التواب
التوبةُ هي الرجوع عن الذَّنب، و(التَّوَّاب) اسمٌ من أسماء الله...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك |
ومن صور كيد الشيطان للإنسان دفعه إلى إظهار كماله، وعدم الاعتراف بتقصيره، كي يسد عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع عن ذاتها، فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به، فتكون أضحوكة للشيطان. ومن اتهم نفسه رأى عيوبها وتقصيرها...
الخطبة الأولى:
الحمدُ للهِ الذِي أعْظَمَ علَى عبادِهِ المِنَّةَ، بما دَفَعَ عَنْهُمْ كيْدَ الشَّيْطانِ ورَدَّ أَمَلَهُ وخَيَّبَ ظَنَّهُ؛ إذْ جَعَلَ مُحاسبةَ النَّفْسِ حِصْناً لأوليائِهِ وجُنَّةً، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمداً عبدُ اللهِ ورسولُهُ، قائدُ الخَلْقِ ومِفْتاحُ الجنَّةِ، صلَّى اللهُ وسلَّمَ عليه وعلَى آلِهِ وأصحابِهِ ذَوِي الأبْصارِ الثَّاقِبَةِ وَالعقولِ الرَّاجِحَةِ المطمَئِنَّةِ.
أما بعد: فأوصيكم -عباد الله- بتقوى الله، وأحثكم على طاعة الله، فلا تغرنكم الحياة الدنيا ولا يغرنكم بالله الغرور، لا تغرنكم الأموال وكثرتها لا يغرنكم رغد العيش ونضارة الدنيا وزهرتها, لا يغرنكم ما أنعم الله به عليكم من العافية والأمان، ولا يغرنكم إمهاله لكم مع تقصيركم في الواجب والعصيان.
عباد الله: إن الله لطيف بعباده، يحب لهم كل خير ويكره لهم كل سوء، وإنه حذّرنا من أعداء لنا من أهمهم وعلى رأسهم إبليس -أخزاه الله-، قال تعالى: (إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) [فاطر:6], ولكننا غفلنا عن عداوة الشيطان للإنسان، فلم يتخذه كثير من الناس عدوًا، بل جعلوه حبيبًا ناصحًا لهم، وكما أن الشيطان عدو للإنسان، فيجب على الإنسان أن يتخذه عدواً، يجاهده ويخالفه، ولا يطيعه أو يغتر به, كما قال -سبحانه-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر: 5، 6].
أيها الإخوة: وقد كاد الشيطان نفسه قبل كيده للأبوين، وكاد ذرية نفسه، وذرية آدم، فكان مشؤوماً على نفسه، وعلى ذريته، وعلى أوليائه من الجن والإنس. أما كيده لنفسه فإن الله -سبحانه- لما أمره بالسجود لآدم -صلى الله عليه وسلم-، كان في امتثال أمره وطاعته سعادته وفلاحه، وعزه ونجاته, فسولت له نفسه الجاهلة الظالمة أن في سجوده لآدم غضاضة عليه وهضماً لنفسه, فلما قام بنفسه هذا الهوس، وقارنه الحسد لآدم؛ لما خصه الله به من أنواع الكرامة دونه، حيث خلق الله آدم بيده، ونفخ فيه من روحه، وأسكنه جنته، وأسجد له ملائكته, فعند ذلك بلغ الحسد من عدو الله كل مبلغ، ولما أمر الله الملائكة بالسجود لآدم سجدوا كلهم إلا إبليس أبى وقال: (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) [الأعراف: 12].
فعصى الشيطان الرب المعبود، وجمع بين الجهل والظلم، والكبر والحسد، والكفر والمعصية، فطرده الله ولعنه, فأهان نفسه من حيث أراد تعظيمها, ووضعها من حيث أراد رفعتها, وأذلها من حيث أراد عزها, وآلمها من حيث أراد لذتها, وفعل بنفسه ما لو اجتهد أعظم أعدائه في مضرته لم يبلغ ذلك منه. ومن كان هذا غشه لنفسه، فكيف يسمع منه العاقل ويقبل منه ويواليه؟! (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا) [الكهف: 50].
