البحث

عبارات مقترحة:

الشاكر

كلمة (شاكر) في اللغة اسم فاعل من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

الحي

كلمة (الحَيِّ) في اللغة صفةٌ مشبَّهة للموصوف بالحياة، وهي ضد...

الرحمن

هذا تعريف باسم الله (الرحمن)، وفيه معناه في اللغة والاصطلاح،...

لذة التعبد وحلاوته

العربية

المؤلف منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات المنجيات
عناصر الخطبة
  1. أسباب الحصول على السعادة .
  2. مظاهر التعاسة في الغرب .
  3. قلَقُنا لبعدنا عن الدين .
  4. تلذّذ السلف الصالح بالعبادة .
  5. أسباب تحصيل لذة العبادة .
  6. مظاهر فقدان لذة العبادة .

اقتباس

قال ابن القيم -رحمه الله-: "الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوباتٌ عاجلةٌ، ونارٌ دنيويةٌ، وجهنَّمُ حاضرةٌ؛ والإقبال على الله -تعالى-، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثوابٌ عاجلٌ، وجنّةٌ وعيشٌ لا...

الخطبة الأولى:

أما بعد: يقول -تعالى-: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) [البقرة:38]، (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى) [طه:123]، (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل:97].

لقد تكفل الله لمن التزم منهج الله أن يمنحه الحياة السعيدة الصافية من الأكدار، وأن يؤمنه من الخوف والحزن في الدنيا، وأن يعيش عيشة هنيئة مفعمة بالسكينة والطمأنينة.

وإن هذه الآيات التي ذكرت تشير إلى مقومات الحصول على السعادة في الدنيا والآخرة، ألا وهي الالتزامُ بهذا الدين، وتطبيقه في واقع الحياة، الالتزامُ بهذا الدين عقيدة تستقر في القلب، وسلوكا في واقع الحياة، ومجاهدة للنفس، وتطويعها للاستقامة على منهج الله.

أيها المسلمون: لقد ظن قوم أن السعادة في الغنى، ورخاء العيش، ووفرة النعيم، ورفاهية الحياة؛ ولكن الدول التي ارتفع فيها مستوى المعيشة وتيسرت لأبنائها مطالب الحياة المادية من مأكل ومشرب وملبس ومسكن ومركب، مع كماليات، لا تزال تشكو من تعاسة الحياة، وتحس بالضيق والانقباض، وتبحث عن طريق آخر للسعادة.

 وأكبر شاهد على ذلك واقع الحياة في أوروبا، فبرغم التقدم العلمي والتكنولوجي الذي تعيشه إلا أن مظاهر التعاسة التي تعيشها أوروبا بلغت منتهاها من تفشي الانتحار، وتفكك الأسر، وتمرد الأبناء على الآباء، وانتشار المسكرات والمخدرات، واللجوء إليها للتخلص من هموم الدنيا ومن الضيق و"الطفش" الذي يعيشونه.

إن أوروبا لم تصل إلى هذه الحياة النكدة المليئة بالهم و"الطفش" إلا بعد أن طرحت الدين جانبا واهتمت بتحقيق مطالب الجسد على حساب الروح؛ فأظلم قلبها، وضلت الطريق، وضيعت الهدف، وأصبحت تعبد الدرهم والدينار والشهوة، وهذا جزاء كل من حاد عن جادة الصواب وتنكر لهذا الدين؛ (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) [طه:124].

إن ما يعيشه كثير من شباب المسلمين ورجالهم ونساؤهم اليوم من قلق واكتئاب وكدر وأمراض نفسية وعصبية وأرق في النوم ما هو إلا نتيجة حتمية للبعد عن الدين، والتعلق بغير الله من هوى وشهوة عاجلة.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "الغموم والهموم والأحزان والضيق عقوباتٌ عاجلةٌ، ونارٌ دنيويةٌ، وجهنَّمُ حاضرةٌ؛ والإقبال على الله -تعالى-، والإنابة إليه، والرضا به وعنه، وامتلاء القلب من محبته، واللهج بذكره، والفرح والسرور بمعرفته، ثوابٌ عاجلٌ، وجنّةٌ وعيشٌ لا نسبة لعيش الملوك إليه البتة".

أيها المسلمون: إن أعظم منحة يمنحها الله لعبده منحة التلذذ بالعبادة، وحلاوة الطاعة، وأعني بذلك ما يجده المسلم من راحة النفس، وسعادة القلب، وانشراح الصدر، وسعة البال أثناء العبادة وعقب الانتهاء منها، وهذه اللذة تتفاوت من شخص لشخص بحسب قوة الإيمان وضعفه.

