الرزاق
كلمة (الرزاق) في اللغة صيغة مبالغة من الرزق على وزن (فعّال)، تدل...
العربية
المؤلف | عبدالله بن محمد العسكر |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
إن الاستغفار -عباد الله-: عبادة من أجل العبادات، وبوابة من أعظم بوابات الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع سهولة هذه العبادة، ويسرها إلا أن المستغفرين قليل! وليس في ذلك زيادة عبءٍ، ولا دفع مال، ولا جهد يبذله الإنسان، إنما هي كلمات يتمتم بها مع قلب خاشع منيب لله -عز وجل-، ورحمة الله قريبة من عباده المخبتين المستغفرين الذين لا تفتر ألسنتهم بطلب المغفرة من ربهم.
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله الأمين، بعثه الله بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، أخرجنا الله به من الضلالة، وأنقذنا به من الغواية.
اللهم صلّ عليه وعلى آله وأصحابه، وزوجاته وذريته، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلِّم اللهم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فأوصيكم ونفسي -عباد الله-: بتقوى الله، فاتقوا ربكم في سركم وعلانيتكم، وسَرَّائكم وضرَّائكم تفلحوا في الدنيا، وتفوزوا في الآخرة.
عباد الله: إن ربنا -عز وجل-: كامل الصفات، عظيم الذات، لا يشبهه أحد من خلقه، تقدس في عليائه، وتعالى في كبريائه، أحد صمد، له الأسماء الحسنى والصفات العلا: (وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ) [الأنعام: 3].
(لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشورى: 11].
ومن أجل صفات ربنا -جل وعلا- وأعظمها: صفة المغفرة، فهو غفور رحيم، وقد وصف نفسه بالغفار، والغفار هو كثير المغفرة، ووصف نفسه بأنه غافر الذنب، قال جل وعلا: (رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّار) [ص: 66].
وقال سبحانه: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه: 82]،.
وقال جل وعلا: (غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ)[غافر: 3].
وهو جل وعلا يحب المغفرة، والعفو عنده أحب من العقوبة، ورحمته سبقت غضبه؛ ولهذا طلب الله من أنبيائه وصفوة رسله أن يستغفروا، وطلب منهم أن يستغفروا لعباده المؤمنين، كما كان ذلك مع رسولنا وحبيبنا محمد -صلى الله عليه وسلم- حيث أمره الله -جل وعلا- بقوله: (وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) [محمد: 19].
كما إن الله -جل وعلا-: قد بين وأشاد بصفات من صفات أهل الإيمان: أنهم في دعائهم يطلبون المغفرة من الله -جل وعلا-، يقول عز وجل: (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ) [الحشر: 10].
ونحن جميعاً -عباد الله-: حين ندعو أنفسنا وغيرنا إلى كثرة الاستغفار؛ لأجل أننا مذنبون، ومن منا -عباد الله- يزعمُ انه لم يذنب؟! -نسأل الله أن يمُنَّ علينا بستره ومغفرته-.
الجميع خطَّاء: "كل بني آدم خطَّاء، وخير الخطَّائين التوابون"[أخرجه ابن ماجة برقم (4251)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (4515)].
وأعظم باب للتوبة هو: الاستغفار، وطلب المغفرة من الله -جل وعلا-.
فأما أن يكون أحد خارجاً عن هذه المنظومة يظن أنه لم يذنب، أو لن يذنب؛ فهو إنما يغالط نفسه، ويخالف الفطرة التي فُطر عليها.
يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- لأصحابه ولأمته: "والذي نفسي بيده، لو لم تذنبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقوم يذنبون، فيستغفرون الله؛ فيغفر لهم" [أخرجه مسلم برقم (2749)].
وهذا ليس معناه: أن الله يحب الذنب كلا؛ لكنه يحب المغفرة، ويحب من عبده أن يلتجئ إليه، وأن يسأله عفواً ومغفرةً ورحمة.
إن الاستغفار -عباد الله-: عبادة من أجل العبادات، وبوابة من أعظم بوابات الخير والسعادة في الدنيا والآخرة، ومع سهولة هذه العبادة، ويسرها إلا أن المستغفرين قليل! وليس في ذلك زيادة عبءٍ، ولا دفع مال، ولا جهد يبذله الإنسان، إنما هي كلمات يتمتم بها مع قلب خاشع منيب لله -عز وجل-، ورحمة الله قريبة من عباده المخبتين المستغفرين الذين لا تفتر ألسنتهم بطلب المغفرة من ربهم.