وأما كيده للأبوين (آدم وحواء) فلم يزل يخدعهما ويعدهما ويمنيهما الخلود في الجنة، حتى حلف لهما أنه ناصح لهما، فاطمأنا إلى قوله، وأجاباه إلى ما طلب منهما، فجرى عليهما من المحنة والخروج من الجنة ما جرى، وذلك بمكره وكيده الذي جرى به القلم، وسبق به القدر، ورد الله -سبحانه- كيد الشيطان عليه، وتدارك الأبوين برحمته ومغفرته، فأعادهما إلى الجنة على أحسن الأحوال وأجملها، وعاد عاقبة أمره عليه, (فَتَلَقَّى آَدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [البقرة: 37].
أيها الإخوة: وأما كيد الشيطان لذرية آدم، فلا يزال الشيطان بمكره وكيده يسوق الناس إلى المعاصي والمنكرات والفواحش والآثام, (لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آَذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا) [النساء: 118-119].
أيها الأحبة: ومن كيد الشيطان للإنسان أنه يخوف المؤمنين من جنده وأوليائه، فلا يجاهدونهم، ولا يأمرونهم بالمعروف، ولا ينهونهم عن المنكر، وهذا من أعظم كيده بأهل الإيمان: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران: 175].
ومن كيده أنه يورد الإنسان الموارد التي يخيل إليه أن فيها منفعته ومسرته، ثم يصدره المصادر التي فيها عطبه، ويتخلى عنه ويسلمه، ويقف يشمت به، ويضحك منه كما فعل بالمشركين يوم بدر, قال -سبحانه-: (وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال: 48].
ومن كيده أنه يأمر الإنسان ويزين له السرقة والزنا، والقتل والكفر، ثم يتبرأ منه ويسلمه ويشمت به, (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) [الحشر: 16]، ثم يتبرأ الشيطان من جميع أوليائه في النار، ويقول لهم: (إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22]، فأوردهم كل الموارد، وتبرأ منهم كل البراءة، في وقت لا ينفع فيه الندم.
ومن مكايد الشيطان العظيمة أنه يسحر العقل حتى يكيده، ولا يسلم من سحره إلا من شاء الله، فيزين للعقل الفعل الذي يضره، حتى يخيل إليه أنه من أنفع الأشياء له، وينفر من الفعل الذي هو أنفع الأشياء له، حتى يخيل له أنه يضره.
فسبحان الله!! كم فتن الشيطان بهذا السحر من إنسان؟! وكم حال به بين القلب والإسلام والإحسان؟! وكم جلا الباطل وأبرزه في صورة حسنة؟، وكم شنَّع على الحق وأخرجه في صورة مستهجنة؟! فهو الذي سحر العقول وألقى أربابها في الأهواء والبدع، وسلك بهم سبل الضلال، وزين لهم عبادة الأصنام، وقطيعة الأرحام، ونكاح الأمهات، ووأد البنات، وهو الذي حسَّن الشرك والفسوق والعصيان لآدم وذريته.
ومن كيد الشيطان العجيب أنه يشام النفس حتى يعلم أي القوتين تغلب عليها، قوة الإقدام والشجاعة، أم قوة الإحجام والمهانة، فإن رأى الغالب على النفس المهانة والإحجام أخذ في إضعاف همته وتثبيطه عن فعل المأمور به، وثقله عليه، ثم يهون عليه تركه حتى يتركه جملة أو يقصر فيه ويتهاون به، وإن رأى الغالب عليه قوة الإقدام وعلو الهمة أخذ يقلل عنده المأمور به، ويوهمه أنه لا يكفيه، وأنه يحتاج معه إلى مبالغة وزيادة؛ فيقصر بالأول, ويتجاوز بالثاني, ليبعد العبد عن سلوك الصراط المستقيم، ويسلك به صراط الجحيم.
