البحث

عبارات مقترحة:

الحكيم

اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...

المتعالي

كلمة المتعالي في اللغة اسم فاعل من الفعل (تعالى)، واسم الله...

النصير

كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...

حر الآخرة وعوازل الحماية منه

العربية

المؤلف منديل بن محمد آل قناعي الفقيه
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات
عناصر الخطبة
  1. تذكير حَرِّ الصيفِ الشديدِ بِحَرِّ يوم القيامة .
  2. مشاهد لشدة حَرِّ يوم القيامة .
  3. تهوينُ هَوْلِ ذلك اليوم على المؤمنين .
  4. أعمالٌ صالحةٌ موجبةٌ للظلِّ يوم القيامة .
  5. الحَرُّ من دلائل ربوبية الله تعالى .
  6. شدة الحَرِّ من فَيْحِ جهنم .
  7. الحَرُّ ابتلاء لا يُقْعِدُ عن الواجب. .

اقتباس

شمس هذا الصيف تكاد تزمجر من شدة حَرٍّها، ولا يخفى أنَّ شدة الحَرِّ مِن فيح جهنم، كما جاء عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-. وإذا كان علينا أن نبذل الغاليَ والنفيس لكي نقي أنفسنا من شدَّة حَرِّ الشمسِ في هذه الدنيا، فما أحرانا أنْ نُضَاعِفَ الجهد لكي ننأى بأنفسنا عمَّا هو أشدّ وأخطر في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة! يومٍ عظيم لا تغيب شمسه؛ بل تقترب فيه الشمس من...

الخطبة الأولى:

أيها المسلمون: شمس هذا الصيف تكاد تزمجر من شدة حَرٍّها، ولا يخفى أنَّ شدة الحَرِّ مِن فيح جهنم، كما جاء عن نبينا -صلى الله عليه وسلم-.

وإذا كان علينا أن نبذل الغاليَ والنفيس لكي نقي أنفسنا من شدَّة حَرِّ الشمسِ في هذه الدنيا، فما أحرانا أنْ نُضَاعِفَ الجهد لكي ننأى بأنفسنا عمَّا هو أشدّ وأخطر في يومٍ كان مقدارُه خمسين ألف سنة! يومٍ عظيم لا تغيب شمسه؛ بل تقترب فيه الشمس من رؤوس الخلائق قدر ميل.

إنَّ يومَ القيامة يومٌ شديدٌ مليءٌ بالكُربِ والأهوال، كُربٌ يشيب منها الولدان، ويفر فيها المرء من الأهل والخلان.

مثِّـلْ لنفسِكَ أيُّهـا الْمَغْـــرُورُ

يوم القيامةِ والسماءُ تَمُــورُ

إذا كُوِّرَتْ شمسُ النهار وضاعفت

حَرَّاً على رأس العباد تفــور

وإذا النجوم تساقطت وتناثرت

وتبدَّلَتْ بعد الضياء كـدور

وإذا الجبال تقَلَّعَتْ بأصــــولها

فرأيتَها مثلَ السَّحابِ تسـير

وإذا العِشار تعطَّلَتْ عن أهلهـــا

خَلَتِ الدِّيَارُ فما بها مغـرور

وإذا الوحوشُ لدى القيامةِ أُحْضِرَتْ

وتقولُ للأملاك أين نسيــر

فيقالُ سِيروا تشهدون فظائِـــعَاً

وعَجَائِباً قد أُحْضِرَتْ وأُمُـور

وإذا الجنين بأمِّه متعلِّقَـــــاً

خوف الحساب وقلبه مذعـور

هذا بلا ذنبٍ يخاف لهولــــه  

كيف المقيم على الذنوب دهور

مهِّدْ لنفْسِكَ حجةً تنجو بهـــا

يوم القيامة يوم تبدو العــور

أيها المسلمون: ومن كُرب ذلك اليوم العظيم التي سيواجهها الناس كَرْبُ الإغراق بالعرق، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ يَتَغَيَّبُ فِي رَشْحِهِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ" رواه ابن حبان وصححه الألباني.

