الباطن
هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...
العربية
المؤلف | محمد بن عدنان السمان |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
لقَدِ اهتمَ الإسلامُ بالعلم اهتمامًا بالغًا؛ لأنهُ سبيلُ معرفةِ اللهِ تعالَى وتوحيدِهِ وعبوديتِهِ، ولأنَّ العلم أساسُ نَهضةِ الأممِ وتقدمِهَا وحضارتِهَا، وهُوَ سببُ سعادةِ المرءِ فِي الدنيَا والآخرةِ، وليسَ غريبًا أنْ تنْزلَ أولُ آيةٍ مِنْ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ تدعُو إلَى العلم والمعرفةِ وتنوِّهُ بقيمةِ القراءةِ، لأنَّهَا أعظمُ...
الحمد لله الذي يُفقِّه مَن أراد به خيرًا في الدين، ويرفع بالعلم درجات العُلَماء العامِلين، فيجعَلهم أئمَّة للمتَّقين، وهُداة لعالمين، لَمَّا صبَرُوا وكانوا بآياته مُوقِنين، أحمَدُه سبحانه هو الكريم الأكرم الذي علَّم بالقلم، علَّم الإِنسان ما لم يعلَم، وأشهَدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له، هو الرحيم الرحمن، الذي علَّم القرآن، خلَق الإنسان علَّمَه البيان.
وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله الذي أنزل عليه الكتاب والحكمة، وعلَّمَه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه عظيمًا: ? هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ? [الجمعة: 2 - 4].
صلَّى الله وسلَّم عليه وعلى آله وأصحابه الأئمَّة المهديِّين والسادة المقرَّبين، الذين آمَنوا به وعزَّروه ونصَرُوه، واتَّبَعوا النور الذي أُنزِل معه، أولئك هم المُفلِحون.
أمَّا بعد:
أما بعد: ففي تفسير القرآن العظيم للإمام ابن كثير رحمه الله تعالى وغيره قال: لما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة قدم عليه حبران من أحبار أهل الشام -الحبر العالم من علماء اليهود-، فلما أبصرا المدينة قال أحدهما لصاحبه: ما أشبه هذه المدينة بصفة مدينة النبي الذي يخرج في آخر الزمان! فلما دخلا على النبي صلى الله عليه وسلم عرفاه بالصفة والنعت، فقالا له: أنت محمد ؟ قال: "نعم" قالا: وأنت أحمد؟ قال: "نعم" قالا: نسألك عن شهادة، فإن أنت أخبرتنا بها آمنا بك وصدقناك، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم: "سلاني" فقالا: أخبرنا عن أعظم شهادة في كتاب الله، فأنزل الله تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18] فأسلم الرجلان، وصدقا برسول الله صلى الله عليه وسلم.
أيها المسلمون: العلم منزلته عظيمة، وحملته من العلماء شرفهم عظيم، وفضلهم كبير، فيكيفهم شرفا ما ذكرنا في الآية السابقة من قول الله تعالى: (شَهِدَ اللّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمَاً بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [آل عمران: 18].
قال الإمام ابن كثير رحمه الله: "شهد تعالى، وكفى به شهيدا، وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم، وأصدق القائلين: (أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ)أي: المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، وأن الجميع عبيده وخلقه، والفقراء إليه، وهو الغني عما سواه؛ كما قال تعالى: (لكن الله يشهد بما أنزل إليك أنزله بعلمه والملائكة يشهدون وكفى بالله شهيدا) [النساء: 166]".
ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته، فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم) وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام.
وفي شرف العلم أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم، فقال: (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طـه: 114], فلو كان شيئا أشرف من العلم لأمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يسأله المزيد منه؛ كما أمر أن يستزيده من العلم.
وهنيئاً لَهُمْ شهادةُ اللهِ بأنَّهمْ أشدُّ النَّاسِ خشيةً لهُ، قالَ تعالَى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ) [فاطر: 28].
لقَدِ اهتمَ الإسلامُ بالعلم اهتمامًا بالغًا؛ لأنهُ سبيلُ معرفةِ اللهِ تعالَى وتوحيدِهِ وعبوديتِهِ، ولأنَّ العلم أساسُ نَهضةِ الأممِ وتقدمِهَا وحضارتِهَا، وهُوَ سببُ سعادةِ المرءِ فِي الدنيَا والآخرةِ، وليسَ غريبًا أنْ تنْزلَ أولُ آيةٍ مِنْ كتابِ اللهِ عزَّ وجلَّ تدعُو إلَى العلم والمعرفةِ وتنوِّهُ بقيمةِ القراءةِ، لأنَّهَا أعظمُ وسائلِ اكتساب العلم، فقدْ قالَ تعالَى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ * الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق: 1-5].
