المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | سعود بن ابراهيم الشريم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
ولو سئل كثير من العزاب اليوم: ما منعكم من الزواج؟ لكان جواب الكثير منهم في صوت واحد: غلاء المهور، غلاء المهور. الذي أدى بالناس إلى الازدواجية في الحياة، ففئام من الناس يعيشون كأنهم في عصر مضى، وفئام من الناس كأنهم يعيشون في عصر لم يأت بعد، فكيف إذا يلتقي الزوجان وبينهما عصر مديد، هو يعيش كفافا وأهل الزوجة يعيشون إسرافا، هو يريد الزواج وأهلها يريدون الفخر والمباهاة...
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا أيها الناس: لقد أشرق الإسلام بآدابه وتعاليمه الخالدة، فأقر كل خير وجد في الأخلاق الأصيلة، وغسلها مما علق بها خلال القرون من الأوضار الدخيلة، ثم أكملها بما أوحى به رب السماوات والأرض إلى نبيه -صلوات الله وسلامه عليه-؛ تحقيقا لقول الله -عز وجل-: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا) [الأحزاب: 45، 46]. فبعثه الله -عز وجل- لحفظ مصالح الخلق ومقاصدهم، وسد كل ذريعة تخدش دينهم، أو تهز كيانهم، ولذا فقد أجمع الأنبياء والرسل على التوحيد في مللهم، وعلى حفظ المال والنفس والنسب وحفظ العقل والعرض، فكل ما يتضمن حفظ هذه الأصول الستة فهو مصلحة، ولأجل هذا شرع الله الجهاد لحفظ الدين، والقصاص لحفظ النفس، وحدّ المسكر لحفظ العقل، وحد الزنى لحفظ العرض، وحد السرقة لحفظ المال، وعقد النكاح لحفظ النسب.
أيها المسلمون: لقد ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- أنها قالت: "كان النكاح في الجاهلية على أربعة أنحاء:
نكاح الناس اليوم: يخطب الرجل إلى الرجل موليّته أو ابنته، فيصدقها ثم ينكحها.
ونكاح الاستبضاع: كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من حيضها: أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه -أي اطلبي منه الجماع- ويعتزلها زوجها، حتى يتبين حملها، فإذا تبين حملها أصابها إذا أحب، وإنما يفعل ذلك رغبة في نجابة الولد.
ونكاح آخر: يجتمع الرهط على المرأة فيدخلون عليها كلهم يصيبها، فإذا حملت ووضعت ومر عليها ليال، أرسلت إليهم، فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع، حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم: قد عرفتم ما كان من أمركم وقد ولدت، فهو ابنك يا فلان، تسمي من أحبت باسمه فيلحق به ولدها، لا يستطيع أن يمتنع منه الرجل.
ونكاح رابع: يجتمع ناس كثير، فيدخلون على المرأة، لا تمتنع ممن جاءها، وهن البغايا؛ ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما، فمن أرادهن دخل عليهن، فإذا حملت إحداهن ووضعت، جمعوا لها، ودعوا لها القافة -وهم الذين يشبهون الناس- ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون، فالتاط به -أي التصق به وثبت النسب بينهما- ودعي ابنه لا يمتنع منه الرجل. فلما بعث محمد -صلى الله عليه وسلم- "هدم نكاح الجاهلية كله، إلا نكاح الناس اليوم" رواه البخاري.
أيها المسلمون: النكاح عبادة يستكمل بها المسلم نصف دينه، ويلقى بها ربه على أحسن حال من الطهر والعفاف، وفي كثرة النسل من المصالح الخاصة والعامة، ما يساعد الأمة على تكثير سواد أفرادها، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "تزوجوا الولود الودود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة" رواه أبو داود والنسائي وغيرهما, وقديما قيل: (إنما العزة للكاثر). ولا تزال هذه حقيقة قائمة لم يطرأ عليها ما ينقصها.
أيها الناس: إن في البلاد المسلمة اليوم، مشكلة من أعضل المشكلات وأعمقها أثرا في حياة الأمة المسلمة، إنها مشكلة الزواج، التي تتلخص في كلمات، هي أن في المسلمين آلافا مؤلفة من البنات في سن الزواج، لا يجدن الخاطب، وآلافا مؤلفة من الشباب لا يجدون البنات، أو لا يريدون الزواج.
