القيوم
كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...
العربية
المؤلف | عاصم محمد الخضيري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
لقد أتانا نبأ المفسدين! فهل أتاك نبأ المصلحين؟! المفسدون كثير، يكفيك أنك لو أطعت أكثر من في الأرض ضلوك عن سبيل الله!! لكن نبأَ المصلحين قليل من قليل!! فهل أتاك نبأ المصلحين؟! (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، غلامٌ يتردد بين ساحر وراهب، وقد اشتبه عليه أمر الساحر والراهب، أيهما يتبع الصراط المستقيم، وبينا هو في طريقه إذ اعترضت الناسَ حيةٌ كبيرة عظيمة، فاحتار الناس في التخلص منها وغُلبوا على ذلك، فجاء الغلام...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل في كل زمانِ فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضل إلى الهدى ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه!! وكم من ضال تائه قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وما أقبح أثر الناس عليهم!! ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين.
وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى، وأشهد أن محمدًا بن عبد الله عبد الله ورسوله، خيرُ من وطئ الحصى وأوفى ووفّى، وتسامى بمجده الجوزاءَ، صلى الله عليه وعلى آله الطيبين الأطهار وأصحابِه الأخيار، كأن عليهم من شمس الضحى فلقًا، ومن ضوء الصباح عمودًا، وصلّ اللهم على التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً).
مصلحون، فهل أتاك نبأ المصلحين؟!
طوبى لمصلح أمة في نفسه | ليحقق الله به الإصلاحَ |
لقد أتانا نبأ المفسدين! فهل أتاك نبأ المصلحين؟! المفسدون كثير، يكفيك أنك لو أطعت أكثر من في الأرض ضلوك عن سبيل الله!! لكن نبأَ المصلحين قليل من قليل!! فهل أتاك نبأ المصلحين؟! (فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، غلامٌ يتردد بين ساحر وراهب، وقد اشتبه عليه أمر الساحر والراهب، أيهما يتبع الصراط المستقيم، وبينا هو في طريقه إذ اعترضت الناسَ حيةٌ كبيرة عظيمة، فاحتار الناس في التخلص منها وغُلبوا على ذلك، فجاء الغلام، فدعا ربه وقال: اللهم إن كان أمر الراهب أحبَّ إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضي الناس، فرماها الغلام ثم قتلها، فسمع به جليس الملك وكان أعمى فأُتي به وقال: لقد سمعت أنك تشفي الناس، فقال الغلام: إن الشافي الله، فإن آمنتَ دعوتُ لك الله فشفاك، ففعل جليس الملك حتى شفاه الله، فبلغ الخبرُ أسماع الملك، فضج الملك قائلاً: ألكم رب غيري؟! فأخذ الملك جليسَه فعذبه حتى دل على الغلام، ثم أُتي بالغلام، فعذبه عذابًا شديدًا، حتى دل على الراهب، فأُتي بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك فأبى، فوضع الملك المنشارَ على رأسه حتى حزّه نصفين، ثم جيء بالغلام فدفعه مع نفر من أصحابه على رأس جبل فقال لهم: إذا بلغتم ذروة الجبل فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه، فوصلوا به فقال الغلام: اللهم اكفنيهم بما شئت، فتزلزل الجبل عليهم حتى سقطوا، ثم جاء يمشي إلى الملك، قال: ما فعل أصحابك، فقال: نجاني الله، فدفع به مع نفر آخرين إلى ظهر سفينة، فهاجت الريح عليهم حتى غرقوا كلّهم ثم جاء يمشي إلى الملك وحده، فغضب الملك غضبًا شديدًا ثم قال له الغلام: ما أنت قاتلي حتى تفعلَ ما أقولُ لك، وهنا انتفض كل شيء، في مقام يرتعد الثبات فيه، وتتزلزل فيه الطبائع البشرية، ولكن أنى تتزلزلُ في قلوب المصلحين، الذين يضحون بأعمار صغار في سبيل أفكار كبار!! قلوب المصلحين لا تعبأ بالفناء، فالفناء ما هو إلا بقاء في جوار الخالق الباقي.