أيها الأحبة: فما أمر الله بأمر إلا وللشيطان فيه نزغتان: إما إلى تفريط وتقصير, وإما إلى مجاوزة وغلو. ولا يبالي الشيطان بأيهما ظفر، وقد هلك أكثر الناس في هذين الواديين, وادي التقصير, ووادي المجاوزة. وقليل منهم من يثبت على الصراط المستقيم الذي عليه الرسول -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه وأتباعه. فقصر بقوم في حق الأنبياء وورثتهم حتى قتلوهم, وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم. وقصر بقوم حتى منعهم من طلب العلم الذي ينفعهم, وتجاوز بآخرين حتى جعلوا العلم وحده هو غايتهم دون العمل به.
وقصر بقوم في خلطة الناس حتى اعتزلوهم في الطاعات كالجمعة والجماعات، والعلم والجهاد, وتجاوز بآخرين حتى خالطوهم في الظلم والمعاصي والآثام. وقصر بقوم عن الإتيان بواجبات الطهارة, وتجاوز بآخرين إلى حد الوسواس، وقصر بقوم عن إخراج الزكاة, وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا جميع ما يملكون، وصاروا كلاً على الناس. وقصر بقوم عن تناول ما يحتاجون من الطعام والشراب واللباس حتى أضروا بأبدانهم وقلوبهم, وتجاوز بآخرين حتى أخذوا فوق حاجتهم فأضروا بقلوبهم وأبدانهم.
وقصر بقوم حتى امتنعوا من ذبح شاة ليأكلوها, وتجاوز بآخرين حتى جرأهم على سفك دماء الأنفس المعصومة. وقصر بقوم حتى أطعمهم من العشب ونبات البرية دون غذاء بني آدم, وتجاوز بآخرين حتى أطعمهم الحرام الخالص. وقصر بقوم حتى زين لهم ترك سنة الرسول -صلى الله عليه وسلم- في النكاح فرغبوا عنه بالكلية, وتجاوز بآخرين حتى ارتكبوا الزنا والفواحش وما قدروا عليه من الحرام.
وقصر بقوم حتى جفوا العلماء والشيوخ من أهل الدين والصلاح، وأعرضوا عنهم, وتجاوز بآخرين حتى عبدوهم مع الله تعالى. وقصر بقوم حتى منعهم من قبول أقوال أهل العلم، وتجاوز بآخرين حتى جعلوا الحلال ما حللوه، والحرام ما حرموه. وقصر بقوم حتى قالوا: إيمان أفسق الناس وأظلمهم كإيمان جبريل وميكائيل, وتجاوز بآخرين حتى أخرجوا الناس من الإسلام بالكبيرة الواحدة.
وقصر بقوم حتى عادَوْا أهل بيت رسول الله وقاتلوهم واستحلوا دماءهم, وتجاوز بآخرين حتى ادعوا فيهم خصائص النبوة، وربما ادعوا فيهم الإلهية. وقصر باليهود حتى كذبوا المسيح، ورموه وأمه بما برأهما الله منه, وتجاوز بالنصارى حتى جعلوه ابن الله، وجعلوه إلهاً يعبد مع الله.
وقصر بقوم حتى أهملوا أعمال القلوب، ولم يلتفتوا إليها، وعدوها فضلاً, وتجاوز بآخرين حتى قصروا نظرهم وعلمهم عليها، ولم يلتفتوا إلى كثير من أعمال الجوارح، فلا إله إلا الله!! كم فتن الشيطان بهذا الكيد والمكر من خلق الله؟.
أيها الأحبة: ومن مكائد الشيطان للإنسان أنه يأمر الغني وصاحب الجاه أن يلقوا المساكين والضعفاء وذوي الحاجات بوجه عبوس؛ لئلا يطمعوا فيهم، ويتجرؤوا عليهم، وتسقط هيبتهم من قلوبهم، فيحرمهم بذلك من محبتهم وصالح أدعيتهم. ومن كيده أنه يغري الناس بتقبيل يد العالم أو الزاهد، والتمسح به، والثناء عليه، وسؤاله الدعاء، حتى يرى نفسه ويعجبه شأنها، فيفرح بذلك ويقع في قلبه حتى يظنه حقاً، وذلك الهلاك كله، وهو شر من أرباب الكبائر.