وهذه اللذة تحصل بحصول أسبابها، وحريٌّ بالمسلم أن يسعى في تحصيلها لينعم بالحياة السعيدة.

لقد كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول لبلال: "أرحنا بالصلاة يا بلال"؛ وذلك لما يجده فيها من اللذة والسعادة القلبية.

وها هو معاذ بن جبل يبكى عند موته، ويقول: إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر.

وعن معضد وابن أدهم قالا: لولا ثلاثٌ: ظمأ الهواجر، وطول ليل الشتاء، ولذاذة التهجد بكتاب الله -عز وجل-؛ ما باليت أن أكون يعسوبا.

ولما حضرت الوفاة عامر بن عبد قيس جعل يبكي، فقيل له: ما يبكيك؟ قال: ما أبكي جزعا من الموت، ولا حرصا على الدنيا؛ ولكن أبكي على ظمأ الهواجر، وعلى قيام الليل في الشتاء. وروي مثله عن محمد بن المنكدر.

وقال أبو سليمان الداراني: أهل الليل في ليلهم ألذ من أهل اللهو في لهوهم، ولولا الليل ما أحببت البقاء في الدنيا.

وكان ابن تيمية يقول: إن في الدنيا جنة من لم يدخلها لا يدخل جنة الآخرة.  

وقال بعض العارفين: إنه ليمرّ بالقلب أوقات فأقول: إن كان أهل الجنة في مثل هذا؛ إنهم لفي عيشٍ طيّب.

وقال بعض المحبّين: مساكين أهل الدنيا، خرجوا من الدنيا وما ذاقوا أطيب ما فيها. قالوا: وما أطيب ما فيها؟ قال: محبّة الله، والأُنس به، والشوق إلى لقائه، والإقبال عليه، والإعراض عمّا سواه.

أيها المسلمون: إن هذه اللذة التي وجدها أسلافنا لم يجدوها إلا بعد أن بذلوا الأسباب التي تحقق هذه اللذة.

إن هذه اللذة تحصل بحصول أسبابها، وتزول بزوال أسبابها.

وأسباب تحصيل اللذة في العبادة كثيرة، أذكر منها ما يلي:

أولا: أن يدرك المسلم أن سعادته متوقفة على تحصيل هذه اللذة، فالإنسان -مهما توفرت له سبل الراحة والمعيشة- لن يجد هذه اللذة إلا إذا وثق صلته بالله.

إن هذا الإنسان لا يمكن أن يهنأ في الحياة، ويستطيب العيش بها، إلا إذا وثق صلته بالله، وعلق قلبه بخالقه ومولاه.

قال ابن القيم -رحمه الله-: "ففي القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال على الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس به في خلوته، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار منه إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر على ذلك إلى وقت لقائه، وفيه طلب شديد لا يقف دون أن يكون هو وحده مطلوبه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته، والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له؛ ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة منه أبدا".

ثانيا: مجاهدة النفس على طاعة الله حتى يدرك تلك اللذة، وقد تنفر النفس في بداية الطريق، ولكن إذا شمر عن ساعد الجد، وكانت عنده الرغبة والعزيمة، فسينالها بإذن الله؛ ولكن الأمر يحتاج إلى مجاهدة ومصابرة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200]، (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) [العنكبوت:69].

قال أحد التابعين: كابدت قيام الليل سنة، فاستمتعت به عشرين سنة.

وقال أبو زيد: ما زلت أسوق نفسي إلى الله وهي تبكي، حتى سقتها وهي تضحك.

وقال ابن القيم -رحمه الله تعالى-: "وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يدرك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همّ له،  ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، ومن تحمل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله".

ثالثا: ترك فضول الطعام والشراب والكلام والنظر، فيكفي المسلم أن يقتصر من طعامه وشرابه على ما يكفيه ويعينه على عبادته وعمله من غير إسراف، وعليه أن يترك فضول الكلام بأن يشغل لسانه بذكر الله، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والدعوة إلى الله.

ولا بأس بالكلام المباح، على أن لا يصل إلى حد الإفراط، فقد يكون سببا لقسوة القلب؛ فعن ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله؛ فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة للقلب، وإن أبعد الناس من الله القلب القاسي" رواه الترمذي.

وأما المراد بترك فضول النظر فيترك النظر إلى ما يحرم النظر إليه، كالنظر إلى ما يعرض في وسائل الإعلام المختلفة والتي تعرض الصور العارية المؤججة للشهوة، والمثيرة للشهوة، والداعية إلى الرذيلة؛ أو النظر عبر الشاشات التي يعرض من خلالها صور الممثلات والمغنيات العاريات من كل خلق وفضيلة.

