والنفي، وتنفيذ ما يقدرون عليه من ذلك.

ولكن الغلبة دائمًا وأبدًا للحق وأهله مهما طال ليل الظالمين، ومهما طال ليل الطغاة المجرمين، ومهما عاثوا في الأرض فسادًا وظلمًا، ومهما قتلوا وسجنوا ونفوا وصادروا، إن النهاية للحق وأهله لأن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة، وفي هلاك طاغية ليبيا وفرار طاغية تونس، وعما قريب هلاك طاغية الشام، عبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين.

نسأل الله -عز وجل- أن يرد الجميع إلى الدين ردًّا حميدًا، إنه على كل شيء قدير.

هذا؛ وصلوا وسلموا على نبيكم محمد بن عبد الله، فقد أمركم ربكم بهذا في كتابه فقال -عز من قائل-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك...