الوارث
كلمة (الوراث) في اللغة اسم فاعل من الفعل (وَرِثَ يَرِثُ)، وهو من...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | السيرة النبوية |
إن أول معركة خاضها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مع الكفار بنفسه هي وقعة بدر، التي قلبت كيان الكفار، وزعزعت المراتب عند سائر القبائل، وزلزلت كيان قريش التي كانت تهيمن على المنطقة، كما...وكان المنافقون ومَن في قلبه مرض رأوا قِلَّة حزبِ الله وكثرةَ أعدائه، ظنُّوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا: (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال: 49]، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة، ولا بالعدد، والله عزيز لا يُغالَب، حكيم ينصر مَن يستحق النصر، وإن...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها الناس: لا يزال المرء يقتنص الفوائد والفرائد من حياة المصطفى -صلى الله عليه وآله وسلم-، ليست فوائد فحسب بل هي الحياة الحقيقية التي من لم يعمل بها فهو في الضلال يسير.
إن أول معركة خاضها النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- مع الكفار بنفسه هي وقعة بدر، التي قلبت كيان الكفار، وزعزعت المراتب عند سائر القبائل، وزلزلت كيان قريش التي كانت تهيمن على المنطقة، كما سيتضح ذلك جليًّا من خلال عرض مختصر لهذه الوقعة، ففي السنة الثانية في شهر رمضان بلغ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- خبر العير المقبلة من الشام لقريش صُحبةَ أبي سفيان، وهى العير التي خرجوا في طلبها لما خرجت مِن مكة، وكانوا نحو أربعين رجلاً، وفيها أموالٌ عظيمة لٍقريش، فندب رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الناسَ للخروج إليها، وأمر مَن كان ظهرُه حاضرًا بالنهوض، ولم يحْتَفِلْ لها احتفالاً بليغًا؛ لأنه خرج مُسْرِعًا في ثلاثمائة وبضعة عشر رجلاً، ولم يكن معهم من الخيل إلا فَرَسانِ: فرس للزبير بن العوام، وفرسٌ للمِقداد بن الأسود الكِندي، وكان معهم سبعون بعيرًا يَعْتَقِبُ الرجلان والثلاثةُ على البعير الواحد، ودفع اللِّواء إلى مُصعبِ بنِ عُمَير، والراية الواحدة إلى عليِّ بن أبي طالب، والأخرى التي للأنصار إلى سعد بن معاذ، وجعل على الساقة قيسَ بنَ أبي صَعْصَعَةَ، وأما أبو سفيان، فإنه بلغه مخرجَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقصده إياه، فاستأجر ضَمْضَمَ بنَ عَمْرو الغِفاري إلى مكة، مُستصْرخًا لقريش بالنَّفير إلى عِيرهم، ليمنعوه من محمد وأصحابه، وبلغ الصريخُ أهلَ مكة، فنهضوا مُسرِعين، وأوعبوا في الخروج، فلم يتخلَّفْ من أشرافهم أحدٌ سوى أبي لهب، فإنَّه عوَّض عنه رجلاً كان له عليه دَيْن، وحشدُوا فيمن حولهم من قبائل العرب، ولم يتخلف عنهم أحد من بطون قريش إلا بني عدي، فلم يخرُجْ معهم منهم أحد، وخرجوا مِن ديارهم كما قال تعالى: (بَطَراً وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) [الأنفال: 47]، وأقبلوا كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "بِحَدِّهِمْ وَحَدِيدِهِم، تُحَادُّهُ وَتُحَادُّ رَسُولَه"، وجاؤوا على حَرْدٍ قادرين، وعلى حميَّةٍ، وغضبٍ، وحَنَقٍ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابِه، لما يُريدون مِن أخذ عيرهم، وقتل مَن فيها.
فجمعهم اللهُ على غير ميعاد كما قال الله تعالى: (وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِى الْمِيعَادِ، وَلَـكِنْ لِّـيَقْضِىَ الله أمْرَاً كَانَ مَفْعُولاً) [الأنفال: 42].