والاستغفار -عباد الله-: له ثمرات كثيرة يجدُر بنا أن نقف مع بعضها في هذه العجالة:
فمن ثمراته: أن الله يحب المستغفرين، وإذ أحبك الله نمْ قرير العين! من ذا الذي يبأس ويشقى إذا كان الله يحبه؟! قال الله في الحديث القدسي: "إذا أحبَبْتُه كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعـطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه" [أخرجه البخاري برقم (6502)].
كل هذا لأحباب الله وأوليائه، وأعظم ما تُنال به ولاية الله ومحبته كثرة الاستغفار، وطلب الرحمة من العزيز الغفار.
إن الله -جل وعلا-: يحب أن يسمع منك تضرعك وإخباتك وإنابتك، يحب أن يسمع أنينك وبكاءك.
إن أولئك المعرضين البعيدين عن ربهم الذين تأنف نفوسهم من تِردَاد هذه الكلمات التي فيها طلب المغفرة؛ هم أبعد الناس عن الله -عز وجل-: ولو عملوا من الأعمال ما عملوا.
تَذْكُرْ لنا عائشة -رضي الله عنها-: أنها سألت النبي -صلى الله عليه وسلم- مرة عن ابن جدْعان -وابنُ جدعان هذا كان رجلاً معروفاً في الجاهلية بكرمه وشهامته ومروءته، وخصاله الحميدة، لكنه مات قبل الإسلام-، فتسألُ عائشة رسولنا -صلى الله عليه وسلم- عن عبد الله بن جدعان هذا، فتقول: "يا رسول الله، إن ابن جدْعَان كان يصل الرحم، ويطعم المسكين، فهل ذلك نافعه -أي عند الله-؟ فقال صلى الله عليه وسلم: "لا ينفعه؛ إنه لم يقل يوماً: رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين"[أخرجه مسلم برقم (214)].
العبادة الكبرى -عباد الله-: هي إخبات القلب لله، والانكسار بين يديه، وإظهار الفقر لديه.
وقد جاء في بعض الآثار: أن الله -عز وجل- يقول لجبريل إذا كان هناك عبد من عباده يدعوه، يقول لجبريل: "يا جبريل، اقض لعبدي هذا حاجته وأخِّرها؛ فإني أحب أن أسمع صوته"[أورده الهيثمي في مجمع الزوائد (17224)].
الله أكبر! إنه تبارك وتعالى يحب أن يرى دموعك، أن يسمع أنينك وتضرعك! ولهذا فقد يؤخر الإجابة؛ لأنه جل وعلا يريد أن يزيد من عطائك، وأن يزيدك من خيرك.
ومن ثمار الاستغفار: أن فيه راحة للقلب، وتسهيلاً للصعب، وتفريجاً للكرب، وما منا من أحد -عباد الله-: إلا وهو ينشد راحة البال، ويريد انشراح الصدر، وطمأنينة القلب، يقول الله -جل وعلا-: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد: 28].
وأعظم ما تطمئن به القلوب، وتهدأ: ذكرُ الله -عز وجل-، وما الاستغفار إلا واحد من أنواع الذكر لله -جل وعلا-، قال سبحانه: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا) [هود: 3].
وجاء عند أبي داود بسند فيه لين من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: قال صلى الله عليه وسلم: "من لَزِم الاستغفار".
وانظر إلى الشرط! لم يقل: من استغفر- قال: "من لزم" معنى ذلك أنه كثير الاستغفار، لسانه يلهج بقول: ربي اغفر لي وارحمني، اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً؛ فاغفر لي؛ فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت: "من لَزِم الاستغفار جعل اللهُ له من كلّ همّ فرجاً، ومن كلّ ضيقٍ مخرجاً، ورزقه من حيث لا يحتسب" [أخرجه أبو داود برقم (1518)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (2/142)].
إذاً فأبواب الخير للمستغفرين كثيرة، ولن أقول إن هناك أناساً قد جربوا، فحصل لهم ذلك؛ لأن هذه حقائق لا جدال فيها، ولا ينبغي أن نجعل عباداتنا محطاً لتجاربنا -كما يقول البعض: لن يضرك الأمر؛ جرب، افعل، لعل- لا! المؤمن يفعل وهو واثق؛ وعنده يقين كامل بأن الله -عز وجل- سيستجيب له.