قال الغلام للملك في لحظة رواها بأسانيد كالشمس مسلم بن الحجاج بسنده إلى رسول الله:
من ثغر أطهر ثغر في تخلقه | والمسك يرويه عن نُوَّارة الوادي |
قال الغلام للملك: اجمع الناس في صعيد واحد، ثم اصلبني على جذع شجرة، ثم خذ من كنانتي سهمًا، ثم ضع السهم في القوس، وقل: بسم الله رب الغلام، ثم ارمني حيث شئت، فإنك إن فعلت قتلتني، وما علم هذا المتربب الضعيف أن مثقال ذرة من إيمان هذا الغلام كافيةٌ أن تزلزل ملكه وربوبيته، وأن المصلحين ما هم إلا فوهات مدافع في وجوه الظُّلْم والظُّلَمِ، فجمع الملكُ الناسَ في صعيد واحد، ثم صلبه وهز القوس ثم قال الملك: بسم الله رب الغلام، ثم رماه فوقع السهم في رأسه، فخر صريعًا، فصرخ الناس صرخة واحدة قائلين: بسم الله رب الغلام، بسم الله رب الغلام!!
وقد تولد الأنوار من رحم الدجى، وقد تُبعث الأحياء من موت مُصلح، المصلحون كبار في مبادئهم، هانت حياتهم، في رفعة الدين.
طوبى لهم، فهل جاءك من نبأهم؟! إنهم الغرباء الذين سئل النبي عنهم فقال: "هم الذين يُصحلون ما أفسد الناس، ويَصلُحون إذا فسد الناس". المصلحون، طوبى لهم!!
يجلس أبو بكر بين يدي رسول الله ثم يقول له رسول الله: أسلم يا أبا بكر، فيشهد أبو بكر شهادة الإسلام، ثم يهتز رسول الله من هذا الموقف بعد حين من الزمن ويقول لكل من لم يحضر هذا المشهد من الصحابة: يقول لهم: "ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له كبوة، إلا أخي أبا بكر، فإنه قال لي: صدقت، وواساني بنفسه وماله".
لو قيل:
إن غمار المجد في ثبج | لأسرج الخيلَ حتى يَقحم الثبجَ |
يتنفس الإصلاح من ثغر أبي بكر -رضي الله عنه- فلا يرضى بإسلام نفسه، حتى يأتي بعد أيام قليلة من إسلامه ويفاجئ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بإسلام ستة نفر، كلهم شهد له رسول الله بالجنة.
له همة في الناس ما إن مثلها | وهي التي جنت النحول هي التي |
لو كان يقعد فوق الشمس من شرف | فرد بأمجاده أو نفسه قعدَ |
قليلة تلك النفوس التي تملك زمام الإصلاح، وتستعد أن تضحي بكل شيء في سبيله، حتى لو أبى عليه الناسُ كلُّهم، والله لا يُخلِّد شرفَ الإنسانِ مالُه ولا نسلُه، ولا نسبُه ولا جاهُه، يخلده أن يعمل فَتيًّا أبيًّا في سبيل الإصلاح ليَتم الإصلاحُ أو يَهْلِكَ دونه.
المصلحون يتنفسون كالبشر، وتعمل رئاتهم كالبشر، ويأكلون كالبشر، لهم طينة مزجت من طيناتنا، ما افترقوا عنا بشيء إلا أنهم تمثلوا قول الله: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا)، فكانوا أشعة نور، يبصِّرون بنور الله أهل العمى، والله –عز وجل- يقول: (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا).
يقْدُم الطفيلُ بن عمرو إلى مكة، وكان سيد دوس حينها، فيأتي إليه أصلاف المشركين، ويحذرونه من رسول الله، ويقولون: لا تسمع لمحمد، فإنا لا نأمنك عليه، فإنه قد سحر الناس بكلامه، فما زالوا يحذرونه حتى وضع القطن في أذنيه، وبينما هو يطوف بالكعبة حتى رأى رسول الله، فقال لنفسه: إني رجل أريب أديب، ولا يخفى عليَّ كلام الناس، فما زالت به نفسُه حتى سمع من رسول الله وقرأ عليه المعوذتين ثم أسلم في الحال، ولما نطق الشهادتين هرب إلى قومه نذيرًا وبشيرًا، فقال لقومه: حرام عليَّ كلامُكُم، إن لم تدخلوا في دين الله!! فما زال بهم حتى دخلوا كلُّهم، ثم وفد بهم إلى رسول الله.