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- قال: تلا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الآية: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، فقال: "كيف بكم إذا جمعكم الله كما يجمع النبل في الكنانة خمسين ألف سنة، ثم لا ينظر الله إليكم" رواه الحاكم وصححه الذهبي.

والذي يزيد هذا الكرب شِدَّةً الوقوفُ والانتظارُ تحتَ لهيب الشمس التي اقتربت من رؤوس الخلائق قدر ميل حتى يغرق الناس في عَرَقِهم، فعن المقداد بن عمرو -رضي الله عنه- قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ: "إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ أُدْنِيَتِ الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قِيدَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ"، قَالَ سُلَيْمٌ: لا أَدْرِي أَيّ الْمِيلَيْنِ يَعْنِي: أَمَسَافَةُ الأَرْضِ، أَمِ الْمِيل الَّذِي تُكَحَّلُ بِهِ الْعَيْنُ؟.

قَالَ: "فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُم مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا"، قَالَ: فَرَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَهُوَ يُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ يَقُولُ: "يُلْجِمُهُمْ إِلْجَامًا" رواه الترمذي وقال حسن صحيح، وصححه ابن حبان والألباني.

ويزداد كرب النَّاس حيث ينزل عرقهم في الأرض سبعين ذراعا، ثمَّ يرتفع فيصل عند بعضهم إلى رؤوسهم، فعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: "يَعْرَقُ الناس يوم الْقِيَامَةِ حتى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ في الأرض سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حتى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ" رواه البخاري.

فماذا أعددنا لهذا الكرب الشديد من عمل؟ إنَّ الناس في فصل الصيف لا يطيقون حرارة الشمس، ويتذمرون منها، فتراهم يهربون من حَرها إلى أماكن الظل، سواء كانت تلك الأماكن تحت مظلة أو شجرة أو سيارة، وقد يبقون في البيوت أو يسيحون في الأرض بحثاً عن البلاد الباردة، ويوصي بعضهم بعضاً بعدم المشي في الشمس حتى لا يتعرض أحد منهم لضربة الشمس المحرقة فتخلُّ بدماغه.

بل يُوصَى دولياً على مستوى العالم عبر منظمات حقوق الإنسان بمنع تشغيل العمال ميدانياً إذا تجاوزت الحرارة خمسين درجة مئوية؛ حفاظاً على صحة الإنسان وعقله من حرارة الشمس الشديدة الملتهبة صيفاً.

وربما نسي أولئك الناس أنَّ هذه الشمس التي يهربون منها سيلاقونها يوم القيامة بأشدّ ما تكون حرارة وقرباً، أليس من المتحتّم علينا أن نسأل عما يقينا من حَرّ تلك الشمس التي سوف نقف تحت وهجها وحرّها؟ ليس ليومٍ أو يومين، ولا لسنة أو سنتين، وإنَّما لخمسين ألف سنة يبلغ فيها الكرب منتهاه، حتى إنَّ الناس لَيَتَمَنَّوْنَ البدء بالحساب ليستريحوا مما هم فيه من حر الشمس، ولو ذُهِبَ بهم إلى النار!.

أيها المسلمون: ماذا أعددنا لذلك الكرب الشديد من عمل؟ إنَّ الناس اليوم يحرصون على وضْع عوازلَ حراريةٍ في بيوتهم لتقيهم حَرَّ شمس الظهيرة كي ينعموا بجوٍ بارد منعش طوال اليوم، وإنَّ الواحد منَّا إذا قرر بناء منزل ترونه يبحث عن أفضل وأجود العوازل الحرارية التي توضع في الجدران وعلى الأسطح ولو كلَّفه ذلك عشرات الألوف من الريالات.