رابعا: إطابة المطعم، وتجنب أكل الحرام؛ فعَن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّ اللَّهَ طَيِّبٌ لَا يَقْبَلُ إِلَّا طَيِّبًا... ثُمَّ ذَكَرَ الرَّجُلَ، يُطِيلُ السَّفَرَ، أَشْعَثَ أَغْبَرَ، ثُمَّ يَمُدُّ يَدَيْهِ إِلَى السَّمَاءِ: يَا رَبِّ، يَا رَبِّ، وَمَطْعَمُهُ حَرَامٌ، وَمَشْرَبُهُ حَرَامٌ، وَمَلْبَسُهُ حَرَامٌ، وَغُذِّيَ بِالْحَرَامِ؛ فَأَنَّى يُسْتَجَابُ لِذَلِكَ؟".

وعَنْ أبي أمامةَ -رضي الله عنه- قالَ: قالَ رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "النظرُ سهمٌ مسمومٌ مِنْ سهام إبليس، مَنْ تركَهُ مخافتي أبدلتُهُ إيماناً يجدُ حلاوتَه في قلبِه" رواه أحمد.

قال شاه الكرماني: مَن عَمَّر ظاهره باتباع السنة وباطنه بدوام المراقبة، وغض بصره عن المحارم، وكف نفسه عن الشهوات، وذكر خصلة خامسة وهى أكل الحلال، لم تخطئ له فراسة.

وسئل الإمام أحمد: بم تلين القلوب؟ فقال: بأكل الحلال.

وقال وهيب بن الورد: والله لو قمتَ مقام هذه السارية ما نفعك حتى تعلم ما يدخل بطنك من حلال أو حرام.

خامسا: البعد عن الذنوب كلها، صغيرها وكبيرها، فللذنوب أثر كبير في عدم حصول لذة العبادة؛ قال سفيان الثوري: حرمت قيام الليل بذنب أحدثته خمسة أشهر.

وفي الحديث، عَنْ أَبِى صَالِحٍ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ -رَضِي اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِى قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ مِنْهَا قَلْبُه،ُ فَإِنْ عَادَ رَانَتْ حَتَّى يُغْلَقَ بِهَا قَلْبُهُ، فَذَاكَ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ - فِى كِتَابِهِ: (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ)".

ولما جلس الإمام الشافعي إلى الإمام مالك وقرأ عليه أعجبه ما رأى من وفور فطنته وتوقد ذكائه وكمال فهمه، قال له: إني أرى الله قد ألقى على قلبك نورا فلا تطفئه بظلمة المعصية.

قال ابن المبارك: قيل لوهيب بن الورد: أيجد طعم العبادة من يعصي الله؟ قال: لا، ولا من هَمّ بمعصية.

وقال الإمام الشافعي :

شكوتُ إلى وكيعٍ سوءَ حفظي

فأرْشَدَنِي إِلى تَرْكِ المعاصي

وأَخْبَرَني بأنَّ العــلمَ نورٌ

ونـورُ اللهِ لا يؤتاه عاصي

وقال ابن المعتز:

خَلِّ الذنوب صغيرها

وكبيرَها ذاكَ التُّقَى

واصنَعْ كماشٍ فوقَ أرْ

ضِ الشّوكِ يحذر ما يرى

لا تحقِرَنَّ صغيرةً

إنَّ الجبالَ مِن الحَصَى  

وفي الحديث عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ ، أَنّ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-، قَالَ: "إيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوب! فَإِنَّ مَثَلَ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ كَمَثَلِ قَوْمٍ نَزَلُوا بِبَطْنِ وَادٍ، فَجَاءَ ذَا بِعُودٍ وَذَا بِعُودٍ؛ حَتَّى جَمَعُوا مَا أَنْضَجُوا بِهِ خُبْزَهُمْ، وَإِنَّ مُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ مَتَى يُؤْخَذْ بِهَا صَاحِبُهَا تُهْلِكْهُ" رواه أحمد وغيره.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ...

الخطبة الثانية:

أما بعد: أيها المسلمون: إن اللذة في العبادة التي يمنحها الله لمن يشاء من عباده نعمة من أجلّ النِّعَم، وكم هو مؤلم أن يحرم العبد منها! ولكن، كما قيل: ما لجرح بميت إيلام!.