وهذه المشكلة الظاهرة، إن لم يتنبه إليها المسلمون، ويفتحوا لها طرق العلاج بالحلال فإنه لن يجد الشباب للوصول إلى حاجاتهم الغرَزية إلا سلوك طريق الحرام، في نحو ما ذكرت عائشة -رضي الله عنها- أو يزيد، لأن من النتائج الحتمية الظهور والتي لا ينكرها عاقل مسلم، أن الفساد الخلقي سبب في قلة الزواج، وقلة الزواج سبب في الفساد الخلقي، كما قال القائل:
لولا مشيبي ما جفا | لولا جفاه لم أشب |
إن الوقدة من ضرم الشهوة، في أعصاب الشباب المسلم، هي داء الشباب في كل حين، ولطالما أرقت الكثيرين صغارا وكبارا، ولطالما نفت عن عيون الكثيرين لذيذ العيش، ولطالما صدفت عن دروسه التلميذ، وعن عمله العامل، وعن تجارته التاجر، وكل هذا طَبَعِيٌّ معقول، ولكن الذي لا يكون أبدا طَبَعِيًّا ولا معقولا، أن يحس الفتى والفتاة بهذا كله، في سن الشباب، ثم يضطرهما المجتمع بأسلوبه على مختلف المحاور، إلى البقاء على العزوبة، والصدف عن الزواج، من حيث يشعر أو لا يشعر وهذه هي المشكلة وهي مكمن الداء.
ولربما كانت بعض المجتمعات، تقول للشاب بلسان حالها: اختر إحدى ثلاث، كلها شر، ولكن إياك إياك وأن تفكر في الرابعة التي هي وحدها الخير، وهي الزواج، وهذه الثلاث:
إما الانطواء على النفس وعلى أوهام الشهوة، والتفكير فيها، وتغذيتها بالروايات الرخيصة، وأحلام اليقظة، ورؤى المنام، حتى ينتهي به الحال إلى الهوس، أو انهيار أعصابه، ولسان حاله يقول للمجتمع:
ألقاه في اليم مكتوفاً وقال له | إياك إياك أن تبتل بالماء |
وإما اللجوء إلى طرق سرية خفية لإبراز غلة الشهوة، والتي حرمها جمهور أهل العلم عملا بقوله تعالى: (فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ) [المؤمنون: 7].
وإما الاغتراف من حمأة اللذة المحرمة، وسلوك سبل الضلال، لتبذل فيها الصحة والشباب في لذة عارضه، ومتعة عابرة، ثم هو لا يشبع، بل كلما واصل واحدة، زاده الوصال نهما كشارب الماء المالح لا يزداد شربا، إلا ازداد عطشا.
وهذا كله، نتيجة ما نحسه اليوم من جمود في حركة الزواج، حتى أصبحت العزوبة الممقوتة أصلا لدى عدد من الشباب ليس بالقليل، والتي تبعها بعد ذلك اضطراب الأقيسة الاجتماعية في طريقة اختيار القرينة، عندما يرغب الشباب في الحياة الزوجية، والزواج ينبغي إلا يكون قضاء وطر وإدراك شهوة فقط، ولكن ينبغي أن يكون امتدادا لأمة تحمل رسالة نبيها -صلى الله عليه وسلم-، وبناء لأجيال تقيم الصلاة، وتؤتي الزكاة، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ ) [الطور: 21].
أيها المسلمون: لقد توصل كثير من الباحثين في مشكلة الزواج، إلى أسباب كثيرة كانت سدا منيعا في طريق من يريد الزواج، وهم وإن اختلفوا في عد تلك الأسباب، ما بين مقلٍ منها ومكثر؛ إلا أن أهمها لا يخرج عن أسباب ثلاثة:
أولها: تلكم العادات الشنيعة التي تخرب بيت الأب وبيت الخاطب معا، وليس فيها نفع لأحد، وإنما هو التفاخر والتكاثر، والتسابق إلى التبذير والسرف، ولو سئل كثير من العزاب اليوم: ما منعكم من الزواج؟ لكان جواب الكثير منهم في صوت واحد: غلاء المهور، غلاء المهور. الذي أدى بالناس إلى الازدواجية في الحياة، ففئام من الناس يعيشون كأنهم في عصر مضى، وفئام من الناس كأنهم يعيشون في عصر لم يأت بعد، فكيف إذا يلتقي الزوجان وبينهما عصر مديد، هو يعيش كفافا وأهل الزوجة يعيشون إسرافا، هو يريد الزواج وأهلها يريدون الفخر والمباهاة، جاء رجل إلى النبي-صلى الله عليه وسلم- فقال إني تزوجت امرأة من الأنصار فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "على كم تزوجتها؟" قال: على أربع أواق -يعني مائة وستين درهما-, فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: "على أربع أواق!! كأنما تنحتون الفضة من عرض هذا الجبل ما عندنا ما نعطيك" الحديث رواه مسلم.