ولما بلغَ رسولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- خروجُ قريش، استشار أصحابه، فتكلَّم المهاجِرون فأحسَنُوا، ثم استشارهم ثانيًا، فتكلم المهاجرون فأحسنوا، ثم استشارهم ثالثًا، ففهمت الأنصارُ أنه يَعنيهم، فبادر سعدُ بنُ معاذ، فقال: "يا رسول الله: كَأَنَّكَ تُعَرِّضُ بنا؟!"، وكان إنما يَعنيهم، لأنهم بايعوه على أن يمنعوه من الأحمر والأسود في ديارهم، فلما عزم على الخُروج، استشارهم لِيعلم ما عندهم، فقال له سعد: "لَعَلَّكَ تَخْشَى أَنْ تَكُون الأَنصارُ تَرَى حقًّا عليها أن لا ينصروك إلا في ديارها، وإني أقول عن الأنصار، وأُجِيب عنهم: فاظْعَنْ حَيْثُ شِئْت، وَصِلْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، واقْطَعْ حَبْلَ مَنْ شِئْتَ، وخُذْ مِنْ أمْوَالِنَا مَا شِئْتَ، وَأَعطِنَا مَا شِئْتَ، وَمَا أَخَذْتَ مِنَّا كَانَ أَحَبَّ إلَيْنَا مِمَّا تَرَكْتَ، ومَا أَمَرْتَ فِيهِ مِنْ أَمْرٍ فَأَمْرُنَا تَبَعٌ لأَمْرِكَ، فَواللهِ لَئِن سِرْتَ حَتَّى تَبْلُغ البَرْكَ مِنْ غمدَان، لَنَسِيرَنَّ مَعَكَ، وَوَاللهِ لَئِنِ اسْتَعْرَضْتَ بِنَا هذَا البَحْرَ خُضْنَاهُ مَعَكَ"، وقَالَ لَهُ المِقْدَادُ: "لا نَقُولُ لَكَ كَمَا قَالَ قَوْمُ مُوسَى لِمُوسى: اذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فقاتِلا إنَّا هَهُنَا قَاعِدُونَ، وَلَكِنَّا نُقَاتِلُ عَنْ يَمِينِكَ، وَعَنْ شِمَالِكَ، وَمِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ، وَمِنْ خَلْفِكَ". فأشرق وَجْهُ رَسُولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وسُرَّ بِمَا سَمِعَ مِنْ أصحابِه، وقالَ: "سِيرُوا وأَبْشروا، فإنَّ الله قَدْ وَعَدَني إحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ، وإنِّي قَدْ رَأَيْتُ مَصارعَ القَوْمِ".
فسار رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- إلى بدر، وخَفَضَ أبو سفيان فَلَحِقَ بساحل البحر، ولما رأى أنه قد نجا، وأحرز العير، كتب إلى قريش: أن ارجعوا، فإنكم إنما خرجتُم لِتُحْرِزُوا عيركم. فأتاهم الخبرُ وهم بالجُحْفَةِ، فهمُّوا بالرجوع، فقال أبو جهل: واللهِ لا نرجع حتى نَقْدمَ بدرًا، فنقيمَ بها، ونُطعِمَ مَنْ حَضَرَنَا مِن العرب، وتخافُنَا العربُ بعد ذلك، فأشار الأخنس بن شُريق عليهم بالرجوع، فَعَصَوْه، فرجع هو وبنو زُهرة، فلم يشهد بدرًا زُهري، فاغتبطت بنو زُهرة بعدُ برأي الأخنس، فلم يزل فيهم مطاعًا معظمًا، وأرادَتْ بنو هاشم الرجوع، فاشتدَّ عليهم أبو جهل، وقال: لا تُفَارِقُنَا هذه العصابة، فأنزل الله -عزَّ وجلَّ- في تلك الليلة مطرًا واحدًا، فكان على المشركين وابلاً شديدًا منعهم من التقدم، وكان على المسلمين طَلاًّ طهَّرهم به، وأذهب عنهم رجْسَ الشيطان، ووطَّأ به الأرضَ، وصلَّب به الرملَ، وثـبَّتَ الأقدام، ومهَّدَ به المنزل، وربطَ به على قلوبهم، فسبق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه إلى الماء، فنزلوا عليه شطرَ الليل، وصنعوا الحياض، ثم غوَّروا ما عداها من المياه، ونزل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه على الحياض. وبُنِيَ لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- عريش يكون فيها على تلٍّ يُشرِفُ على المعركة، ومشى في موضع المعركة، وجعل يُشير بيده، هذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان، وهذا مصرع فلان إن شاء الله، فما تعدى أحد، فلما طلع المشركون، وتراءى الجمعانِ، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "اللَّهُمَّ هذه قُرَيْشٌ جَاءَتْ بِخيلائِها وفَخْرِهَا، جَاءَتْ تُحادُّك، وَتَكَذِّبُ رَسُولَكَ". وقام، ورفع يديه، واستنصر ربَّه وقال: "اللَّهُمَّ أنْجِزْ لي مَا وَعَدْتَنِي، اللَّهُمَّ إنِّي أَنْشُدُكَ عَهْدَكَ وَوَعْدَكَ"، فالتزمه الصِّدِّيق من ورائه، وقال: "يا رسول الله: أبشر، فوالذي نفسي بيده، لَيُنجِزَنَّ الله لكَ ما وَعَدَكَ".