وفوق ذلك كلِّه يضع المكيفات المركزية وغيرها في كلِّ البيت ليعيش في جو بارد هادئ لا يعرف فيه الحرارة، يفعل كلَّ ذلك من أجل أن يتقي حر شمس تبعد عنَّا بمسافة تقدر بحوالي ثلاثة وتسعين مليون ميل، ولا تستغرق ذروة أشعتها أكثر من ثمان ساعات على سطح الأرض خلال فصل الصيف، ولو حسب إجمالي هذه المدة بمتوسط عمر الإنسان لوجد أنَّها لا تزيد على ثمان سنوات، ومع ذلك يدفع الإنسان مبالغ طائلة تصل إلى عشرات الألوف ليتقي حر هذه الشمس.

ورسولنا أخبرنا -وهو الصادق المصدوق- أنَّنا سنحشر يوم القيامة ليومٍ مقداره خمسون ألف سنة تحت أشعةِ شمسٍ حارقة لا تغرب أبداً، فماذا أعدننا لذلك اليوم من عوازل؟ ألا يجدر بنا أن نسأل عن عوازل تقينا حر شمس الآخرة ؟ وما هي العوازل التي يمكنها مقاومة حرارة تلك الشمس التي ستقترب من رؤوسنا قدر ميل؟ وما هي الأعمال والعوازل التي تنجي صاحبها من حر شمس القيامة وتحفظه في ظل الله يوم لا ظل إلَّا ظله؟.

لقد أخبرنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن عوازل من الأعمال الصالحة نتحلى بها لنستظل بسببها تحت ظل عرش الرحمن في ذلك اليوم العصيب، ومَن استظل بظل العرش سيمُرُّ عليه ذلك اليوم الطويل كقدر الصلاة المكتوبة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ مِقْدَارَ نِصْفِ يَوْمٍ مِنْ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ يُهَوّنُ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كَتَدَلِّي الشَّمْسِ لِلْغُرُوبِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ" أبو يعلى وصححه ابن حبان والألباني.

وعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ: "يَوْم كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ"، فَقِيلَ: مَا أَطْوَلَ هَذَا الْيَوْمَ! فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "والَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ! إِنَّهُ لَيُخَفّفُ عَلَى الْمُؤْمِنِ حَتَّى يَكُونَ أَخَفَّ عَلَيْهِ مِنْ صَلاةٍ مَكْتُوبَةٍ يُصَلِّيهَا فِي الدُّنْيَا" رواه أحمد وصححه ابن حبان.

أيها المسلمون: وإذا كان الناسُ يسألون عن أفضل العوازل الحرارية لبيوتهم فسأخبركم عن أفضل العوازل الحرارية عن حر شمس يوم القيامة، سأذكر لكم بعض الأعمال الموجبة للاستظلال تحت ظل العرش؛ لعلنا نسارع إليها بعد أن أدركنا وآمَنَّا بأهميتها يوم القيامة.

العازل الأول: إنظار المعسر حتى يسدِّدَ دَيْنه، أو التخفيف من الدين عنه؛ فعن جابر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وَضَعَ عنه أَظَلَّهُ الله في ظِلِّهِ" رواه مسلم.

وعن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ: "مَن أَنْظَرَ مُعْسِرًا أو وَضَعَ له أَظَلَّهُ الله يوم الْقِيَامَةِ تَحْتَ ظِلِّ عَرْشِهِ يوم لَا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ" رواه أحمد والترمذي.

وعن أبي اليسر -رضي الله عنه- أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن أول من يستظل في ظل الله يوم القيامة لرجل أنظر معسراً أو تصدق عنه" رواه الطبراني بسنَدٍ حسَن.

وعن أبي قَتَادَةَ -رضي الله عنه- قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من نَفَّسَ عن غَرِيمِهِ أو مَحَا عنه كان في ظِلِّ الْعَرْشِ يوم الْقِيَامَةِ" رواه مسلم وأحمد.