انظر إلى أحد أولياء الله كيف كان الاستغفار يصنع بقلبه، وهو شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله رحمة واسعة- يقول عن نفسه: "إنه ليقف خاطري في المسألة، أو الشيء، أو الحالة التي تشكل عليّ".
يعني ليس فقط في أمور الدنيا، وليس في الأحزان والمصائب، لا، بل حتى في الأمور الصغيرة! مسألة فقهيه قد تشكل عليه، تفسير آية ربما لا يدرك معناه، هذه عند ابن تيمية يعتبرها معضلة ومشكلة؛ فماذا يصنع؟
يقول رحمه الله: "إنه ليقف خاطري في المسألة، أو الشيء، أو الحالة التي تُشكِل عليّ؛ فاستغفر الله -تعالى- ألف مرة، أو أكثر، أو أقل؛ حتى ينشرح الصدر، وينحل إشكال ما أشكل، وأكون إذ ذاك في السوق أو المسجد، أو الدرب أو المدرسة لا يمنعني ذلك من الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي!"[انظر: منهج ابن تيمية التجديدي لسعيد عبد العظيم ص (21-22)].
عباد الله: من يملك تفريج الكروب إلا الله؟ أليس الله هو الذي قدَّر البلاء؟ أليس الله هو الذي أنزل عليك المصاب؟ فمن الذي يقدر على رفع هذا البلاء إلا الذي أنزله؟!
فإذا رأى الله منك الإقبال، وأن لسانك لا يفتر عن ذكره؛ فإن سيستجيب لك، وسيرفع عنك بلاءك، فدفعُ المصائب ابتداءً ونزولها، ثم رفعها بعد ذلك كل هذا يكون بالاستغفار، قال الله -عز وجل- مبيناً أن الاستغفار يدفع به البلاء قبل نزوله: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33].
يقول أبو موسى الأشعري -رضي الله عنه-: "إنه كان فيكم أمانان" يعني من العذاب أحدهما ذهب، وهو رسولنا -صلى الله عليه وسلم- نسأل الله أن يجمعنا به في الفردوس الأعلى- كان وجوده عليه الصلاة والسلام في الأمة سداً منيعاً لوقوع العذاب: "(وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ)"[الأنفال: 33].
كرامة لهذا النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلن يعذب الله الأمة وفيهم رسول الله، ذهب عليه الصلاة والسلام، قال أبو موسى: "إنه كان فيكم أمانان: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) [الأنفال: 33] فأما النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد مضى، وأما الاستغفار فهو دائر فيكم إلى يوم القيامة" [أخرجه ابن جرير في التفسير (11/152)].
ومن ثمار الاستغفار أيضا: نزول الغيث، والرزق بالذرية، والولد الصالح، والمال الحلال، والخير الواسع، كل هذا بسبب الاستغفار، قال الله -جل وعلا-: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا) [نوح: 10-12].
بماذا كل هذا؟
بالاستغفار! ولهذا لما جاء رجل إلى الحسن البصري -رحمه الله-، وكان يشكو الفقر، قال له الحسن: "استغفر الله".
ثم جاء آخر يشكو جدب أرضه -القحط الذي أصابه- فأوصاه الحسن بالاستغفار، ثم جاء ثالث يشكو أنه عقيم لا يرزق بولد، فدله الحسن على الاستغفار، فعجب من حوله، وقالوا: ألا تجيد غيرها؟ الاستغفار في كلها، قال: "أما سمعتم الله في كتابه يقول: (اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا) [نوح: 10-11]" [انظر: تفسير الثعلبي (10/44)].
هذا نزول الغيث: (وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ) هذا نفي الفقر، (وَبَنِين) [نوح: 12].
وهي الذرية، فكل هذا بسبب الاستغفار؛ فهو بوابة عظيمة من أبواب الخير.
وكثرة الاستغفار -عباد الله-: تجعل توجد هناك ارتباطاً قوياً بالله -عز وجل-، ومتى ما لُذتَ بالقوي العزيز الجبار؛ فلا تخف من أحد.
من يتق الله يحمد في عواقبه | ويكفه شر من عزوا ومن هانوا |
فالزم يديك بحبل الله معتصماً | فإنه الركن إن خانتك أركانُ |
لو اجتمع أهل الأرض جميعاً على أن يضروك، وربنا -جل وعلا- لم يرد ذلك، والله -لن يضروك ولا بكلمة واحدة؛ لأن معك القوي الذي كل السماوات والأرض في قبضته: (وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67] عز وجل.
