الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
فكل من جاء بأصل الإيمان صحيحًا، وتقرب إلى الله بما افترضه الله عليه، وانتهى عما نهاه عنه، وقد يتساهل ببعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات، ويتوسع في المباحات. لكنه يبادر إلى التوبة عند المعاصي والخطيئات، فهو مقتصد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أوجب الفوز بالنجاة لمن شهد له بالوحدانية شهادة لم يبغ لها عوجًا، وفاوت بين عباده في منازل العبودية من الإنابة والمحبة والخوف والرجاء. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ شهادة من أصبح قلبه بالإيمان بالله وأسمائه وصفاته مبتهجًا. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله هدى به من الضلالة، وعلم به من الجهالة.
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار، والتابعين لهم بإحسان.
أما بعد:
عباد الله: إذا أراد المسلم أن يُقَيِّمَ نفسه ويزنها، ويعرف خسرانها من ربحها، ويطمئن عليها في سيرها إلى ربها، فليعرضها على القرآن الكريم، قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يسأل أحدٌ عن نفسه غير القرآن".
وهذه -يا عباد الله- آية منه، وهي قوله تعالى: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) [فاطر: 32]، وهي تفيدنا أن الله -سبحانه- جعل القائمين بهذا القرآن علمًا وعملاً ثلاثة أنواع: ظالم لنفسه، وهو المفرط في بعض الواجبات، أو المرتكب لبعض المحرمات.
والمقتصد وهو المؤدي للواجبات، التارك للمحرمات، وقد يترك بعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات. والسابق بالخيرات وهو الفاعل للواجبات والمستحبات، التارك للمحرمات، والمكروهات، وبعض المباحات. وكل من هؤلاء الثلاثة مسافر إلى ربه، ومدة سفره هو عمره الذي كتب له، ثم جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة حتى ينتهي السفر.
أيها الإخوة: إن أولياء الله قسمان: مقتصدون، وسابقون بالخيرات، والذي يدخل الجنة في بعض الروايات التي رجحها شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم أنه يدخل الظالم في الجنة بعد أن يصفى، لقوله -سُبحَانَهُ وَتَعَالَى-: (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ) [فاطر:32] والجمهور يقولون: يدخل الجنة المقتصد والسابق، والمقتصد هو الذي لا له ولا عليه، يأتي بالفرائض ويجتنب الكبائر، ولكن لا يتجنب المكروهات ولا يأتي بالنوافل، فهذا مقتصد لا يحب الفائدة وليس عليه دين.
عباد الله: من صفات المقتصد أنه يأتي بالفرائض وربما ترك المستحبات، ويترك الكبائر وربما وقع في الصغائر، ومما يدل على ذلك أنه جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُول الله -صلى الله عليه وسلم-، يَسْألُهُ عَنِ الإِسْلامِ، فَقال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- : "خَمْسُ صَلَوَاتٍ فِي الْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ". فَقال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: "لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ". فَقال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- :"وَصِيَامُ رَمَضَانَ". قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهُ؟ قال: "لا؛ إِلا أنْ تَطَّوَّعَ". قال: وَذَكَرَ لَهُ رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم- الزَّكَاةَ، قال: هَلْ عَلَيَّ غَيْرُهَا؟ قال: "لا، إِلا أنْ تَطَّوَّعَ". فَأدْبَرَ الرَّجُلُ وَهُوَ يَقُولُ: وَالله أزِيدُ عَلَى هَذَا وَلا أنْقُصُ، فقال رَسُولُ الله -صلى الله عليه وسلم-: "أفْلَحَ إِنْ صَدَقَ" [متفق عليه: أخرجه البخاري برقم (2678) واللفظ له، ومسلم برقم (11)]. قال محمد بن يزيد: المقتصد هو الذي يعطي الدنيا حقها، والآخرة حقها.