العازل الثاني: عن سَهْلِ بن حُنَيْفٍ -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "مَن أَعَانَ مُجَاهِدًا في سَبِيلِ اللَّهِ أو غارماً في عُسْرَتِهِ أو مُكَاتَباً في رَقَبَتِهِ أَظَلَّهُ الله في ظله يوم لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" رواه أحمد وصححه الحاكم.

العازل الثالث: المحبة في الله تعالى وليس لأجلِ مصلحة دنيوية أو غيرها، فعن أبي هُرَيْرَةَ قال: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ يقول يوم الْقِيَامَةِ: أَيْنَ الْمُتَحَابُّونَ بِجَلَالِي؟ الْيَوْمَ أُظِلُّهُمْ في ظِلِّي يوم لَا ظِلَّ إلا ظِلِّي" رواه مسلم.

وعن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: سمعت رَسُولَ اللَّهِ يَحْكِى عن رَبِّهِ يقول: "الْمُتَحَابُّونَ في اللَّهِ على مَنَابِرَ من نُورٍ في ظِلِّ الْعَرْشِ يوم لاَ ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ" رواه أحمد والطبراني.

العازل الرابع: حفْظ سورتي البقرة وآل عمران؛ فعن عبد اللَّهِ بن بُرَيْدَةَ عن أبيه قال: كنت جَالِسًا عِنْدَ النبي -صلى الله عليه وسلم- فَسَمِعْتُهُ يقول: "تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ؛ فإن أَخْذَهَا بَرَكَةٌ، وَتَرْكَهَا حَسْرَةٌ، ولا يَسْتَطِيعُهَا الْبَطَلَةُ"، ثُمَّ سَكَتَ سَاعَةً ثُمَّ قال: "تَعَلَّمُوا سُورَةَ الْبَقَرَةِ وَآلِ عِمْرَانَ؛ فَإِنَّهُمَا الزَّهْرَاوَانِ، وَإِنَّهُمَا تُظِلَّانِ صَاحِبَهُمَا يوم الْقِيَامَةِ كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أو غَيَايَتَانِ، أو فِرْقَانِ من طَيْرٍ صَوَافّ" رواه أحمد والدارمي والبيهقي في الشعب، ورجاله رجال الصحيح، وقال الألباني حسن صحيح.

وعن النَّوَّاسَ بن سَمْعَانَ الْكِلَابِي -رضي الله عنه- يقول: سمعت النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "يُؤْتَى بِالْقُرْآنِ يوم الْقِيَامَةِ وَأَهْلِهِ الَّذِينَ كَانُوا يَعْمَلُونَ بِهِ، تَقْدُمُهُ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَآلُ عِمْرَانَ"، وَضَرَبَ لَهُمَا رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ثَلَاثَةَ أَمْثَالٍ ما نَسِيتُهُنَّ بَعْدُ، قال: "كَأَنَّهُمَا غَمَامَتَانِ، أو ظُلَّتَانِ سَوْدَاوَانِ بَيْنَهُمَا شرقٌ، أو كَأَنَّهُمَا حِزْقَانِ من طَيْرٍ صَوَافّ؛ تُحَاجَّانِ عن صَاحِبِهِمَا" رواه مسلم.

فاحرصوا على هاتين السورتين، بدلا من حفظ الأغاني التي لا تزيد القلب إلا ضعفاً ووهناً وبؤساً وشقاء.

العازل الخامس: الصدقة على الفقراء والمحتاجين، فعن عُقْبَةَ بن عَامِرٍ -رضي الله عنه- يقول: سمعتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يقول: "كُلُّ امْرِئٍ في ظِلِّ صَدَقَتِهِ حتى يُفْصَلَ بين الناس"، أو قال: "يُحْكَمَ بين الناس" رواه أحمد وصححه الحاكم وابن حبان وابن خزيمة والألباني.

فحري بكل مسلم أن يكثر من الصدقات ليستظل بها في يومٍ كربه شديد، يغرق فيه الناس في عرقهم.

العازل السادس: العدل في الرعية، أو في مَن تحت ولايته ولو كانت ولاية صغيرة، كولاية الرجل على أهل بيته.