ومن كيده الذي بلغ به من الجهال ما بلغ الوسواس الذي كادهم به في أمر الطهارة والصلاة عند عقد النية، حتى ألقاهم في الآصار والأغلال، وأخرجهم من السنة إلى البدعة، وخيل لبعضهم أن ما جاءت به السنة لا يكفي حتى يضم إليه غيره. فجمع لهم بكيده العظيم ومكره الخبيث بين هذا الظن الفاسد, والتعب الحاضر, وبطلان الأجر أو نقصه.
أيها الإخوة: ومن أعظم مكايده التي كاد بها أكثر الناس ما أوحاه إلى حزبه وأوليائه من الفتنة بالقبور، حتى آل الأمر إلى أن عُبد أربابها من دون الله، وعُبدت قبورهم، واتخذت أوثاناً، وصورت صور أربابها فيها، ثم جعلت الصور أجساماً لها ظل، ثم جعلت أصناماً وعبدت مع الله تعالى. يطاف عليها, ويسجد لها, ويصلى عندها, وتسكب عندها العبرات, وتشكى إليها الحاجات, وتحلق عندها الرؤوس, وتذبح القرابين, ويسأل الميت فيها قضاء الحاجات, وتفريج الكربات, وإقالة العثرات, وتشد إليها الرحال من جميع الجهات. فلله كم اغتال الشيطان من بني آدم، وزين لهم ما كانوا يعملون؟ (قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [المائدة: 76].
أيها الإخوة: ومن أعظم مكايده ما نصبه للناس ليعبدوه من دون الله من شجر أو حجر أو عين أو قبر أو غير ذلك، والأزلام للتكهن وطلب علم ما استأثر الله بعلمه، فالأزلام للعلم، والأنصاب للعمل. فلا إله إلا الله كم خدع الشيطان بهذا العمل من البشر، وأنساهم العهد والميثاق؟ (أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ * وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ) [يس: 60-62].
ومن أعظم كيد الشيطان ومكره أنه ينصب لأهل الشرك قبراً معظماً يعظمه الناس، ثم يجعله وثناً يعبد من دون الله، ثم يوحي إلى أوليائه أن من نهى عن عبادته واتخاذه عيداً فقد تنقصه وهضم حقه، فيسعى الجاهلون في قتله وعقوبته وتكفيره. فسبحان الله كم شيّد الشيطان من القبور التي تعبد من دون الله في العالم؟! وكم غرَّ الشيطان بها كثيراً من الناس حتى عبدوه من دون الله من خلالها؟! فوا أسفاه على النفوس والعقول التي انقادت لعدوها، وعبدته من دون الله: (قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 71].
ومن مكايد عدو الله ومصايده ما كاد به من قل نصيبه من العلم والعقل والدين، وصاد به قلوب الجاهلين والمبطلين من سماع المكاء والتصدية، والغناء والعزف على الآلات المحرمة، الذي يصد به القلوب عن القرآن، ويجعلها عاكفة على الفسوق والعصيان. وسماع الغناء والعزف من الرجال محرم، أما سماعه من المرأة الأجنبية فهو أشد حرمة، وأعظم فتنة: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ * وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ) [لقمان: 6، 7].
عباد الله: ومن مكايد الشيطان التي كاد بها الإسلام وأهله: الحِيَل, والمكر, والخداع, الذي يتضمن تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله، وإسقاط ما فرضه الله، ومضادته في أمره ونهيه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 8-10].