وحثَّنَا النبيُّ صلى الله عليه وسلم علَى طلبِ العلم؛ وجعلَهُ طريقاً إلَى الجنَّةِ، ففي صحيح مسلم قالَ صلى الله عليه وسلم: "... ومن سلكَ طريقًا يلتمسُ فيه علمًا، سهَّل اللهُ له به طريقًا إلى الجنةِ، وما اجتمعَ قومٌ في بيتِ من بيوتِ اللهِ، يتلون كتابَ اللهِ، ويتدارسونه بينهم، إلا نزلتْ عليهم السكينةُ، وغشيتْهم الرحمةُ وحفّتهم الملائكةُ، وذكرَهم اللهُ فيمن عنده ..." الحديث.
عبادَ اللهِ: هَا هوَ نبينا ورسولنا صلى الله عليه وسلم يصوِّرُ مكانةَ العلم والعلماء؛ فيقولُ صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: "إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَوَاتِ وَالأَرَضِينَ حَتَّى النَّمْلَةَ فِي جُحْرِهَا وَحَتَّى الْحُوتَ لَيُصَلُّونَ عَلَى مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ".
وأخبرَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم: أنَّ اللهَ إذَا أرادَ بعبدٍ خيراً رزقَهُ العلم النَّافعَ، في الصحيحين قالَ النبي صلى الله عليه وسلم: "مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ".
عبادَ اللهِ: ولئنْ كانَتْ هذهِ درجةُ العلم والعلماء فحريٌّ بنَا أنْ نُجلَّهُمْ ونعرفَ قدرَهُمْ ومنْزلتَهُمْ، يقولُ سيد العلماء وإمامُ الأنبياءِ صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: "لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرَفْ لِعَالِمِنَا حقَّهُ".
وإنَّ مِنْ حقِّ العلماء علينَا: احترامَهُمْ، والتواضعَ لهمْ، ولينَ القولِ، والجانبِ لهمْ.
أخوة الإسلام: وتمس الحاجة إلى الرجوع إلى أهل العلم في كل وقت، وخاصة في أوقات الفتن والمحن، وخاصة العلماء الكبار الذين زادتهم الأيام علماً وصقلتهم التجربة خبرة ودراية.
وليعلم -رعاكم الله- أن العلماء كغيرهم من الناس ليسوا بمعصموين، وقد يخطأون لكن المهم في الأمر من الذي يقدر هذا الخطأ، ويقول: إن العالم أخطأ أم لم يخطئ، وما الموقف الصحيح في حين رؤية خطأ العالم، فيقال: إذا أخطأ العالم فلا ينسب الخطأ للإسلام، ويعالج الخطأ بالحكمة، وعدم القدح في العالم، فيبين الخطأ بالطريقة المناسبة مع حفظ مكانته، فهذه كتب العلماء مملوءة بالردود فيما بينهم في كتب الفقه والحديث وغيرها، ولا تجدهم يضللون بعضهم البعض، بل يحفظون مكانة العالم، وهكذا كان السلف الصالح والأئمة يتعاملون مع العالم.
قال الإمام الذهبي -رحمه الله- في سير أعلام النبلاء-: "ثم إن الكبير من العلماء إذا كثر صوابه، وعلم تحريه للحق، واتسع علمه، وظهر ذكاؤه، وعرف صلاحه وورعه واتباعه، يغفر له زللـه، ولا نضلله ولا نطرحه، وننسى محاسنه، –نعم- ولا نقتدي به في بدعته وخطئه، ونرجو له التوبة من ذلك".
أيها المصلون: أستبيحكم عذرا بأن نقف عند هذا المحور الذي يحتاج مزيد بسط لعل الله أن ييسر ذلك في الخطبة الثانية إن شاء الله.
اللهم اغفر وارحم، واعف وتكرم، إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي أتم النعمة، وأكمل الدين، وجعل الحجة على كل أحد لكتابه المبين، وجعل العصمة في كل أمر لرسوله الكريم، نحمده سبحانه وتعالى، لا إله غيره، ولا رب سواه، لا يخيب من رجاه، ولا يضل من استهداه، ولا يحرم من استعطاه، من توكل عليه كفاه، ومن التجأ إليه وقاه، له الحمد كما يحب ويرضى على آلائه ونعمه التي لا تُعد ولا تُحصى.