وهذا المؤمن المقتصد في الدنيا يأخذ من حلالها وهو قليل بالنسبة إلى حرامها قدر حاجته، ويجتزي من متاعها بأدونه وأخشنه، ثم لا يعود إلى الأخذ منها إلا إذا نفد ما عنده وخرجت فضلاته، فلا يوجب هذا الأخذ ضررًا ولا مرضًا ولا هلاكًا، بل يكون ذلك بلاغًا له يتبلغ به مدة حياته، ويعينه على التزود لآخرته، وفي هذا إشارة إلى مدح من أخذ من حلال الدنيا بقدر حاجته، وقنع بذلك كما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ وَرُزِقَ كَفَافًا وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ" [رواه مسلم 1054].
أيها الإخوة: المقتصد هو من اقتصر من الزاد على ما يبلغه، ولم يشد مع ذلك أحمال التجارة الرابحة، ولم يتزود ما يضره؛ فهو سالم غانم، لكن فاتته المتاجر الرابحة، وأنواع المكاسب الفاخرة. فهذا قد أدى وظيفة حياته ولم يزد عليها، ولا نقص منها، فلا حصل على أرباح التجار، ولا بخس الحق الذي عليه.
فإذا استقبل مرحلة يومه استقبلها بالوضوء، وإقامة الصلاة في وقتها بأركانها وواجباتها وشروطها، ثم ينصرف منها إلى مباحاته ومعيشته وتصرفاته التي أذن الله فيها مشتغلاً بها، مؤدياً واجب الرب فيها، غير متفرغ لنوافل العبادات والأوراد والأذكار والتوجه.
فإذا حضرت الفريضة الأخرى بادر إليها كذلك، فإذا أكملها انصرف إلى حاله، فهو كذلك سائر يومه، فإذا جاء الليل فكذلك إلى حين النوم، فيأخذ مضجعه إلى أن ينشق الفجر، فيصلي ويقوم إلى غذائه ووظيفته. فإذا جاء الصوم الواجب قام بحقه، وإن كان له مال تجب فيه الزكاة أدى حق الله فيه من الزكاة الواجبة. وكذلك الحج الواجب يؤديه كما أمر الله ورسوله. وكذلك المعاملة مع الخلق يقوم فيها بالقسط، ولا يظلمهم ولا يترك حقهم.
فالأبرار المقتصدون قطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله، وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه؛ فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة، واجتناب الأعمال القبيحة.
عباد الله: وإذا كان هذا حال المقتصدين مع ربهم، فإنهم كذلك قائمون بحقوق العباد؛ من عيادة المرضى, وتشييع الجنائز, وإجابة الدعوة, والمعاونة لهم بالجاه والبدن والمال والنفس, وزيارتهم وتفقدهم. والمقتصد كذلك قائم بحقوق أهله وعياله، فهو متنقل في منازل العبودية كيف نَقَلَه فيها الأمر، فإذا وقع منه تفريط في حق من حقوق الله بادر إلى الاعتذار والتوبة والاستغفار، وكده ومداواته بعمل صالح يزيل أثره، فهذه وظيفته دائماً.
وهؤلاء هم أصحاب اليمين الذين يستمتعون في الجنة بما لذ وطاب من النعيم المقيم كما قال سبحانه: (وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ * فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ * وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ * وَظِلٍّ مَمْدُودٍ * وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ * وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ * وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ * إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا * عُرُبًا أَتْرَابًا * لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ) [الواقعة: 27 - 40].
أيها الإخوة: ومن أنفع ما للعبد المقتصد أنه ينظر في حق الله على العباد، فإن ذلك يورثه مقت نفسه، ويخلّصه من العجب ورؤية العمل، ويفتح له باب الخضوع والذل والانكسار بين يدي ربه، واليأس من نفسه، وأن النجاة لا تحصل له إلا بعفو الله ورحمته.
وإذا تأمل العاقل حال أكثر الناس وجدهم بضد ذلك، ينظرون في حقهم على الله، ولا ينظرون في حق الله عليهم. ومن هنا انقطعوا عن معرفة الله، وحُجبوا عن معرفته، ومحبته، والأنس بمناجاته، ولذة عبادته، وهذا غاية جهل الإنسان بربه وبنفسه. فمحاسبة النفس هي نظر العبد في حق الله عليه أولاً، ثم نظره هل قام به كما ينبغي ثانياً.
