المؤمن
كلمة (المؤمن) في اللغة اسم فاعل من الفعل (آمَنَ) الذي بمعنى...
العربية
المؤلف | عبد الملك بن محمد القاسم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - أركان الإيمان |
وكما أنه نقص في الدين فهو نقص في العقل، فيه تزداد المصائب، ويعظم وقعها، ويغلق باب الصبر الواجب، أما المؤمن فإنه يعلم أن التصاريف واقعة بقضاء الله وقدره وحكمته؛ فلا يتعرض لعيب ما لم يعبه الله ولا رسوله، بل يرضى بتدبير الله، ويسلم لأمره، وبذلك يتم توحيده وطمأنينته
الحمد لله مقدر المقدور، ومصرف الأيام والشهور، ومجري الأعوام والدهور، أحمده -تعالى- وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، إليه تصير الأمور، وهو العفو الغفور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة تنفع صاحبها يوم يُبعثر ما في القبور، ويُحصَّل ما في الصدور.
وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي المجتبى والحبيب المصطفى، والعبد الشكور، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ما امتدت البحور، وتعاقب العشي والبكور، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم النشور، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فأوصيكم -عباد الله- ونفسي بتقوى الله: فهي أربح المكاسب، وأجزل المواهب وأسمى المناقب، وبها تنال أعلى المراتب، وتتحقق أعظم المطالب.
عباد الله: ذكر الله -عز وجل- في آيات كثيرة أنه يُصرف الأمور كيف يشاء، ويقدر الأقدار وفق حكمته، ويقضي القضاء بعدله، يقلب الله الليل والنهار، فهذا زمن رخاء وأمطار، وتكل أيام وسنوات عجاف، له الحكمة البالغة والإِرادة النافذة، لا مُعقب لحكمه وهو على كل شيء قدير.
أيها المسلمون: ذم الله -سبحانه وتعالى- مشركي العرب ومن وافقهم في إنكارهم للبعث، وزعمهم أنّه ليس هناك حياة إلا الحياة الدنيا، يموت قوم ويحيا آخرون، وأن الذي يُفنيهم مرور الليالي والأيام، قال تعالى: (وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ) [الجاثية: 24]
ولا ريب أن هذا اعتقاد باطل، ومن أنكر البعث كفر، فالله -سبحانه- هو الذي يحي ويميت ويبعث الناس ليوم لا ريب فيه، يجازي فيه المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته، فحكمته -تعالى- وعدلة تأبى أن يجعل المسلمين كالمجرمين.
قال بعض السلف: "كانت العرب في جاهليتها من شأنها ذم الدهر، وسبَّه عند النوازل، فكانوا إذا أصابهم شدة أو بلاء أو ملامة قالوا: أصابتهم قوارع الدهر، وأبادهم الدهر، وقالوا: يا خيبة الدهر، فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر، ويسبونه، وإنما فاعل ذلك هو الله، فإذا أضافوا ما نالهم من الشدائد إلى الدهر فإنما سبوا الله -عز وجل-، لأن الله هو الفاعل لذلك حقيقة، فنهى الله عن سب الدهر بهذا الاعتبار".
وفي الصحيح عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "قال الله -تعالى-: يؤذيني ابن آدم، يسُب الدهر وأنا الدهر، أقلب الليل والنهار" وفي رواية: "لا تسبوا الدهر فإن الله هو الدهر".
يروي الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن ربه -سبحانه- أن الذي يسب الزمن عند نزول المصائب والمكاره إنما يسب الله ويؤذيه؛ لأن الله -سبحانه- هو الذي يُجري هذه الأفعال لوحده، فهذه الأزمنة خَلْقٌ مسخّر، ليس لها من الأمر شيء، فمسبتها مسبةٌ لمن تصرَّف فيها وهو الله.