ومن مكايده ومصايده ما فتن به عشاق الصور، تلك البلية العظمى التي استعبدت القلوب لغير خالقها، وملكت القلوب لمن يسومها سوء العذاب من عشاقها، ودعت إلى موالاة كل شيطان مريد. فأوسعت القلوب محنة، وملأتها فتنة، وحالت بينها وبين رشدها ومولاها، ومحبة الصور المحرمة من موجبات الشرك، وكلما كان العبد أقرب إلى الشرك، وأبعد من الإخلاص، كانت محبته بعشق الصور أشد. فما أعظم تلاعب الشيطان بأكثر الخلق؟! وما أشد فتنته حيث أخرج لهم أنواع الكفر والفسوق والعصيان في كل قالب!.
ومن أعظم مكايده ومصائده ما كاد به المشركين في عبادة الأصنام، وتلاعب بكل قوم على قدر عقولهم, فطائفة دعاهم إلى عبادة الأصنام, ومنهم عباد الشمس, وعباد القمر, وعباد البقر, وعباد الحجر, وعباد الماء, وعباد النبات, وعباد النار, وعباد النور, وعباد الظلام. اتخذوا لها أصناماً يصلون عندها، ويطوفون بها، ويسألونها الحاجات, ويقرِّبون لها القرابين، ويقضون عندها الأوقات، ويشدون إليها الرحال.
رَزَقَنِي اللهُ وإيَّاكُمُ الاستقامَةَ علَى ما أمرَنا بهِ في الفُرْقانِ والذِّكْرِ الحكيمِ، وجنَّبَنَا اتْباعَ سُبُلِ الشيطانِ الرجيمِ.
أقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ الغفورَ الحليمَ، لي ولكم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وحَوْبٍ فتوبوا إليهِ واستغفروه إنَّه هوَ التوَّابُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه.
عباد الله: لقد أضل الشيطان بمكره وكيده وتلاعبه ببني آدم أكثر أهل الأرض، فهم مفتونون بعبادة الشيطان عن طريق الأصنام والأوثان، ولم يتخلص منهم إلا الحنفاء الموحدون، كما قال -سبحانه-: (إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) [الحجر: 42]، والأمم التي أهلكها الله بأنواع الهلاك كلهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان.
وأصل عبادة الأوثان والأصنام تشبيه المخلوق بالخالق في الإلهية حتى عبدوه من دون الله، وجعلوه نداً وعدلاً لله، يعبدونه ويسألونه كما يسألون الله -جل جلاله-، وزين لقوم عبادة الملائكة فعبدوهم من دون الله، ولم تكن عبادتهم في الحقيقة لهم، ولكن كانت للشياطين الذين أمروهم وزينوا لهم. فعبدوا أقبح خلق الله، وأحقهم باللعنة والطرد والذم وهم الشياطين: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ) [سبأ: 40، 41].
فسبحان الله ما أعظم غفلة العباد، وما أشد مكر الشيطان وكيده حتى جعل طوائف من بني آدم تعبد الأحياء والأموات, والأنبياء والملائكة, والإنس والجن, والنبات والحيوان, والنور والنار, والجبال والتراب, والكواكب والنجوم, والمياه والفروج: (وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ * وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ) [الزخرف: 36، 37]، فما أخطر كيد الشيطان للإنسان, فكم أضل من العباد؟! وكم أفسد من الأفراد والأمم والشعوب؟ (تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [النحل: 63].
عباد الله: ومن صور كيد الشيطان للإنسان دفعه إلى إظهار كماله، وعدم الاعتراف بتقصيره، كي يسد عليه طريق الاستغفار والاستعاذة، مثيراً فيه أنانية النفس لتدافع عن ذاتها، فلا تستغفر الله ولا تستعيذ به، فتكون أضحوكة للشيطان. ومن اتهم نفسه رأى عيوبها وتقصيرها, ومن اعترف بتقصير نفسه استغفر ربه: (وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ) [يوسف: 53].
ومن مكايده أنه يحجب بسيئة واحدة للمؤمن جميع حسناته، وبذلك تفسد الحياة، فإن الإنسان ينسى بتلقين الشيطان، وبما يكمن في جبلته من الظلم مئات من حسنات أخيه المؤمن؛ لأجل سيئة واحدة بدرت منه جهلاً أو نسياناً، فيبدأ بمعاداته، ويدخل في الآثام.