والصلاة والسلام التامان الأكملان على المبعوث رحمة للعالمين، خاتم الأنبياء والمرسلين، سيد الأولين والآخرين نبينا محمد، وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
أما بعد:
فاتقوا الله أخوة الإسلام.
أيها المسلمون: ونحن نتكلم عن مكانة العلم والعلماء، توقف بنا الحديث في الخطبة الأولى واجبنا تجاه خطأ العالم، واذكر بخلاصة ما ذكرناه، وهو: أن العلماء كغيرهم من الناس ليسوا بمعصموين، وقد يخطأون لكن المهم في الأمر من الذي يقدر هذا الخطأ، ويقول: إن العالم أخطأ أم لم يخطئ، وما الموقف الصحيح في حين رؤية خطأ العالم، فيقال: إذا أخطأ العالم فلا ينسب الخطأ للإسلام، ويعالج الخطأ بالحكمة، وعدم القدح في العالم، فيبين الخطأ بالطريقة المناسبة مع حفظ مكانته وفضله، إذا كان هذا مقررا، فثمة أمور مهمة تذكر في هذا المقام:
1. أن البعض -هداهم الله- يستعجل في بث زلة العالم دون ترو أو تثبت، وكم من فتاوى ومقولات نسبت لبعض أهل العلم تبين كذبها وزورها.
إن التقنية ووسائل التواصل الحديثة مع ما فيها من فوائد كبيرة إلا أنها سرعت من منظومة الإشاعات، وبدأ البعض يتفنن فيها في الطعن في أهل العلم بغير وجه حق.
لماذا تحولت -يا رعاكم الله- هذه المواقع التي تسمى بمواقع التواصل الاجتماعي إلى مستنقع للغيبة والنميمة، والنقد اللاذع غير البناء، والتي لم يسلم منه حتى أهل العلم وأصحاب الفضل.
2. من الذي يُقدِر خطأ العالم، ويقول: إن هذا العالم أخطأ، وذلك العالم على صواب ؟!.
أخوة الإسلام: الله سبحانه يقول في محكم التنزيل: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ) [الأنبياء: 7].
ففي هذه الآية: دلالة على أن الذي يُسأل في مسائل الشريعة هم أهل العلم، فيخطئ كثيرا من يخوض في العلم من غير أهله، والعلم الشرعي كغيره من التخصصات لا يجيده إلا أصحاب التخصص.
ومع ذلك وللأسف الشديد أنه أصبح يتكلم في العلم من لا يجيده، فيأتي بالعجائب، ومعلوم أن العلوم الشرعية لها أصولها وأحكامها وأدلتها التي تحتاج إلى العالم بأحكام الشريعة الفاهم لمقاصدها القادر على استنباط الأدلة وفق تلك المعالم.
3. الواجب في الأحكام الشرعية الرجوع إلى الدليل الذي يحسم ذلك الخلاف؛ كما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59].
وقال تعالى: (وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ ) [الشورى:10].
وكما قال الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً، فعليكم بسنتي وسنّة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي".
4. إن من أمور المسلمة شرعا الوقوف عند الدليل الشرعي، والالتزام به، قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا) [النساء: 65].
والحكمة من الحكم الشرعي قد تغيب عن البعض، فربما يتردد في تطبيق الحكم المبني على الدليل الشرعي بحجة أن الزمان تغير أو غير ذلك، وشبهة الرد الحكم بحجة تغير الزمان حجة واهية؛ لأن الدليل الشرعي المبني على كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم أصلح للعباد مما سواه، وفيه من الحكم الجلية، وربما الخفية الكثير مما يعرفه المسلم المتبع للدليل والمتجرد من هواه.
5. إن على الشباب خاصة أن يضبطوا حماسهم وعاطفتهم، فالحماسة سلاح ذو حدين، إن استخدم باتزان وتعقل نفع، وإن استخدم بتهور وطيش ضر وأفسد، ولهذا كان لزاماً على الشباب أن يربطوا حماستهم بشريعة الله عز وجل، حتى لا تحصل أمور لا تُحمد عقباها في الدنيا والآخرة.
واجب عليهم أن يعودوا إلى أهل العلم، فيستقوا منهم، وينهلوا من علمهم، وخاصة الكبار منهم الذين لهم باع في العلم والعمل للدين، ومرت بهم من المواقف والأحداث ما يجعلهم قادرين على ضبط فتاويهم وآرائهم المبنية على الدليل الشرعي.
اللهم أرنا الحق حقاً..