المصلحون كبار في مبادئهم، هانت حياتهم في رفعة الدين، ما يضيرك أن تُقضَّيَ وقتك كلَّه في سبيل الإصلاحِ!! تخشى على ماذا؟! تخشى على نفسك؟! طوبى لنفس خرجت في سبيل إصلاح ما أفسد الناس!! تخشى على مالك؟! ما لَكَ من مالك إلا ما قدمت، تخشى على أولادك؟! إن الذي أقام صلبك سيقيم أصلابهم، أتخشى على عمرك؟! عمر الحياة الذي قدمته لغد، وما تقدمُه يخلفْكه الله.
هذه الأعمار إعمار الهدى | ودمارٌ للمضيع الضائع |
والمصلحون الصالحون تراهم | للعمر في سُبُلِ الصلاح كِرَامُ |
هل أتاك نبأ المصلحين؟! الذين يصلحون ما أفسد الناس. نبأ المصلحين كله خير وبر وصلاح، وجهاد في سبيل الإصلاح!! المصلحون نبأ كله عجب.
جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ الْجُمَحِيُّ مَعَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ، بَعْدَ مُصَابِ أَهْلِ بَدْرٍ بِيَسِيرٍ، وكان ذلك فِي حجر الكعبة، وَكَانَ عُمَيْرُ شيطانا مِنْ شَيَاطِينِ قُرَيْشٍ، وَمِمَّنْ يُؤْذِي الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ ابْنُهُ وُهَيْبٌ فِي الْأَسْرَى مع المسلمين، فجعل عمير وصفوان يتذاكران أَصْحَابَ الْقَلِيبِ وَمُصَابَهُمْ، فَقَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ ليس فِي الْعَيْشِ بَعْدَهُم خَيْرٌ، فَقَالَ عُمَيْرٌ بن وهب: صَدَقْتَ، وَاللَّهِ لَوْلَا دَيْنٌ عَلَيَّ لَيْسَ عِنْدِي لَهُ قَضَاءٌ، وَعِيَالٌ أَخْشَى عَلَيْهِمْ، لَرَكِبْتُ إِلَى مُحَمَّدٍ حَتَّى أَقْتُلَهُ، فَإِنَّ لِي فِيهِمْ عِلَّةً؛ ابْنِي أَسِيرٌ فِي أَيْدِيهِمْ. فَاغْتَنَمَهَا صَفْوَانُ فَقَالَ: يا عمير عَلَيَّ دَيْنُكَ وعيالك عيالي. فال: فَاكْتُمْ عَلَيَّ. ثُمَّ شَحَذَ سَيْفَهُ وَسَمَّهُ، ثم مَضَى إلى المدينة.