وعندما يصل المجتمع المسلم إلى حد الرشد، فإنه لا يستطيع بطبيعة الحال، أن ينظر بعين الرضى إلى التنافس الصبياني في غلاء المهور وعشق الأثاث، ومن أبى إلا ركوب رأسه في هذا المنحدر، فإن الله يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن.
وسبب آخر من أسباب تلك المشكلة، يتمثل في قلة الدين، وتغيب العفاف، الذي أدى ببعض المجتمعات في كثير من البقاع - إلا من رحم الله – إلى إقرار الاختلاط بين الجنسين، الذي أصبح وسيلة ناجحة لإطلاق عِنان الغرائز، ليعيش الشباب لصوصا على أعراض الناس، يكتفون باختلاس النظرة، واستجداء اللحظة، وسلوك الغش والتضليل، الذي غفل عن خطرها كثير ممن حُرِمَ هدايةَ الله.
والسبب الثالث من أسباب تلك المشكلة: هو ما يردده بعض أرباب الأفكار اللقيطة، الذين ينفثون سمومهم عبر قنوات متعددة، يقررون من خلالها أن التبكير في الزواج عمل غير صالح، وضرب من التغرير بالمراهقين، وأنه لا ينبغي أن يغامر الفتى بعملية الزواج قبل التزود الكافي من التجارب.
وفي ذلك قال قائلهم: لا قِبَلَ لي بهذا المعنى الذي يسمونه الزواج، فما هو إلا بيت ثقله على شيئين: على الأرض، وعلى نفسي، وأطفال يلزمونني عمل الأيدي الكثيرة، من حيث لا أملك إلا يدين اثنتين، وأتحمل منهم رهقا شديدا، ومن ثم سيصبحون عالة على المجتمع، ومن الذي تعرض عليه الحياة سلامها وأشواقها، في مثل رسالة غرام، ثم يدع ذلك كله ويتزوجها؟ فكأنه بذلك يسألها غضبها وخصامها، في نحو قضية من قضايا المحاكم، كل ورقة فيها تلدُ ورقة.
وطَبَعِيٌّ أن يكون لمثل هذا الصدى مريدون ومريدات، يضعون مثل هذه الترهات في مقام القداسة والتعظيم، حتى يقف به الأمر لأن يكون الواحد منهم خوارا جبانا، لا يستطيع أن يحمل أثقالا مع أثقاله، ويستوطن العجز والخمول، فلا يكون إلا قاعد الهمة، رخو العزيمة.
وكل شاب تلك حاله، فهو حادثة ترتدف الحوادث وتستلزمها، ولا يأتي السوء إلا بمثله أو بأسوأ منه، فيشهد العزب على نفسه، أنه مبتلى بالعافية، مستعبد بالحرية، مجنون بالعقل، مغلوب بالقوة، شقي بالسعادة.
وما علم هؤلاء أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-ألجمهم بقوله: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج, ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء" رواه الجماعة. قال -تعالى-: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [النور: 32]. قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ينجز لكم ما وعدكم به من الغنى".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
أما بعد:
فيا أيها الناس: بالنكاح يلتم الشعث، وتسكن النفس، ويطمئن القلب، ويستريح الضمير من تعب التفكير، ويحصل الولد، ويعمر البيت، وتتم به نعمة الله على الزوجين، ولن تكمل الرجولة حتى يتزوج الشاب، أما الذي لا زوجة له ولا ولد، فرحمته بالناس مفقودة، وشفقته عليهم غير موجودة، لا يهمه إلا بطنه وظهره، ولا يجمع من المال إلا ما يكفيه لحياته, هو عالة على أهله في صغره، وغير مأمول في كبره، إذا طال عمره فغير ملتفت إليه، وإذا مات فغير مبكي عليه، ومن رغب عن النكاح فقد ترهب، وعنده يقف نسل آدم، ومن جهته تنقطع الأبوة والبنوة، فلا يذكر إلا بعلم علمه، أو مال ترك منه صدقة جارية.
دخل الأحنف بن قيس على معاوية -رضي الله عنه-، ويزيد بين يديه، وهو ينظر إليه إعجابا به فقال: يا أبا بحر، ما تقول في الولد؟ فعلم ما أراد فقال: يا أمير المؤمنين هم عماد ظهورنا، وثمر قلوبنا وقرة أعيننا، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف لمن بعدنا, فكن لهم أرضاً ذليلة، وسماء ظليلة, إن سألوك فأعطهم، وإن استعتبوك فأعتبهم، لا تمنعهم رفدك فيملوا قربك، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا وفاتك، فقال: لله درك يا أبا بحر، هم كما وصفت.
هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية وأزكى البشرية جمعاء، محمد بن عبد الله بن عبد المطلب سيد المرسلين، وإمام الغر المحجلين، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.