الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
العربية
المؤلف | عقيل بن محمد المقطري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ثالثًا: من نتائج الابتلاء: كشف المنافقين والنفعيين، المنافق الذي يجري وراء مصلحته، المنافق الذي يعرف الحق، ولكنه لا يقف معه المنافق، يلهث وراء مصلحته، هذا أيضًا يميز الله تعالى بهذه البلايا يميز المنافقين أصحاب المنافع الذين إذا انقضت مصالحهم قلبوا ظهر المجن، وصاروا يتلونون كأصحاب...
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَساءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ) [النساء : 1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) [الأحزاب: 70-71].
أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد- صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار .
فإن الله تعالى خلق الخلق ليبتليهم في هذه الحياة، والابتلاء سنة من سنن الله تعالى، قال الله تعالى: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [تبارك: 1-2]، أي يختبركم أيكم أحسن عملاً.
وحسن العمل يكون بالمتابعة وبالإخلاص المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- والإخلاص لله- عز وجل- في العبادات بأن تكون لله تعالى، يقول الله جل شأنه: (الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 1-3].
فهذه الحياة دار ابتلاء، وحقيقة الابتلاء: الفتنة والاختبار بالخير والشر بالطاعة والمعصية، فالحياة كلها دائرة بين هذه الأمور.
إن الله يبتلي بالخير لينظر هل يُشكر أم يكفر أم يبطر أم يطغى ويتكبر ويتجبر. ويبتلى بالفقر لينظر هل العبد سيصبر هل سيشكر الله تعالى على هذه الحال، هل سيتسخط هل سيؤمن بقضاء الله وقدره، وأنه سبحانه وتعالى مقسم الأرزاق، وهو الذي يقسم المعيشة بين الناس، فهذا غني وهذا فقير، هذا بين هذين الصنفين، فالحياة كلها دائرة في مجال الابتلاء، كل إنسان في هذه الحياة متبلى، صاحب الصحة بصحته، صاحب المرض بمرضه، وصاحب الملك بملكه، وصاحب المال بماله، وصاحب الوجاهة بوجاهته، وهكذا فكل الناس يعيش في دائر الابتلاء .
والله تعالى إنما يبتلى ليتميز المؤمن من المنافق، ويتميز المسلم من الكافر، إن الحياة كلها تدور حول الابتلاء.
والابتلاء- أيها الإخوة الفضلاء- أنواع: من أنواع الابتلاء: الابتلاء بالمصائب في حديث أبي سعيد الخدري قال: "دخلت على النبي- صلى الله عليه وسلم -وهو يوعك . فوضعت يدي عليه فوجدت حرة بين يدي فوق اللحاف.
فقلت: يا رسول الله ما أشدها عليك؟
قال : إنا كذلك يضعف لنا البلاء ويضعف لنا الأجر.
قلت: يا رسول الله أيّ الناس أشد بلاء؟
قال : الأنبياء .
قلت: يا رسول الله ثم من؟
قال : ثم الصالحون.
إن كان أحدهم ليبتلى بالفقر حتى ما يجد أحدهم إلا العباءة يحويها، وإن كان أحدهم ليفرح بالبلاء كما يفرح أحدكم بالرخاء".
وفي حديث أم سلمة -رضي الله عنها- أنها قالت : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ : "مَا مِنْ مُسْلِمٍ تُصِيبُهُ مُصِيبَةٌ فَيَقُولُ مَا أَمَرَهُ اللَّهُ: إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ اللَّهُمَّ أجرني في مصيبتي وَأَخْلِفْ لي خَيْرًا مِنْهَا. إِلاَّ أَخْلَفَ اللَّهُ لَهُ خَيْرًا مِنْهَا".
قَالَتْ: فَلَمَّا مَاتَ أَبُو سَلَمَةَ قُلْتُ: أي الْمُسْلِمِينَ خَيْرٌ مِنْ أَبِي سَلَمَةَ أَوَّلُ بَيْتٍ هَاجَرَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. ثُمَّ إني قُلْتُهَا، فَأَخْلَفَ اللَّهُ لي رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-
قَالَتْ : أَرْسَلَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَاطِبَ بْنَ أَبِي بَلْتَعَةَ يَخْطُبُنِي لَهُ .