فإذا لزمت الاستغفار؛ فإن الله -عز وجل-: يحفظك من كيد الكائدين، ومكر الماكرين، فاجعل قلبك مرتبطاً بربك -عز وجل-.
يقول صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَت في قَلْبه نُكْتة" أي نقطة "فإذا هو نزع واستغفر صُقِل قلبه" أي: نُظِّف "فإن عاد زِيْد فيها حتى تعلو قلبه، وهو الرَّان الذي ذكره الله -تعالى-: (كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) [المطففين: 14]" [أخرجه الترمذي برقم (3334)، وحسنه الألباني في صحيح الجامع برقم (1670)].
ولهذا إزالة الصدأ والسواد والغشاوة من القلب لا تكون إلا بالمنظف، وهو الاستغفار، يقول ابن تيمية -رحمه الله- وقد سُئل: أيهما أنفع للعبد الاستغفار أم التسبيح؟ فقال رحمه الله: "إذا كان الثوب نقياً؛ فالبخور وماء الورد أنفع، وإذا كان وسِخاً؛ فالصابون والماء أنفع، فالتسبيح بخور الأصفياء، والاستغفار صابون العصاة".
فمن يرى من نفسه كثرة ذنوب ومعاصي؛ فليكثر الاستغفار؛ فهو أولى في حقه من التسبيح، ومن كان يظن أن ذنوبه أقل من صالحات أعماله؛ فعليه بكثرة التسبيح والتحميد.
ومن ثمار الاستغفار أيضاً: تكفير السيئات، وزيادة الحسنات، ورفعة الدرجات في الجنة.
عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- قال: "كان الرجل يحدثني عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فأستحلفه" يعني حتى أتوثق من كلامه "وإنه حدثني أبو بكر -رضي الله عنه- وصدق أبو بكر- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "اسمعوا -يا عباد الله-: انظروا إلى كرم ربكم وجوده، وانظروا إلى قرب مغفرته ورحمته، يقول عليه الصلاة والسلام: ""ما من رجل يذنب ذنباً" أياً كان الذنب صغيراً أو كبيراً "ثم يقوم فيتطهَّر فيحسن الوضوء، ثم يقوم يصلّى ركعتين" فقط ركعتين "ثم يستغفر الله -عز وجل- إلا غفر الله له".
ثم تلا قوله عز وجل: "(وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [آل عمران: 135]"[أخرجه الترمذي، وحسنه الألباني في تحقيق مشكاة المصابيح
وجاء في حديث أبي سعيد -عند الحاكم والطبراني بسند حسنه الألباني يقول صلى الله عليه وسلم-: "إن إبليس قال لربه: بعزتك وجلالك، لا أبرح أُغوي بني آدم ما دامت الأرواح فيهم، فقال له الله -عز وجل-: وعزتي وجلالي، لا أبرح أغفر لهم ما استغفروني"[أخرجه أحمد برقم بلفظه، والطبراني في الأوسط، وقال الألباني في الصحيحة: إسناد رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين لكنه منقطع].
فالأمر يسير -يا عباد الله-: مهما كاد لك الشيطان، وأوقعك في الذنب والمعصية، فأفزع لربك، واستغفر الله تجد الله غفوراً رحيماً.
وقد جاء في صحيح مسلم: يقول صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه -عز وجل-: "أذنب عبد ذنباً، فقال: اللهم اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب، ثم عاد فأذنب، فقال: أي رب اغفر لي ذنبي، فقال تبارك وتعالى: أذنب عبدي ذنباً، فعلم أن له رباً يغفر الذنب، ويأخذ بالذنب؛ اعمل ما شئت فقد غفرت لك" [أخرجه البخاري برقم (7507)، ومسلم برقم (2758)، واللفظ له].
غفرت لك! عفوت عنك! تخيل أنك أنت المقصود بهذا الفضل وهذا الخير، وما ذلك على الله بعزيز.
فالأمر -يا عباد الله-: لا يحتاج إلا إلى جهد يسير، وصدق وإنابة إلى الله -عز وجل-؛ فربك يريد منك أن ترجوه، أن تؤمل فيه، أن لا تقنط من رحمته، مهما عملت من ذنوب وخطايا، فربك رحمته واسعة تسع كل الذنوب، ولو بلغت عنان السماء.
وقد رُويَ عن ابن عمر مرفوعاً: "يأتي الله -تعالى- بالمؤمن يوم القيامة، فيقربه حتى يجعله في حجابه من جميع الخلق، فيقول له: اقرأ صحيفتك، فيعرفه ذنباً ذنباً: أتعرف أتعرف؟ فيقول: نعم نعم".