واستنصر المسلمون الله، واستغاثوه، وأخلصوا له، وتضرَّعُوا إليهِ، فَأَوْحَى الله إلى مَلائِكَتِهِ: (أنِّى مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِى فِى قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ) [الأنفال: 12].
وأَوْحَى الله إلى رسوله: (أنِّى مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ المَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) [الأنفال: 9]، قرئ بكسر الدال وفتحها، فقيل: المعنى إنهم رِدْفٌ لكم. وقيل: يُرْدِفُ بعضُهم بعضًا أرسالاً، لم يأتوا دَفعةً واحدة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين...
أما بعد:
فيا أيها الناس: لقد كان من عادة العرب في القتال أن يبدؤوا الحرب بالمبارزة، وفي هذه الغزوة خرج عتبةُ وشيبةُ ابنا ربيعة، والوليدُ بن عُتبة، يطلبون المبارزة، فخرج إليهم ثلاثةٌ من الأنصار: عبدُ الله بن رواحة، وعوفٌ، ومُعَوٍّذٌ ابن عفراء، فقالوا لهم: مَن أنتم؟! فقالوا: من الأنصار. قالوا: أكفَاءٌ كِرام، وإنما نُريد بني عمنا، فبرز إليهم عليٌ وعُبيدة بن الحارث وحمزةُ، فقتل عليُّ قِرْنَه الوليد، وقتل حمزة قِرنه عُتبة، وقيل: شيبةُ، واختلف عُبيدة وقِرنُه ضربتين، فكَّر عليُّ وحمزةُ على قِرن عُبيدة، فقتلاه واحتملا عُبيدة وقد قُطِعت رجله، فلم يزل ضَمِنًا، حتى مات بالصَّفْراءِ.
وكان عليُّ يُقسِمُ بالله: لنزلت هذه الآيةُ فيهم: (هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِى رَبِّهِمْ...) [الحج: 19] الآية.
ثم حمي الوطيسُ، واستدارت رَحى الحربِ، واشتدَّ القِتال، وأخذ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- في الدعاء والابتهالِ، ومناشدة ربِّه -عَزَّ وجَلَّ-، حتى سقط رداؤه عن منكبيه، فردَّه عليه الصِّدِّيق، وقال: "بعضَ مُناشَدَتِكَ ربَّكَ، فإنَّهُ منجزٌ لَكَ ما وَعَدَكَ".
فأغفى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إغفاءة واحدة، وأخذ القومَ النعاسُ في حال الحربِ، ثم رفعَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- رأسَه فقال: "أَبْشِرْ يا أَبَا بَكْر، هذا جِبْرِيلُ عَلَى ثَنَايَاه النَّقْع".
وكان المنافقون ومَن في قلبه مرض رأوا قِلَّة حزبِ الله وكثرةَ أعدائه، ظنُّوا أن الغلبة إنما هي بالكثرة، وقالوا: (غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ) [الأنفال: 49]، فأخبر سبحانه أن النصر بالتوكل عليه لا بالكثرة، ولا بالعدد، والله عزيز لا يُغالَب، حكيم ينصر مَن يستحق النصر، وإن كان ضعيفًا، فعزتُه وحكمتُه أوجبت نصرَ الفئةِ المتوكِّلَةِ عليه.