فبينا عُمَرُ بن الخطاب فِي نَفَرٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ يَتَحَدَّثُونَ عَنْ يوم بدر، إذ نظر عمر إِلَى عُمَيْرٍ حِينَ أَنَاخَ عَلَى بَابِ الْمَسْجِدِ مُتَوَشِّحًا بِالسَّيْفِ. فَقَالَ عمر: هَذَا الْكَلْبُ عَدُوُّ اللَّهِ عمير، ثُمَّ دَخَلَ عمر عَلَى النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: هَذَا عُمَيْرٌ بالباب. قَالَ: "أَدْخِلْهُ عَلَيَّ يا عمر". فَأَقْبَلَ عُمَرُ حَتَّى أَخَذَ بِحَمَّالَةِ سَيْفِهِ فِي عُنُقِهِ، فَلَبَّبَهُ بِهِ، وَقَالَ لِرِجَالٍ مِمَّنْ كَانُوا مَعَهُ مِنَ الْأَنْصَارِ: ادْخُلُوا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَاجْلِسُوا عِنْدَهُ وَاحْذَرُوا عَلَيْهِ هَذَا الخبيث. ثم دخل به فقال -عليه السلام-: "أَرْسِلْه يَا عُمَرَ، اُدْنُ يَا عُمَيْرُ". فَدَنَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْعِمُوا صَبَاحًا، قَالَ رسول الله: "فَمَا جَاءَ بِكَ؟!". قَالَ: جِئْتُ لِهَذَا الْأَسِيرِ الَّذِي فِي أيديكم. قال رسول الله: "فما بال السيف فِي عُنُقِكَ؟!". قَالَ: قَبَّحَهَا اللَّهُ مِنْ سُيُوفٍ، وَهَلْ أَغْنَتْ شَيْئًا يوم بدر؟! قَالَ: "اصْدُقْنِي مَا الَّذِي جِئْتَ لَهُ يا عمير؟!". قَالَ: مَا جِئْتُ إِلَّا لِذَلِكَ. قَالَ رسول الله: "بَلَى يا عمير، بل قَعَدْتَ أَنْتَ وَصَفْوَانُ فِي الْحِجْرِ". وَقَصَّ لَهُ مَا قَالَا. فَقَال عميرَ: أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَه إِلَّا اللَّهُ وَأنَّكَ رَسُولُهُ. قَدْ كُنَّا -يَا رَسُولَ اللَّهِ- نُكَذِّبُكَ بِمَا تَأْتِينَا بِهِ مِنْ خَبَرِ السَّمَاءِ، وَهَذَا أَمْرٌ لَمْ يحضره إلا أنا وصفوان بن أمية عند الكعبة، الآن علمت أن ما يأتيك هو من عند الله، فَالْحَمْدُ لله الذي هدَانِي لِلْإِسْلَامِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَقِّهُوا أَخَاكُمْ فِي دِينِهِ، وَأَقْرِئُوهُ الْقُرْآنَ وَأَطْلِقُوا لَهُ أَسِيرَهُ". فَفَعَلُوا.
ثُمَّ قَال عميرَ: والله -يَا رَسُولَ اللَّهِ- إِنِّي كُنْتُ جَاهِدًا عَلَى إِطْفَاءِ نُورِ اللَّهِ، شَدِيدَ الْأَذَى لِمَنْ كَانَ عَلَى دِينِ اللَّهِ، وَأَنَا أُحِبُّ أَنْ تَأذَنَ لِي فَأَقْدَمَ مَكَّةَ فَأَدْعُوهُمْ كلَّهم إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ، لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَهْدِيَهُمْ، فوالله لا عشت إلا لهذا الدين، ولا لزمت إلا غرز الداعين، مصلح في المصلحين!! وإذا هش هدى الله في قلب امرئ، فسواء راحةٌ والتعبُ.
هكذا هكذا وإلا فلا لا | ذي المعالي فليعلون من تعالى |
ذهب عمير إلى مكة، فجعل يدعوهم إلى الإسلام، حتى أسلم على يديه خلق كثير لا يحصون،! إلى أن جاء فتح مكة.
هذا سبيل الإصلاح يبتغي عزيمة صادقة، وصبرًا نافذًا، وهدى وقَّادًا، إذا عرف المرء سبيله وأقنع نفسه به، فستكون الراحة عذابًا، والعذاب عذبًا، ما كان يضير عمير بن وهب -رضي الله عنه- أن يقسم قسمه على رسول الله حين عرف سبيل الصلاح أن يعمل لهذا الدين ويبث الإصلاح لكل من عرف ومن لم يعرف، من يوم أن عرف هداه، ما كان يضير عميرًا، وهو الذي كان يعلم ما أقدم عليه، واضعًا يديه في زناد مستعر، ما كان يضير عميرًا أن يخسر صداقته مع صفوان، حين رجع إلى مكة، ليجد صفوانَ وهو ينتظره عند باب مكة، وينتظر معه رأس رسول الله، ما ضر عميرًا -رضي الله عنه- أن يخسر صداقته مع صفوان، حين دخل إلى مكة، وذلك حين علم صفوانُ بالخبر غضب غضبًا شديدًا وأقسم وقال: والله لا كلمتك الدهر كله، ولا نفعتك بشيء، ولا تجدُ مني إلا كل عداوة.