فَقُلْتُ: إِنَّ لي بِنْتًا وَأَنَا غَيُورٌ. فَقَالَ: "أَمَّا ابْنَتُهَا فَنَدْعُو اللَّهَ أَنْ يُغْنِيَهَا عَنْهَا، وَأَدْعُو اللَّهَ أَنْ يَذْهَبَ بِالْغَيْرَةِ". فهذا نتيجة الطاعة لأمر النبي -صلى الله عليه وسلم- وللرضا بقضاء الله وقدره.
من أنواع الابتلاء: الابتلاء بالنعم وبالخير، ومن ذلك سليمان -عليه السلام - ابتلاه الله تعالى بأن أتاه الله تعالى ملكاً هذا الملك الذي دعا ربه ألا يؤتيه أحد بعده، فكان له من الملك ما كان له من الابتلاء، ما كان منها أنه حينما طلب من يأتيه بعرش بلقيس (قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آَتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآَهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل: 40]، فشكر الله- عز وجل- هذا النبي الكريم الذي أتاه الله ملكا لا ينبغي لأحد من بعده.
لهذا نتذكر هذا الدعاء نبينا- صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث "صلينا مع رسول الله- صلى الله عليه و سلم- صلاة مكتوبة فضم يده في الصلاة . فلما صلى قلنا يا رسول الله: أحدث في الصلاة شيء؟ قال: "لا، إلا أن الشيطان أراد أن يمر بين يدي فخنقته حتى وجدت برد لسانه على يدي، وأيم الله لولا ما سبقني إليه أخي سليمان لارتبط إلى سارية من سواري المسجد حتى يطيف به ولدان أهل المدينة".
هذا الابتلاء ابتلى ربنا- عز وجل- به سليمان- عليه السلام- نبي الرحمة، فالابتلاء ليس كما يتبادر لكثير من الناس أن الابتلاء لا يكون إلا للفقير إلا للمريض إلا للرجل الذي لا يؤبه له. لا، بل الابتلاء يكون للأنبياء يكون للأغنياء، ويكون لأصحاب الوجاهة أشد ما يكون، فإذا كان الأنبياء يبتلون، فكذلك من ليس نبيًّا يبتلى كذلك، والأمر كما قال- صلى الله عليه وسلم-: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ".
وهذا إن دل على شيء، فإنما يدل على أن الكافر ليس له من أمره شيء فيه خير له، وإنما يعجل له في هذه الدنيا "عجبًا لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيراً له وليس لذلك إلا لمؤمن".
وهكذا أيضًا من الابتلاء بالنعم ابتلاء الثلاثة الذين ذكرهم النبي- صلى الله عليه وسلم -في حديث الأقرع والأعمى والأبرص. فأما الأقرع والأبرص فجحدوا نعمة الله تعالى حين أبدلهم الله تعالى ذاك أبدله شعراً، وذاك أبدله جلداً حسناً، وذاك الأعمى أبدله الله تعالى بصراً، فأعطاهم بعد ذلك من المال ما أعطاهم كما تعرفون في قصتهم، فأرسل الله تعالى لهم ملكاً ليختبرهم وليبتليهم هل سيشكرون الله تعالى؟ هل سيتذكرون نعمة الله- عز وجل-؟
أما الأقرع والأبرص، فقالوا: ما عندنا شيء، هذا الأموال ورثناها أباً عن جد وكابراً عن كابر فأنكروا نعمة الله تعالى .
وأما الأعمى فقال : نعم والله . لقد كنت فقيراً وكنت أعمى، ورزقني الله تعالى ما ترى من هذه النعم، فخذ منها ما شئت ودع منها ما شئت .
فقال له ذلك الملك الذي أرسله الله تعالى: بارك الله تعالى لك في مالك، إنما ابتلاكم الله بي، فأخذ ما عند أولئك من المال وغضب عليهم، وأبقى ما عند الأعمى الذي رد الله تعالى له بصره، أبقى له ماله، وبارك له ورضي الله تعالى عنه.