وهذا واقع كثيرًا في الجاهلية، وتبعهم على هذا كثير من الفساق والحمقى، إذا جرت تصاريف الدهر على خلاف مرادهم جعلوا يسبون الدهر والوقت، وربما لعنوه، وهذا ناشئ من ضعف الدين ونقص العقل، ومن الحمق والجهل العظيم، فإن الدهر ليس له من الأمر شيء فإنه مُدبَّر مُصرَّف، والتصاريف الواقعة فيه تدبير العزيز الحكيم، ففي الحقيقة أن العيب والسب على مُدبِّره.
وكما أنه نقص في الدين فهو نقص في العقل، فيه تزداد المصائب، ويعظم وقعها، ويغلق باب الصبر الواجب، أما المؤمن فإنه يعلم أن التصاريف واقعة بقضاء الله وقدره وحكمته؛ فلا يتعرض لعيب ما لم يعبه الله ولا رسوله، بل يرضى بتدبير الله، ويسلم لأمره، وبذلك يتم توحيده وطمأنينته.
ومن الأمثلة على ذلك قول بعض الجهال: "لا بارك الله في ذلك اليوم الذي وقع فيه الحادث"، أو "قاتل الله الساعة التي رأيتك فيها". أو "لعن الله العام الذي مات فيه فلان"، أو "الزمن غدار"، أو "هذه سنة خبيثة".
فهذه الأزمنة خلق مسخّر، فالسابُ لها سابٌ لمن تصرف فيها وهو الله -جل شأنه-.
وساب الدهر لا يخلو من أحد أمرين: الأول: أن يسب الدهر على أنه فاعل الحوادث، فهذا شرك أكبر.
الثاني: أن يسب الدهر؛ لأنه وقعت فيه أمور مكروهة مع اعتقاد أن الله هو الفاعل، فهذا من المحرمات المنقصة لتوحيد العبد.
عباد الله: وصف الدهر جائز لأن المتكلم بقصد الخبر دون اللوم والسب، كقول: "عام الحزن".
وقد ورد في كتاب الله وصف الدهر، كقوله تعالى: (فِي أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ) [فصلت: 16] وقوله تعالى: (فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ) [القمر: 19]، وقوله تعالى: (ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ) [يوسف: 48]
أن الواجب على العبد الحذر من سب الدهر، لأنه خلق من خلق الله، متصرف فيه، ليس له من تدبير الأمور شيء وإنما ذلك إلى الله -سبحانه- الذي بيده ملكوت كل شيء.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُوْلِي الْأَبْصَارِ) [النور: 44]
بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله العلي الأعلى، له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى، وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى، أحمد ربي وأشكره على ما أعطى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الأسماء الحسنى، وأشهد أنَّ نبينا محمدًا عبده ورسوله المصطفى، اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه البررة الأتقياء.
أما بعد:
فإن أحسن الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بالجمعة، فإن يد الله مع الجماعة، وعليكم بلزوم التقوى في سركم وعلانيتكم، فعظموا الله واتقوه، وراقبوه واحذروه، فإنه عليم بأحوالكم، ناظر إليكم، مطلع على سرائركم، ثم يجازيكم على أعمالكم، إن خيرًا فخيرًا، وإن شرًا فشرًا.
فاستعدوا لما أماكم، فإن النقلة قريبة، والمستقر دار عدن تجري من تحتها الأنهار، أو نار تلظى لا يصلاها إلا الأشقى.
عباد الله: والمؤمن يعلم ويوقن أن ما يجري في الليل والنهار من خير أو شر إنما هو بقضاء الله وقدره، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فيحمد الله في السراء والضراء.
ويعلم أن ما أصابه من شدة وبلاء؛ كموت الأحبة أو مرض أو طلاق أو فقر أو غير ذلك، وصبر عليها؛ فإنما هي تكفير للذنوب وزيادة في الحسنات ورفعة في الدرجات، بل إنه قد يُشدد عليه عند موته لبقاء سيئة أو سيئتين لأن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة. قال سبحانه: (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10]
عباد الله: إن الله -جل وعلا- أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته، وثلث بكم أيها المسلمون من جنه وإنسه؛ ليدلكم على أمر عظم شأنه، فقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]
هذا، وصلوا وسلموا.