هذا سبيل المصلحين ومن يحد | عنه فليس بكفئه الإصلاحُ |
والله يقول: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).
أستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين المصلحين، وأشهد ألا إله إلا الله إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
يقول الأول -ولقد صدق-:
وكلٌّ يرى طرق الشجاعة والندى | ولكن عزم الحر للحر قائد |
كـل من لاقيت يدري ما الهدى | وقليـلٌ مـن قليل يهتدي |
لعله يقدر لك أن ترى أي مجتمع من المجتمعات ثم ترى مصلحيها، سترى أناسًا عاشوا كغيرهم، وما افترقوا عن سواهم إلا بالصبر واليقين، فنالوا بهما إمامة الدين.
أمعنوا أنظاركم في هؤلاء، فإن هؤلاء هم ملحُ البلد، وهم الذين حقت كلمة الله ألا يُهلك القرى بظلم وهؤلاء بها.
أنهلك وفينا الصالحون، نعم ولا كرامة إذا كثر الخبث، أنهلك وفينا المصلحون، كلا فما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون.
صدق الإمام أحمد -رحمه الله-: "ما أحسن أثرهم على الناس، وما أقبح أثر الناس عليهم".
أيها المصلحون: (فَلَوْلا كَانَ مِنْ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنْ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ).
إذا رأيت رجلاً يعذب نفسه في ذات الله، يحاول أن يصلح ما أفسد الناس، فلا تقل: قد أتعب نفسه، فإنه والله لقد أراحها، إذا رأيت رجالاً ما أهمتهم أنفسهم ولا أموالهم، ولا هذه الأخطار التي اتخذوها قبلة، ولا أن يجمعوا الدنيا كما جمعها غيرهم، فلا تقل: قد ألقوا بأنفسهم إلى التهلكة، فإنهم رجال، جعلوا من أنفسهم جسرًا يمر به الصلاح، المصلحون أمان الديار، وضمان البقاء من الواحد القهار.
إذا رأيت رجالاً بخعوا أنفسهم وأهلكوها في سبيل صلاح أقوامهم، فاعلم أنهم ورثة أكابر الدنيا، إذا رأيت رجالاً تقضت أعمارهم، وذهبت أجسادهم في سبيل الإصلاح الصحيح، فاعلم أنه أولو بقية من أكابر المصلحين في هذا العالم.
إن أكابر المصلحين في هذا العالم هم الأنبياء؛ ضاق نوح -عليه السلام- بكفر قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا حتى استخرج كلمات هي آخر ما يمكن أن يقوله نبي: (رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً)، وأُتي إبراهيم -عليه السلام- من أحب الأبواب إليه: إنه باب الأبوة، حتى أهلك نفسه بدعوة أبيه وتذكيره بالله، حتى جاء القرار الأخير: (لَئِنْ لَمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيّاً).
إن سبيل الإصلاح مشى على الأنبياء واحدًا فواحدًا، مشى فيه على رقبة نبي الله يحيى -عليه السلام- حتى قتله قومه، وهاجر من الخوف موسى -عليه السلام-، ثم تشرد تعِبًا. وأغضب لأجله يونس -عليه السلام-، وهدد بالإخراج من الديار لوط -عليه السلام-؛ لأنه كان من قوم يتطهرون، وأما محمد بن عبد الله: فإذا ذكرت المصلحين وجدتهم قومًا مشوا فيه بهدي محمد –صلى الله عليه وسلم-.
مرّت على أبوابه زمر الردى | واقتيد للبلوى بكل مهند |
ما سبل المصلحين؟! إن أول سبيل تخلق به المصلحون: هو إصلاح النفوس! استقم كما أمرت لا كما رغبت، وفاقد الإصلاح لا يعطيه: (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ).
وكل إصلاح لا يبدأ أولاً من الأنفس والقلوب، ولا يعتمد التربية الإيمانية القلبية التي تورث في باطن الأفئدة طمأنينةَ الإيمان وسكينة َالله، والخوف من الله قبل كل شيء، فهو حَوَمان حول الإصلاح دون ولوج بابه، ولما جاء الصحابي -رضي الله عنه- إلى رسول الله وقال له: قل في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحدًا غيرك، قال له رسول الله: قل آمنت بالله ثم استقم.