من صور الابتلاء كذلك بالمعاصي، ومن صورها: أن الله- جل وعلا- ابتلى آدم، فقال تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَداً حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنْ الظَّالِمِينَ * فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ) [البقرة: 35-36] لكن الشيطان أضلهما وأزلهما، فأكلا منها فبدت لهما سؤاتهما، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين، هذا ابتلاء بالمعاصي نهاهما عن المعصية، ومع هذا وقعا في معصية الله- عز-وجل -هذا نوع آخر من أنواع الابتلاء.
ومن الابتلاء أيضا الابتلاء بالطاعات كما حدث لنبي الله إبراهيم- عليه السلام -مع ولده إسماعيل حينما أمره الله تعالى أن يذبح ابنه طاعة لله -عز وجل- فلذة كبده، قال الله تعالى: (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنْ الصَّابِرِينَ) [الصافات: 102]، ولما بلغا إلى مكان الذبح (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 103- 107].
بالرغم من أن الله تعالى ابتلى إبراهيم بأن يذبح ابنه طاعة لله -عز وجل- ليختبر إيمانه وليختبر صدقه بالرغم من هذا أتاه الشيطان في الطريق، وقال له: تذبح ولدك فلذة كبدك الولد الوحيد الذي انتظرته طويلاً؟ لكن مع هذا رمى الشيطان، وقال له: اخسأ ثم في الثانية رماه، وقال له: اخسأ ثم في الثالثة رماه، وقال له: اخسأ حتى إذا أخذ السكين وأراد أن يذبحه أرسل الله تعالى بالفداء لإسماعيل، قال الله تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ * وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ) [الصافات: 103-107].
إن الابتلاء في هذه الحياة، أيها الإخوة، سُنة ماضية ما من قضية في هذا الكون إلا وهي داخلة تحت هذا الإطار إطار الابتلاء. ما هو حاصل اليوم في العالم بأسره غنيه وفقيره، آمنه ومضطربه إنما هو نوع من أنواع البلايا ومن أنواع الابتلاء للناس هل يسلكون المسلك الصحيح من أجل أن يميز الله- عز وجل- الناس هل هم صابرون وشاكرون ؟
أم هم متضجرون وكافرون؟ هل هم واقفون على أمر الله تعالى أم هم متنكبون ؟ هل هم صادقون أم كاذبون؟
كل مجريات الحياة اليوم إنما هو داخل في هذا الإطار، وإن الكافر في مأمنه وفي نعمه، إنما هو ابتلاء من الله- عز وجل- يبتليهم لكنه سبحانه وتعالى يعطيهم في هذه الحياة؛ لأنها جنتهم وأما الآخرة فما لهم فيها من خلاق.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد:
إن للابتلاء حكم كثيرة، من هذه الحكم: أن يُصلح العبد علاقته مع الله- عز وجل- فربما ابتلاه الله- عز وجل- بشيء من المصائب فرجع إلى الله بسبب ذلك، يرجع إلى الله تعالى بالتوبة، يرجع إلى الله تعالى بالندم يرجع إلى الله تعالى بالاستغفار، يرجع إلى الله تعالى بالتعبد والتذلل والدعاء والخضوع لله- عز وجل- الانكسار بين يدي الله- عز وجل-.
ومن حكم الابتلاء أيضًا: إصلاح علاقة العبد بنفسه، فينظر مواطن الزلل في نفسه فيصلح من حاله ويتفقد طاعاته وعباداته، فيشغل نفسه بطاعة الله- عز وجل- وينشغل بنفسه بإصلاح هذه النفس الأمارة بالسوء، وهذه حكمة وغاية من غايات الابتلاء من ذلك أيضًا إصلاح للعبد فيما بينه وبين الناس، ولربما تذكر أنه ظلم نفسه، ولعل ما أصابه بسبب دعوة فلان المظلوم أو أخذ مال فلان فيرد إليه ماله أو سفك دم فلان يتحلل من ذلك أو سب عرضه، أو ما شاكل ذلك، فيعود ويؤوب، ويرجع إلى الله- عز وجل- ويحسن علاقته مع الناس، ويتذلل للناس ويخفض جناحه للناس، ولا يتكبر على الناس ويعرف حقيقة نفسه.