العازل السابع: نشأة الشاب في طاعة الله وعبادته.

العازل الثامن: تعلق القلوب ببيوت الله.

العازل التاسع: تجنب الزنا ودواعيه التي كثر ترويجها وبثها خلال وسائل الإعلام المختلفة ليل نهار.

العازل العاشر: البكاء من خشية الله وعند ذكره.

العازل الحادي عشر: إخلاص العمل لله تعالى.

يجمع هذه العوازل ما ورد عن أبي هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُم الله تَعَالَى في ظِلِّهِ يوم لَا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَدْلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بالْمَسَاجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ اجْتَمَعَا عليه وَتَفَرَّقَا عليه، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فقال إني أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فَأَخْفَاهَا حتى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ" رواه البخاري ومسلم.

هذه بعض الأعمال التي تظل صاحبها يوم القيامة، وتقيه وتعزله عن حَرِّ شمس الآخرة؛ فالأمر جد خطير، ولا وقت للمسلم يضيِّعُهُ فيما لا ينفع.

(فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ * أَلَمْ تَكُنْ آَيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ * قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ * رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ * إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ) [المؤمنون:101-111].

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

الخطبة الثانية:

أيها المسلمون: في مثل هذه الأيام الحارة المحرقة من كلِّ عام يجدُّ عزم كثير من الناس على ركوب سياراتهم ورواحلهم ميممين شرقاً وغرباً وشمالاً وجنوباً لقضاء الإجازة الصيفية هاربين من حرارة الشمس اللافحة وأشعتها المحرقة إلى حيث الظل الوارف والجو العليل، وهذا يدعونا إلى وقفات نقفها مع الحر وشدته.

الوقفة الأولى: هذا الحر دليل من دلائل ربوبية الله تعالى، فهو الذي يقلب الأيام والشهور، ويطوي الأعوام والدهور، وهو الواحد الأحد، الفرد الصمد، سبحانه وتعالى: (قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ * قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [القصص:71-72].

قال الإمام ابن القيم -رحمه الله-: "ثمَّ تأمَّلْ هذه الحكمةَ البالغةَ في الحرِّ والبرد وقيام الحيوان والنبات عليها، وفكر في دخول أحدهما على الآخر بالتدريج والمهلة حتى يبلغ نهايته، ولو دخل عليه مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأهلكها، وبالنبات، ولولا العناية والحكمة والرحمة والإحسان لما كان ذلك".

الوقفة الثانية: شدة الحر من فيح جهنم، فعن أبي هُرَيْرَةَ عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "إذا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ؛ فإن شِدَّةَ الْحَرِّ من فَيْحِ جَهَنَّمَ، وَاشْتَكَتْ النَّارُ إلى رَبِّهَا فقالت يا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا؛ فَأَذِنَ لها بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ في الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ في الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الْحَرِّ، وَأَشَدُّ ما تَجِدُونَ من الزَّمْهَرِيرِ" رواه البخاري ومسلم.

قال الحسن البصري -رحمه الله-: "كُلُّ بردٍ أهْلَكَ شيئاً فهُو مِن نَفَسِ جهنَّم، وكُلُّ حَرٍّ أهلك شيئا ً فهو من نفس جهنم".

فيا من لا يطيقون حرارة الجو، ويا من لا يتحملون الوقوف في الشمس ساعة، كيف بكم وحرارة جهنم؟ حمانا الله جميعاً منها! فوالله الذي لا إله غيره! لسنا لها بمطيقين؛ فإنَّ حرَّها شديد، وقعرها بعيد، وطعام أهلها الزقوم والقيح والصديد، وسلاسلها وأغلالها الحديد.