ابدأ بنفسك فانهها عن غيها | فإذا انتهت عنه فأنت حكيم |
فهناك يقبل ما تقول ويُقتدى | بالقول منك وينفـع التعليم |
ثاني سبل المصلحين: العزيمة والصبر والثبات، أما هذه فقد كانت عنوانًا يتزيا به كل مصلح في الدنيا، والله لن تجد أي مصلح من المصلحين من عهد آدم إلى يومنا هذا إلا وقد اتخذ العزيمة والصبر شعارًا له، إن قليلي النَّفَس هم الذين لا يثبتون ولا يصبرون، لو كان للإصلاح اسمٌ آخر لما كان إلا العزيمةَ والصبرَ والثباتَ، طوبى لهؤلاء الصابرين الثابتين العازمين الصادقين، طوبى لهم؛ هتاف أحدهم:
إن نفسي نفسُ الجميع ولكن | لي عزمٌ يقلقل الجبال |
تسخر من أحدهم حين يدعو في سبيل الله ثم من أول اختبار يسقط مع الاختبار، ويترك سبيل الإصلاح بحجة بلوغ المحجة، يا بؤساه ويا تَعْساه.
يضحي نوح -عليه السلام- بألف سنة إلا خمسين عامًا من أجل هداية أفرادَ قلائل، وأحدهم حين يؤذى في ذات الله يجعل فتنة الناس كعذاب الله، يمسح رسول الله الدم عن وجهه بعدما شج رأسه وكسرت رباعيته، ثم يرفع رأسه إلى السماء ويقول: اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون، تدمى عقبه -عليه الصلاة والسلام- يوم الطائف بعد دعوة شاقة يدعو أهلها، ثم يهان ويضرب ويُدفع بالسفهاء لرميه، ثم يلتفت على ملك الجبال ويقول له: "لا تطبق عليهم الأخشبين، فلعل الله أن يخرج من أصلابهم من يعبد الله ولا يشرك به شيئًا".
المصلحون أصابع جمعت يدًا | هي أنت بل أنت اليد البيضاء |
هذا سبيل المصلحين ومن يحد | عنه عنه فليس بكفئه الإصلاح |
يثبت الإمام أحمد -رحمه الله- ويصبر صبرًا شديدًا، سابحًا وحده ضد محيط غدار، لا نصرة ولا تأييد إلا من رب السماء، تتهارش الأخطار عند لقائه، وينادي الظلم من عليائه، قائلاً لجلاديه: افعلوا ما بدا لكم، يقول لهم غير مبال، يتخذ الصبر والعزيمة نبراسًا، يناديهم:
افعلوا فقد عجمتني الحادثات فصادفت | صبورًا على مكروهها حين تُعجم |
المصلحون يرون الصعاب محطات فرج:
فكل صعيبة في الدهر لينٌ | وكل كريهة فرج ويسر |
لا يضر المصلح أن يرميه الناس عن قوس واحدة، إذا كان مستقيمًا على الصراط، فالجماعة هي الحق، ولو كنت أنت وحدك.
يقول أحد قضاة السوء للإمام أحمد في قضية خلق القرآن، قال له: يا أحمد: أيكون أمير المؤمنين وكل هؤلاء العلماء والقضاة والنخبة من الناس على باطل وتكون أنت على الحق؟! ثم يأتي الزمان الذي تكون فيه بغداد حاضرة السنة، بعد أن كانت حاضنة البدعة بصبر وثبات الإمام -رحمه الله- من ذلك الرجل؟!
من تلظي دموعه كاد يعمى | كاد من شهرة اسمه لا يسمى |
جاء من نفسه إليها وحيدًا | رامـيًا أصـله غبـارًا ورسمًا |
حامـلاً عمره بكفيه رمحًا | ناقشًا نهجـه على القلب وسمًا |
خالعًا ذاتـه لريـح الفيافي | مُلحقًا بالردى وبالعجز وصمًا |
يجهر ابن تيمية بدعوته وعلمه واختياراته، واحتسابه، فيلقى من الأذى كل الأذى حتى وشى به جملة من العلماء إلى السلطان فأمر بحبسه.