ولحرمان العبد من هذه اللذة مظاهر، منها ما يلي:

أولا: التثاقل عن الصلاة والتكاسل عند القيام إليها، فترى كثيرا من الناس الذين حرموا لذة العبادة لا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى، وتتثاقل رؤوسهم عنها، ولسان حالهم يقول: أرحنا منها يا إمام!.

وأكبر دليل على ذلك هو نقرهم للصلاة، وسرعتهم في أدائها، ويا ويل الإمام منهم لو أطال فيها قليلا!.

وترى الواحد منهم يخرج من المسجد بمجرد انتهاء الإمام من السلام، ولو وجد هذا الصنف من الناس لذة العبادة وأحس بطعمها لبادر إلى الصلاة، وأطال المكث في المسجد بعد الفريضة لأداء السنن الرواتب، والاشتغال بالأوراد والأذكار المشروعة عقب الصلاة.

ولكن؛ من تعلق قلبه بالدنيا صعب عليه ذلك، ومثل هذا الصنف على خطر عظيم، ففي حديث الإسراء والمعراج الطويل، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ مرفوعاً: "ثُمَّ أَتَى عَلَى قَوْمٍ تُرْضَخُ رُءُوسُهُمْ بِالصَّخْرِ، كُلَّمَا رُضِخَتْ عَادَتْ كَمَا كَانَتْ، لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ، فَقَالَ: "مَا هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟"، قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ تَتَثَاقَلُ رُءُوسُهُمْ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ".

قال ابن القيم وهو يصف حال المؤمن عند الصلاة: "فأول ما يستيقظ أحدهم من منامه يسبق إلى قلبه القيام إلى الوضوء والصلاة كما أمره الله، فإذا أدى فرض وقته اشتغل بالتلاوة والأذكار إلى حين تطلع الشمس فيركع الضحى.

ثم ذهب إلى ما أقامه الله فيه من الأسباب، فإذا حضر فرض الظهر بادر إلى التطهر والسعي إلى الصف الأول من المسجد فأدى فريضته كما أمر، مكملا لها بشرائطها وأركانها وسننها، وحقائقها الباطنة من الخشوع والمراقبة والحضور بين يدي الرب.

فينصرف من الصلاة وقد أثرت في قلبه وبدنه وسائر أحواله آثارا تبدو على صفحاته ولسانه وجوارحه، ويجد ثمرتها في قلبه من الإنابة إلى دار الخلود، والتجافي عن دار الغرور، وقلة التكالب والحرص على الدنيا وعاجلها.

قد نهته صلاته عن الفحشاء والمنكر، وحببت إليه لقاء الله، ونفرته من كل قاطع يقطعه عن الله، فهو مغموم مهموم، كأنه في سجن، حتى تحضر الصلاة، فإذا حضرت قام إلى نعيمه وسروره وقرة عينه وحياة قلبه، فهو لا تطيب له الحياة إلا بالصلاة، ويأتون بعد الفريضة بالأذكار المشروعة، ثم يركعون السنة على أحسن الوجوه، وهذا دأبهم في كل فريضة.

فإذا كان قبل غروب الشمس توفروا على أذكار المساء الواردة، فإذا جاء الليل كانوا فيه على منازلهم من مواهب الرب -سبحانه- التي قسمها بين عباده.

فإذا أخذوا مضاجعهم أتوا بأذكار النوم الواردة في السنة، وبالجملة فلا يزال يذكر الله على فراشه حتى يغلبه النوم وهو يذكر الله، فهذا منامه عبادة، وزيادة له في قربه من الله، فإذا استيقظ عاد إلى عادته الأولى".

ثانيا: ومن مظاهر حرمان لذة العبادة التأخر عن صلاة الجماعة، وعدم الحضور إلى المسجد لأدائها، وتلك علامة النفاق.

عَنْ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللَّهَ غَدًا مُسْلِمًا فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلاَءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللَّهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِى بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّى هَذَا الْمُتَخَلِّفُ فِى بَيْتِهِ لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ ثُمَّ يَعْمدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ الْمَسَاجِدِ إِلاَّ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلاَّ مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِى الصَّفِّ" رواه مسلم.

ولقد هم النبي أن يحرق على المتخلفين عن صلاة الجماعة بيوتهم بالنار لولا ما في البيوت من النساء والذرية الذين لا تجب عليهم صلاة الجماعة.

فلنحرص على تقوى الله، وعلى الصلاة التي هي رأس مال الواحد منا يوم القيامة، فإن قبلت قبل سائر أعماله، وإن ردت رد سائر أعماله.

اللهم ارزقنا لذة التعبد، وحلاوة الطاعة، واجعلنا مخلصين.