إلا أنَّ هذا العبد: "يلتفت يمنة ويسرة" يجيب ثم يلتفت ثم يعود! لماذا يلتفت؟! لأنه لا يريد أن يسمعه الناس، فهو يخشى من الفضيحة، يخشى أن يسمع الناس ما يدور بينه وبين ربه، وذلك حين يذكِّره بغدراته وفجراته وأعماله.
"فيقول: نعم نعم، ثم يلتفت العبد يمنة ويسرة، فيقول الله -تعالى-: لا بأس عليك، يا عبدي أنت في ستري من جميع خلقي، ليس بيني وبينك اليوم أحد يطلع على ذنوبك غيري، اذهب فقد غفرتها لك بحرف واحد من جميع ما أتيتني به" شيء واحد غُفرت بسببه كلُّ ذنوبه؟! "قال: ما هو يا رب؟ قال: كنت لا ترجو العفو من أحد غيري" [أورده ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/405)].
الله أكبر! فقط كنت ملتجئاً إليَّ، ترجوني ولا ترجو غيري، فنحن واللهِ نرجو ربنا، ونؤمل فيه أن يغفر ذنوبنا وخطايانا.
فاللهم اغفر لنا ذنوبنا أجمعين، ومُنَّ علينا بسترك ورحمتك ومغفرتك، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة،
أقول قولي هذا، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، وعلى آله وأصحابه ومن سار على نهجه، واقتفى سنته إلى يوم الدين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: كما أسلفنا في الخطبة الأولى ربنا رحمته قريبة، وعفوه أقرب مما يتخيله العبد، فمتى ما كان العبد صادقاً في لجوئه إلى الله -عز وجل-؛ فسيجد من ربه الخير كله، خير الدنيا وخير الآخرة.
عن مورّق العِجْلي -رحمه الله- قال: "كان رجلٌ يعمل السيئات، فخرج إلى البريِّة، فجمع تراباً فاضطجع مستلقياً عليه، وقال: رب اغفر لي ذنوبي، فقال الله في ملكوته: إن هذا ليعرف أن له رباً يغفر ويعذب؛ قد غفرت له!".
يا كثير العفو عمن | كثر الذنب لديهِ |
جاءك المذنب يرجو | الصفح عن جرم يديهِ |
أنا ضيف وجزاء الضــــيف | إحسان إليهِ |
ومِن أكرم من ربنا -عز وجل-! وهو رجاؤنا وأملنا، وعسى أن لا يخيبنا، يقول حذيفة -رضي الله عنه-: "كنت رجلاً ذرِب اللسان على أهلي فقلت: يا رسول الله، قد خشيت أن يدخلني لساني النار، فقال صلى الله عليه وسلم: "فأين أنت من الاستغفار؟ إني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة"[أخرجه أحمد برقم (23371) قال الأرناؤوط وغيره في تحقيق المسند: صحيح لغيره دون قصة ذرابة اللسان (38/390)].
عباد الله: ثبت عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "كنا نعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مائة مرة: "رب اغفر لي، وتب علي؛ إنك أنت التواب الرحيم"" [أخرجه أبو داود برقم (1516) وصححه الألباني (انظر صحيح أبي داود بنفس الرقم)].
رسول رب العالمين، وأعظم من مشى على الأرض، وأول من يدخل الجنة يستغفر الله في اليوم مائة مرة! فماذا عني وعنك؟!
أسأل الله أن يعافينا، وأن يمُنَّ علينا برحمته ومغفرته.
وأبواب المغفرة -أيها المسلمون-: كثيرة، ومن وأعظمها: التوحيد لله رب العالمين، يقول الله -عز وجل- في الحديث القدسي: "يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرتُ لك ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء، ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو أتيتني بقُرَاب الأرض خطايا، ثم لقيتني لا تشرك بي شيئًا لأتيتك بقرابها مغفرة" [أخرجه الترمذي برقم (3540) وحسنه الألباني في الصحيحة برقم (127)].
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: "إن إبليس قال: أهلكت بني آدم بالذنوب، وأهلكوني بالاستغفار، وبلا إله إلا الله".
ومن أسباب تحصيل المغفرة: العفو والصفح عن الناس، يقول الله -عز وجل-: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النور: 22].