يقول أحد معاصريه: اجتمع عليه عصبُ الفقهاء والقضاة بمصر والشام، وحشدوا عليه كل شيء فقطع الجميع، وألزمهم الحجج الواضحات أيّ إلزام، فلما أفلسوا أخذوه بالجاه والحكام، ثم ألّبوا عليه العامة فضربوه في الطريق أكثر من مرة، وسجن لأجلهم أكثر من مرة، ثم لا يزيده ذلك إلا صلابة وقوة، ثم بعد حين من الزمان عرض السلطان عليه القصاص من مخالفيه، لكنه رأى أن سبيل الإصلاح أكبرُ من هذه الصبيانيات فعفا عنهم جميعًا.
حُشْدٌ على الحـقّ عَيّافو الْخَنَا | أُنُفٌ إذا أَلَمَّتْ بهمْ مكروهةٌ صبروا |
وإنْ تَدَجَّتْ على الآفاقِ مُظلمةٌ | كـان لهمْ مَخرَجٌ منها ومُعْتَصَرُ |
أعطاهُمُ اللهُ حقًّا يُنْصـَرونَ بهِ | حـق على الله أن يصحبهم الظفر |
شُمْسُ المـودة لا يُسْتَقـادَ لهمْ | وأَعْظـمُ الناسِ أحلامًا إذا قَدَروا |
المصلحون مصلحون في كل مكان، لا يتحرجون من أي بيئة، فهم كالغيث أينما حل نفع.
ليس عجبًا أن تسمع عن بعض من حمل الإصلاح بروحه أن يدعو إليه كل أحد، ولن تعجب من بعضهم حين يحبس، أن يهتدي على يده كل من كان في الحبس، حتى إن بعضهم حين حبس ثم اهتدى عليه الجميع أخرجوه وحده، فجعل يكلم جدران الحبس كأنها بشر من البشر، كأنه ينادي السجان:
ارم بي ما أردت مني فإني | أسد القلب آدمي الرواء |
ثم يضيق صدرك من شباب صالحين ينتسبون للإصلاح، همُّ أحدهم إذا خرج من بلدته معلمًا أو قاضيًا أو داعيًا، أن يؤوب إلى مدينته بأسرع وقت، وإذا لمته على ذلك لامك على لومك، ثم ترفع رأسك عاليًا وأنت تسمع عن فئام من المصلحين، أبوا أن يعودوا إلى بلدانهم لأنهم رأوا بأعينهم مدى نفعِ ما قدموه وما أسهموا فيه في غيرها، ترفع رأسك عاليًا بشباب أسهموا بإصلاح حقيقي في مكان أعمالهم، بل رضوا فيها مستقرًا ومقامًا، والله لن يُضيع الله إيمانهم، إن الله لا يضيع أجر المصلحين.
وطني هنا أو قل هنالك حيث يبعثها المنادي
فالقفر أحلى من رياض في رباها القلب صادي
ترفع رأسك عاليًا، بشباب ورجال أسهموا في الإصلاح في كل مكان، حتى وهم ذاهبون للنزهة، أو مسافرون لبلد أعجمي، أو مكان تكثر فيه الشرور.
أيتها الأجيال: ادفعوا عنا العذاب بالإصلاح، ادفعوه بالصبر عليه والثبات فيه، فما كان ربنا مهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون، يقول أحد العلماء عن قول الله: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)، إن من الفساد تركُ الإصلاح والمداومةِ عليه، حتى ولو كانت البلاد صالحة، فكيف إذا كانت بلادًا فسد حجرها وشجرها وبشرها!!
اللهم أصلح فساد قلوبنا، اللهم أصلحنا، وأصلح بنا، واجعلنا مصلحين صالحين على صراطك المستقيم، اللهم هب لنا من لدنك عزمًا نصبر فيه على الدعوة إليك، والصبرَ في سبيلك، والإصلاح على منهاج رسولك.