وإن أفضل الفكر: الفكر في ذلك، فإنه يُسيِّر القلب إلى الله، ويطرحه بين يديه خاضعاً ذليلاً منكسراً، ويحرك قلبه وجوارحه لطاعة مولاه، والمنافسة في الخيرات.
نسأل الله أن يهدينا صراطه المستقيم ويجعلنا من عباده المخلصين، بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي أفاض على خلقه النعمة، وكتب على نفسه الرحمة، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، من يرد هدايته يشرح صدره للإسلام. وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أرسله كما أرسل الرسل من قبله يدعون إلى دار السلام، ويحذرون من المعاصي والآثام. اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وأصحابه.
أيها الإخوة: فكل من جاء بأصل الإيمان صحيحًا، وتقرب إلى الله بما افترضه الله عليه، وانتهى عما نهاه عنه، وقد يتساهل ببعض المستحبات، ويفعل بعض المكروهات، ويتوسع في المباحات. لكنه يبادر إلى التوبة عند المعاصي والخطيئات، فهو مقتصد. وهي أدنى منازل التقوى المعتبرة في حصول ولاية الله، وذلك أن حقيقة التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين غضب الله وقاية، هي فعل الطاعات واجتناب المحرمات.
أيها الإخوة: إن على المسلم أن يعمر عمره بالأعمال الصالحة، وفي الباقيات الصالحات فليتنافس المتنافسون، وليتسابق المفلحون، وليتبارى العاملون، وليجتهد المقصِّرون، وليجدّ الجادّون، وليشمِّر المشمِّرون، حيث يضاعف ربنا الكريم حسنات الطائعين، ويرفع درجات التائبين، وينزل عليهم الرحمات، فيجيب دعائهم، ويغفر زلاتهم.
فالبدار البدار -أخي الحبيب- فماذا تنتظر؟ إلا فقراً منسياً، أو غنىً مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مُفَنِّداً، أو موتاً مجهزاً، أو الدجال فشر غائب يُنتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمر.
أيها الأحبة: من زرع حصد، ومن جد وجد، ومن اجتهد نجح، "ومن خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة" [رواه الترمذي 2450 وصححه الألباني].
وهل تدري -أخي- أن صاحب الصور إسرافيل قد التقمه ووضعه على فيه منذ أن خُلق؛ ينتظر متى يؤمر أن ينفخ فيه فينفخ، فإذا نفخ صعق من في السموات والأرض إلا من شاء الله، ثم ينفخ النفخة الثانية بعد أربعين سنة؟.
عباد الله: إن أعظم المطالب في الإسلام أن يكون العبد حبيباً لله، وأن يكون قريباً منه، وأن يكون من أحبابه وأوليائه. ولذلك جعل الرسول -صلى الله عليه وسلم- الولاية قسمين: المقتصد والسابق بالخيرات، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- وأرضاه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقول الله -تبارك وتعالى-: من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إليَّ عبدي بأحب إليَّ مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" [صحيح البخاري 6502].
فأوامر الله تعالى فرائض ونوافل؛ فالفرض رأس المال، وهو أصل التجارة، وبه تحصل النجاة، والنفل هو الربح، وبه الفوز بالدرجات. ومن لوازم محبة الله: معرفته تعالى، والإكثار من ذكره، فإن المحبة بدون معرفة بالله ناقصة جدًّا، بل غير موجودة، وإن وُجِدت دعواها. ومن أحب الله أكثر من ذكره. وإذا أحب الله عبدًا، قَبِل منه اليسير من العمل، وغفر له الكثير من الزلل.
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل. ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
اللهم اغفر لوالدينا ووالد والدينا ولكل من له حق علينا يا ذا الجلال والإكرام .. اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك الموحدين.