هذه حكمة أيضًا من حكم الابتلاء؛ لأن الإنسان إما أن يبتلى بالخير، فإن شكر الله- عز وجل- عرف حقيقة هذه النعمة، وعرف حق الله تعالى في هذه النعم، وعرف حق المسكين والسائل والمحروم والفقير والمتعفف، وما شاكل ذلك . وإما أن يبتليه بالمصيبة فيتذكر حاله، ويتذكر ضعفه ويتذكر من ظلم من الناس، فإذا به يرجع ويتقرب فيستغفر الله- عز وجل- وبعد أن كان الناس في خوف منه ومن حركاته إذا بهم يأمنون منه ويتعجبون لصلاح حاله.
أما حال الناس مع الابتلاء فهم على حالين: إمِّا مؤمن صابر شاكر، وإمِّا منافق إما يبطر وإما يتضجر، فإن أغناه الله تعالى بطر يبطر على هذه النعم، ويبطر على عباد الله تعالى، فيستغل هذه النعم في معصية الله- عز وجل- بجميع أشكالها وألوانها، وإما أن يبتليه الله- عز وجل- بالفقر فإذا به يتضجر وإذا به يتسخط، وإذا به يشكو الله- عز وجل- إلى خلقه، بل ربما تلفظ بألفاظ لا تليق بالمؤمن، فيقول: ما عرفتني إلاِّ أنا، ذاك فلان ما أخذت ماله، ولا سلبت ولده، ولا فعلت ولا فعلت، وأنا أفعل وأفعل ويبتليني بهذا الابتلاء، هذه من الأمور الخطيرة، فالمؤمن يصبر إذا نزلت به كارثة، ويشكر إذا حلت به نعمة، أما المنافق فإما أن يبطر وإما أن يضجر.
ولهذا الابتلاء نتائج عظيمة منها: تحقيق العبودية لله- عز وجل-، فمن تذلل لله وعرف حقارة نفسه، والتجأ إلى الله- عز وجل- واستغفره وانكسر بين يديه ظهرت له حقيقة عبوديته الله -عز وجل- وأنه مفتقر وبخاصة إلى ربه -عز وجل- .
ومن نتائجه أيضًا: توبة العصاة فكم من عاصٍ ابتلاه الله- عز وجل- فعاد إليه وأناب، واستغفر فبعد أن كان يرتكب شتى الجرائم إذا به من كبار العباد، ولا عيب في هذا على الإنسان، العيب أن يسترسل في معصية الله -عز وجل- لكن من الشيء الجيد أن يعرف الإنسان مكانته فيستغفر ويعود، وأحب الناس إلى الله- عز وجل- المستغفرين وخير الخطائين التوابون، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: من نتائج الابتلاء: كشف المنافقين والنفعيين، المنافق الذي يجري وراء مصلحته، المنافق الذي يعرف الحق، ولكنه لا يقف معه يلهث وراء مصلحته، هذا أيضًا يميز الله تعالى بهذه البلايا يميز المنافقين أصحاب المنافع الذين إذا انقضت مصالحهم قلبوا ظهر المجن، وصاروا يتلونون كأصحاب الوجهين الذين ذمهم الله عز وجل .
ومن النتائج أيضًا: محق الكافرين أن الله تعالى يمحق الكافرين ويمحق الظالمين ويمحق المتكبرين والمتجبرين، فأعمارهم في هذه الدنيا قصيرة، ثم يصيرون بعد ذلك لا يذكرون بل ربما تبعتهم اللعنات إلى قبورهم.
ومن نتائج الابتلاء: إظهار المؤمنين، فإن الله تعالى يظهر المؤمن كما أنه يكشف حال المنافقين، يظهر المؤمنين ويعلي شأنهم ويرفع من درجاتهم، ومن نتائجهم أنه يرفع درجات المؤمنين نتيجة سبّ المنافقين لهم نتيجة أذية المنافقين لهم، نتيجة أنهم ربما يكونون أحيانًا قلة في المجتمع، ولكن الله تعالى يعلي درجاتهم.
ومن نتائجها أيضًا تمكين المؤمنين في الأرض، إن العاقبة في النهاية هي للمؤمنين ليست للمنافقين ولا للظالمين ولا للجبارين ولا للمتكبرين العاقبة للتقوى، والعاقبة للمتقين.
والحمد لله رب العالمين.