ولما دنا العدو وتواجه القومُ، قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الناس، فوعظهم، وذكَّرهم بما لهم في الصبر والثباتِ مِن النصرِ، والظفرِ العاجِلِ، وثوابِ اللهِ الآجل، وأخبرهم أن الله قد أوجبَ الجنة لمن استشهد في سبيلِهِ، فقام عُمَيْرُ بنُ الحُمَامِ، فَقَالَ: يا رسولَ اللهِ: جَنَّةٌ عَرْضُهَا السَّماواتُ والأَرْضُ؟! قال: "نَعَمْ". قال: بَخٍ بَخٍ يَا رَسولَ اللهِ. قالَ: "مَا يَحْمِلُكَ عَلَى قَوْلِكَ بَخٍ بَخٍ؟!"، قال: لا واللهِ -يا رَسُولَ اللهِ- إلاَّ رَجَاءَ أنْ أكُونَ مِنْ أَهْلِهَا. قَالَ: "فَإنَّكَ مِنْ أَهْلِهَا"، قال: فأَخرَجَ تَمَرَاتٍ مِنْ قَرَنِهِ، فَجَعَلَ يأكُلُ مِنْهُنَّ، ثم قال: لَئِنْ حَيِيتُ حَتَّى آكُلَ تَمَرَاتِي هذِهِ إِنَّهَا لَحَيَاةٌ طَوِيلةٌ، فَرَمَى بِمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ التَّمْرِ، ثُمَّ قَاتَلَ حَتَّى قُتِلَ. فكان أول قتيل.
وأخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مِلءَ كَفِّهِ مِنَ الحصباءِ، فَرَمَى بِهَا وجوهَ العَدُوِّ، فلم تترك رَجُلاً مِنهم إلاَّ ملأَتْ عينيه، وشُغِلُوا بالتراب في أعينهم، وشُغِلَ المسلمُونَ بقتلهم، فأنزل الله في شأن هذه الرمية على رسوله: (وَمَا رَمَيْتَ إذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَى) [الأنفال: 17].
وكانت الملائكة يومئذ تُبادِرُ المسلمين إلى قتل أعدائهم، قال ابن عباس: "بَيْنَمَا رَجُلٌ مِنَ المُسْلِمِينَ يَوْمَئِذٍ يَشْتَدُّ في أَثَرِ رَجُلٍ مِنَ المُشْرِكِينَ أَمَامَهُ، إذ سَمِعَ ضَرْبَةً بِالسَّوْطِ فَوْقَه، وَصَوْتُ الفَارِسِ فَوْقَهُ يَقُولُ: أَقْدِمْ حَيْزُوم، إذْ نَظَرَ إلَى المُشْرِكِ أَمَامَهُ مُسَتَلْقِياً، فَنَظَرَ إلَيْهِ، فَإذَا هُوَ قَدْ خُطِمَ أَنْفُهُ، وَشُقَّ وَجْهُهُ، كَضَرْبَةِ السَّوْطِ، فَاخْضَرَّ ذلِكَ أجْمَعُ، فَجَاءَ الأَنْصَارِيُّ، فَحَدَّثَ بِذَلِكَ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَقَالَ: "صَدَقْتَ، ذَلِكَ مِنْ مَدَدِ السَّمَاءِ الثالث".
وقال أبو داود المَازِني: "إنِّي لأتْبَعُ رَجُلاً مِن المُشْرِكِينَ لأَضْرِبَه، إذْ وَقَع رَأْسُه قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ سَيْفِي، فَعَرَفْتُ أَنَّهُ قَدْ قَتَلَهُ غَيْرِي".
وجاء رجلٌ مِن الأنصار بالعبَّاسِ بنِ عبد المطلب أسيرًا، فقال العباسُ: إنَّ هذا واللهِ ما أسرني، لقد أسرني رجل أجلح، مِن أحسن النَّاسِ وجهًا، على فرسٍ أبْلَق، ما أراه في القومِ، فقال الأنصاري: أنا أسرتُه يا رسول اللهِ، فقال: "اسْكُتْ، فَقَدْ أيَّدَكَ اللهُ بِمَلَكٍ كَرِيمٍ". وأُسِر من بني عبد المطلب ثلاثة: العباسُ، وعقيلٌ، ونوفل بن الحارث.