ومن أبواب المغفرة -أيضاً-: غسل الميت، وقد أخرج الحاكم والبيهقي بسند حسنه ابن حجر والألباني من حديث أبي رافع قال صلى الله عليه وسلم: "من غسل مسلماً فكتم عليه".
يعني ربما وجد شيئاً أثناء التغسيل مما يستقذر؛ فكتم وأخفى ولم يخبر.
واسمعوا يا مغسلي الأموات، انظروا الى فضل الله -عز وجل-! "من غسل مسلماً فكتم عليه غفر الله له أربعين مرة" غفر الله له أربعين مرة!.
"ومن حفر له فأجَنَّه" يعني فدفنه في الأرض "أَجري عليه" أي من الحسنات "كأجر مسكنٍ أسكنه إياه إلى يوم القيامة، ومن كفنه كساه الله يوم القيامة من سندس وإستبرق الجنة" [أخرجه الحاكم في المستدرك برقم (1307) والبيهقي في السنن الكبرى برقم (6655) واللفظ له، قال الألباني في أحكام الجنائز: وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم، ووافقه الذهبي، وهو كما قالا ص (51)].
ومن أبواب المغفرة: أعمال يوم الجمعة، قال صلى الله عليه وسلم: "لا يغتسل رجل يوم الجعة، ويتطهر ما استطاع من طهر، ويدَّهن من دهنه، أو يمس من طيب بيته، ثم يخرج فلا يفرِّق بين اثنين، ثم يصلي ما كتب له، ثم ينصت إذا تكلم الإمام إلا غُفر له ما بينه وبين الجمعة الأخرى" [أخرجه البخاري برقم (883)].
ومن أعظم ما يستغفر به العبد: أن يقول: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه، قال صلى الله عليه وسلم عن من قالها: "غُفر له وإن كان فر من الزحف" [أخرجه الترمذي برقم (3577) وصححه الألباني في صحيح الترغيب برقم (1623)].
والفرار من الزحف -أي من الجهاد- أحد السبع الموبقات التي تُوبق صاحبها في جهنم، فمن قال هذا الدعاء غفر الله له ذنبه، وإن كان قد فعل هذا الفعل الشنيع.
فعوِّد نفسك -يا عبدالله-: على الاستغفار؛ كأن تجلس بعد الصلاة مثلا -بعد أن تنتهي من أوراد الصلاة ولو خمس دقائق فقط، تلهج فيها بالاستغفار –فواللهِ- لتجدن أثر هذا الاستغفار في الدنيا قبل الآخرة، وستجد أبواب الخير كيف يفتحها الله لك، وستذوق بذلك جنة الدنيا قبل الآخرة.
أسأل الله أن يجمع لي ولكم بين جنة الدنيا ونعيم الآخرة، وأن يمتعني وإياكم متاعاً حسناً.
صلوا وسلموا على إمام المستغفرين، وسيد الأولين والآخرين؛ فقد أمركم الله -جل وعلا- بذلك في محكم التنزيل، فقال جل وعلا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
وقال نبيكم محمد -صلى الله عليه وسلم-: "من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشراً" [أخرجه مسلم برقم (384)].
اللهم صلِ على محمد وآله وصحبه تسليماً كثيراً.
اللهم وأعزَّ الإسلام وانصر المسلمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذّل الشرك والمشركين.
اللهم كن مع عبادك المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المجاهدين في أرض الشام، اللهم انصر إخواننا المرابطين في أرض الشام، اللهم أنزل عليهم نصراً من عندك، وفرجاً عاجلاً يا رب العالمين.
اللهم كن للأرامل والمساكين واليتامى، اللهم عليك بمن ظلمهم واعتدى عليهم، اللهم أذقه العذاب في الدنيا قبل الآخرة، اللهم سلط عليه جنداً من جندك يا قوي يا عزيز، يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم أغفر لنا ذنوبنا أجمعين، وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار، اللهم اجعل سرائرنا خير من علانيتنا، وأجِرْنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة.
اللهم ارزقنا ألسُناً مستغفرة، اللهم ارزقنا قلوباً مُخْبِتة منيبة إليك.
اللهم اجعل ما بقي في أعمارنا خير مما مضى.
اللهم أحسن ختامنا، وتوفنا مع الأبرار، واجمعنا بوالدينا وأزواجنا، وذرياتنا في مستقر رحمتك ودار كرامتك؛ مع الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين، والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، ذلك الفضل من الله، وكفى بالله عليماً.
(وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[العنكبوت: 45].