كيف بكم وقد قال أبو هُرَيْرَةَ -رضي الله عنه-: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قال: " نَارُكُمْ جُزْءٌ من سَبْعِينَ جُزْءًا من نَارِ جَهَنَّمَ"، قِيلَ: يا رَسُولَ اللَّهِ، إن كانت لَكَافِيَةً! قال:" فُضِّلَتْ عَلَيْهِنَّ بِتِسْعَةٍ وَسِتِّينَ جُزْءًا، كُلُّهُنَّ مِثْلُ حَرِّهَا" رواه البخاري ومسلم.

كيف بكم وقد قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا من أَهْلِ النَّارِ يوم الْقِيَامَةِ فَيُصْبَغُ في النَّارِ صَبْغَةً ثُمَّ يُقَالُ: يا ابن آدَمَ: هل رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هل مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فيقول: لَا والله يا رَبِّ!" رواه مسلم عن أنس -رضي الله عنه-.

لقد نسي الهالكُ كلَّ نعيم في الدنيا بمجرد صبغة وغمسة؛ فما ظنُّكم بمن يخلد فيها ويقاسي عذابها؟!.

فيا من لا يصبر على حر الشمس في الدنيا: يجب عليك أن تجتنب من الأعمال كلَّ ما يستوجب دخولك النَّار؛ فإنَّه لا حول ولا قوة لأحد عليها، ولا صبر لأحد على حرها وعذابها.

ذكر قتادة -رحمه الله- شراب أهل جهنم، وهو ما يسيل من صديدهم، فقال: "هل لكم بهذا طاقة؟ أم لكم عليه صبر؟ طاعة الله أهون عليكم يا قوم؛ فأطيعوا الله ورسوله".

ورأى عمر بن عيد العزيز -رحمه الله- قوماً في جنازة قد هربوا من الشمس إلى الظل وتوقوا الغبار، فبكى ثم أنشأ يقول:

مَن كان حين تُصيبُ الشمسُ جبهتَهُ

أو الغبارُ يخاف الشَّيْنَ والشَّعَـــثّا

ويألَفُ الظِّلَّ كيْ يُبْقِي بَشَاشَتَــهُ

فسوف يسكن يوماً راغماً جَدَثَــا

في ظلِّ مُقْفِرَةٍ غَبْرَاءَ مُظْلِمَـــةٍ

يُطِيلُ تحت الثَّرى في غَمـِّـها اللُّبُثَا

تَجَهَّزِي بِجَـَهَازٍ تَبْلُغِينَ بِــــهِ

يا نفسُ قبْـلَ الرَّدَى لم تُخْلَقِي عَبَثَا

الوقفة الثالثة: إن الحرَّ ابتلاء من الله سبحانه لعباده، فلا يجوز للمسلم أن يترك ما أمره الله به من واجبات معتذراً بالحر، ففي السنة التاسعة وقعت غزوة تبوك في حر شديد وسفر بعيد، فالجو حار والمسافة بعيدة والعدو شرس، فبرز حينها النفاق، وأخذ المنافقون يلتمسون الأعذار للتخلف عن الغزو، فكان من أعذارهم شدة الحر، كما قال تعالى عنهم: (وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ) [التوبة:81]؛ وذلك إيثاراً للراحة والدعة في المدينة، حيثُ طيبَ الثمار ووفرة الظلال، فآثروا الراحة الرخيصة على الكدح الكريم، فذكَّرَهم المولى سبحانه بما ينبغي أن يخشونه ويهربون منه: (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) [التوبة:81].

فإذا كنتم خائفين من حرارة الشمس والأرض فأجدر بكم أن تخافوا وتشفقوا مما هو أشد منها حرارة، ولكن المنافقين لا يفقهون هذه الحقيقة، وسيضحكون استهزاء وسخرية؛ ولكنَّ هذا الضحك قليل إذا ما قورن ببكائهم يوم القيامة، جزاء ما قدمت لهم أنفسهم من النفاق: (فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [التوبة:82].

الوقفة الرابعة: الحر والسفر؛ وسأتحدث عنها في الجمعة القادمة إن شاء الله.

صلوا وسلموا على رسول الله، فقد أمركم بذلك ربكم.