واستفتح أبو جهل في ذلك اليوم، فقال: اللَّهُمَّ أقطعنا للرحم، وآتانا بما لا نعرفه، فأَحِنْهُ الغداة، اللَّهُمَ أيُّنَا كان أحبَّ إليكَ، وأرضى عِنْدَكَ، فانصره اليومَ، فأنزل الله -عَزَّ وجَلّ-: (إن تَسْتَـفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإن تَنْتَهُـواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإنْ تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِىَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً ولَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللهَ مَعَ الْمُؤمِنِينَ) [الأنفال: 19].
وجاء النصر، وأنزل الله جنده، وأيَّد رسوله والمؤمنين، ومنحهم أكتافَ المُشركِينَ أسرًا وقتلاً، فقتلوا منهم سبعين، وأَسرُوا سبعينَ، ولما بردت الحربُ، وولَّى القومُ منهزمينَ، قال رسولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ يَنْظُرُ لَنَا مَا صَنَعَ أَبُو جَهْلٍ؟!"، فانطلق ابنُ مسعودٍ، فوجَدَهُ قد ضَرَبَهُ ابنا عَفْراء حتَّى بَرَدَ، وأَخَذَ بِلِحْيَتِهِ فقال: أنْتَ أَبُو جَهْلٍ؟! فَقَالَ: لِمَن الدَّائِرةُ اليوم؟! فقال: للهِ وَلِرَسوله، وهَلْ أَخْزَاكَ اللهُ يَا عَدُوَّ اللَّهِ؟! فقال: وهل فَوْقَ رَجُلٍ قَتَلَهُ قَوْمُهُ؟! فَقَتَلَهُ عبدُ اللهِ، ثم أتى النبي -صلى الله عليه وسلم-، فقال: قتلتُه، فقال: "آللهِ الَّذِي لا إله إلا هُو"، فردَّدَهَا ثلاثًا، ثم قال: "الله أكبر، الحمد لله الذي صدق وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده، انطلق أرنيه". فانطلقنا فأريته إياه، فقال: "هذا فِرْعَوْنُ هَذِهِ الأُمَّةِ".
ولما انقضتِ الحربُ، أقبلَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- حَتَّى وقَفَ عَلَى القَتْلَى فقال: "بِئْسَ عَشيرةُ النبي كُنْتُم لِنَبِّيكُم، كَذَّبْتُمُوني وصَدَّقَني النَّاسُ، وخَذَلْتَموني ونَصَرَني النَّاسُ، وأَخْرَجْتمُوني وآواني النَّاسُ".
ثم أمر بهم، فسُحِبوا إلى قَلِيبٍ مِن قُلُب بدر، فطُرِحُوا فيه، ثم وقف عليهم، فقال: "يا عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، ويا شَيْبَةَ بْنَ رَبيعَةَ، ويا فلانُ، ويا فُلانُ: هَل وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَكُمْ ربُّكم حَقًّا، فَإنِّي وَجَدْتُ مَا وَعَدَنِي رَبِّى حَقًّا"، فقال عُمَرُ بنُ الخطاب: يا رَسُولَ اللهِ: ما تُخَاطِبُ مِنْ قوام قَدْ جَيَّفُوا؟! فقالَ: "والَّذِي نَفْسِى بِيَدِهِ، مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ لِمَا أَقُولُ مِنْهُم، وَلَكِنَّهُمْ لا يَسْتَطِيعُونَ الجَوَابَ"، ثم أقامَ رسولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بِالعَرْصَةِ ثَلاثًا، وكان إذا ظَهَرَ عَلَى قَوْمٍ أَقَامَ بِعَرْصَتِهِم ثلاثًا.
ثم ارتحل مؤيَّدًا منصورًا، قريرَ العين بنصر الله له، ومعه الأسارى والمغانمُ، ودخل النبي -صلى الله عليه وسلم- المدينةَ مؤيَّدًا مظفَّرًا منصورًا قد خافه كُلُّ عدوٍ له بالمدينة وحولَها، فأسلم بَشَر كثير مِن أهل المدينة، وحينئذ دخل عبد الله بن أُبَي المنافقُ وأصحابُه في الإسلام ظاهرًا.
معاشر المسلمين: لقد ارتسمت دروس وعبر عبر هذه الغزوة، نأتي عليها مع بعض القصص التي وقعت في الخطبة القادمة بإذن الله.