ومن مكايد الشيطان للناس أنه في أعمال الشر والفساد يزين للناس الصبر ويجعله حلواً، وفي أعمال الخير والإصلاح والدعوة والعبادة يجعل الصبر صعباً مراً.
ومن مكايده لابن آدم الحزن؛ لأن الحزن يضعف القلب، ويوهن العزم، ويضر الإرادة، ولا شيء أحب إلى الشيطان من حزن المؤمن, كما قال -سبحانه-: (إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المجادلة: 10].
ومن مكايده أنه يريد من الإنسان الإسراف والتبذير في أموره كلها؛ فإن رآه مائلاً إلى الرحمة زين له الرحمة حتى لا يبغض ما أبغضه الله، ولا يغار لما يغار الله منه، وإن رآه مائلاً إلى الشدة زين له الشدة في غير ذات الله حتى يترك من الإحسان والبر، واللين والرحمة، ما يأمره به الله ورسوله. ويتعدى في الشدة فيزيد في الذم والبغض والعقاب على ما يحبه الله ورسوله.
أيها الإخوة: هذه أعظم مكايد الشيطان وشروره في الدنيا، وفساده الذي أوقعه وما يزال يوقعه ببني آدم في الدنيا. أما في الآخرة فالأمر أعظم وأشد، فإن الشيطان إذا قضي الأمر، ودخل أهل الجنة الجنة، ودخل أهل النار النار، وقف خطيباً في أهل النار، متبرئاً منهم، قائلاً لهم: إن الله وعدكم وعد الحق على ألسنة رسله فلم تطيعوه، فلو أطعتموه لأدركتم الفوز العظيم، ووعدتكم الخير كذباً، فلن يحصل لكم ما مَنَّيتكم به من الأماني الباطلة. وما كان لي عليكم من سلطان وحجة حين دعوتكم إلى مرادي، وزينته لكم فاستجبتم لي اتباعاً لأهوائكم وشهواتكم.
فإذا كان الأمر بهذه الصورة فلا تلوموني ولوموا أنفسكم، فأنتم السبب وعليكم المدار في موجب العقاب الذي وصلتم إليه. وما أنا بمغيثكم من العذاب والشدة التي أنتم فيها، وما أنتم بمصرخيّ ولا نافعيّ، فكل له قسط من العذاب. وأنا الآن كفرت بما أشركتموني من قبل، وتبرأت من جعلكم لي شريكاً مع الله، فلست شريكاً لله، ولا تجب طاعتي.
وقد وصلت وإياكم إلى ما يعاقب به كل ظالم في نار الجحيم، والظالمون لأنفسهم بطاعة الشيطان لهم عذاب أليم، وما أشدها من حسرة, إذا سمعها أولياء الشيطان منه في سواء الجحيم, كما قال -سبحانه-: (وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [إبراهيم: 22].
أيها الإخوة: ما أعظم تلاعب الشيطان بالمشركين حتى عبدوه وأطاعوه واتخذوه وذريته أولياء من دون الله، وسيجزي الله الشيطان وأتباعه بنار جهنم, كما قال -سبحانه-: (وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ) [الأنعام: 128].
فالفاسق يستمتع بالشيطان بإعانته له على أسباب فسوقه من الشهوات المحرمة، والشيطان يستمتع به في قبوله منه وطاعته له، فيسره ذلك، ويفرح به منه. والمشرك يستمتع به الشيطان بشركه به، وعبادته له، ويستمتع هو بالشيطان في قضاء حوائجه وإعانته له. وجزاء هذا الاستمتاع المحرم الخلود في نار جهنم، فإنه وإن انقضى زمن التمتع، فقد بقي زمن العقوبة على ذلك.
اللهم أعصمنا من الشيطان الرجيم , واهدنا صراطك المستقيم