النصير
كلمة (النصير) في اللغة (فعيل) بمعنى (فاعل) أي الناصر، ومعناه العون...
العربية
المؤلف | أبو عبد الله الأنصاري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
ولِهَذِهِ الْقَبَائِحِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا التُّجَّارُ وَالْمُتَسَبَّبُونَ وَأَرْبَابُ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الظَّلَمَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَهَتَكُوا حَرِيمَهُمْ، بَلْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارَ فَأَسَرُوهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ، وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ أَلْوَانًا، وَكَثْرَةُ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ إنَّمَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا أَنْ أَحْدَثَ التُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ قَبَائِحَ ذَلِكَ الْغِشِّ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَعَظَائِمِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ وَالْمُخَادَعَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهَا، لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَخْشَوْنَ سَطْوَةَ عِقَابِهِ وَمَقْتِهِ، مَعَ ...
الخطبة الأولى:
تحدثنا في مقام سابق عن خطورة أكل المال الحرام، وأشرنا إلى أن للمال الحرام عقوبات تصيب آكله، وذكرنا منها: أن الله لا يقبل من آكل الحرام عملا صالحا ولا صدقة؛ كما جاء عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم-: "من جمع مالا حراما، ثم تصدق به، لم يكن له فيه أجر، وكان إصره عليه"[رواه ابن خزيمة وحسنه الألباني].
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم- قال: "لاَ تُقْبَلُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ طُهُورٍ وَلاَ صَدَقَةٌ مِنْ غُلُولٍ".
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: "بل من أنفق من الحرام، فإن الله -تعالى- يذمه ويستحق بذلك العقاب في الدنيا والآخرة".
وعن ابن عبّاس -رضي اللّه عنهما- قال: "لا يقبل اللّه صلاة امرىء في جوفه حرام".
قال سفيان الثوري: "من أنفق الحرام في الطاعة كمن طهر الثوب بالبول، والثوب لا يطهره إلا الماء، والذنب لا يكفره إلا الحلال، كيف يقبل من آكل الحرام عمل أو يرفع له دعاء والله -تعالى- يقول: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة:27].
وقال وهب بن الورد: "لو قمت قيام السارية ما نفعك حتى تنظر ما يدخل بطنك أحلال أم حرام".
وقال ابن عباس -رضي الله عنهما-: "لا يقبل الله صلاة امرئ وفي جوفه حرام حتى يتوب إلى الله -تعالى- منه".
وروي عن يوسف بن أسباط -رحمه الله- قال: "إن الشاب إذا تعبد قال الشيطان لأعوانه: انظروا من أين مطعمه؟ فإن كان مطعم سوء، قال: دعوه يتعب ويجتهد فقد كفاكم نفسه، إن جهاده مع أكل الحرام لا ينفعه".
وروي عن بعض أهل العلم أن الشيطان يقول: "خصلة من ابن آدم أريدها ثم أخلي بينه وبين ما يريد من العبادة أجعل كسبه من غير حل إن تزوج تزوج من حرام، وإن أفطر أفطر على حرام، وإن حج حج من حرام" ا. هـ.
إذا حججتَ بمالٍ أصلهُ دنسٌ | فما حججتَ ولكنْ حَجَّتِ العِيرُ |
لا يقبلُ الله إلاّ كلَّ طَيِّبَة | ما كلُّ مَنْ حَجَّ بيتَ الله مَبْرُورُ |
قال الغزالي: "العبادات كلها ضائعة مع أكل الحرام، وأن أكل الحلال هو أساس العبادات كلها".
وقال: "العبادة مع أكل الحرام كالبناء على أمواج البحار".
ومن أشد ما عواقب أكل المال الحرام: أن مصير آكله إلى النار -نعوذ بالله من غضبه وعذابه- وقد أخبر نبينا -صلى الله عليه آله وسلم- بذلك في حديث كعب بن عجرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم-: "يا كعب بن عجرة إنه لا يدخل الجنة لحم ودم نبتا على سحت، النار أولى به".
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم-: عن أكثر ما يدخل الناس النار، فقال: "الأجوفان: الفم والفرج"[رواه ابن ماجة وحسنه الألباني].
وعن أبي بكر الصديق -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه آله وسلم- قال: "لا يدخل الجنة جسد غذي بحرام"[صححه الألباني].
وفي الخبر: "مكتوب في التوراة من لم يبال من أين مطعمه لم يبال الله من أي أبواب النيران أدخله".
ومن أخوف عواقب أكل المال الحرام: أنه سبب من أسباب عذاب القبر؛ فهذا مجاهدٌ قُتلَ في سبيلِ الله، فقال الصحابةُ -رضي الله عنه-: هنيئاً لهُ الشهادةِ يا رسول الله، فقال صلى الله عليه آله وسلم: "كلاَّ والذي نفسي بيده إنّ الشملةَ، لتلتهبُ عليه ناراً، أخذها يوم خيبر من الغنائم، لم تُصبها المقاسم" قال: فَفَزِعَ الناسِ فجاءَ رجلٌ بشراكٍ أو شراكين، وقال: أخذتهما يوم خيبر فقال رسولُ الله -صلى الله عليه آله وسلم-: "شراكٌ أو شراكان في النار"[متفق عليه].
وفي صحيح البخاري في رؤياه صلى الله عليه آله وسلم التي رآها في عذاب أصحاب المعاصي في قبورهم قال صلى الله عليه آله وسلم: "فأتينا على نهر حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم، وإذا في النهر رجل سابح يسبح، وإذا على شط النهر رجل عنده قد جمع حجارة كثيرة، وإذا ذلك السابح يسبح ما سبح، ثم يأتي ذلك الذي قد جمع عنده الحجارة فيفغر فاه، فيلقمه حجرا، فينطلق فيسبح ثم يرجع إليه كلما رجع إليه فغر فاه فألقمه حجرا".
قال الإمام الذهبي في الكبائر: "وجاء في حديث فيه طول: أن آكل الربا يعذب من حين يموت إلى يوم القيامة بالسباحة في النهر الأحمر الذي هو مثل الدم ويلقم الحجارة وهو المال الحرام الذي جمعه في الدنيا يكلف المشقة فيه ويلقم حجارة من نار كما ابتلع الحرام الذي جمعه في الدنيا هذا العذاب له في البرزخ قبل يوم القيامة مع لعنة الله له".
أيا من عاش في الدّنيا طويلا | وأفنى العمر في قيل وقال |
وأتعب نفسه فيما سيفنى | وجمعٍ من حرام أو حلال |
هب الدّنيا تقاد إليك عفوا | أليس مصير ذلك للزّوال |
ومن عقوبات أكل المال الحرام وعواقبه: أن أكل المال الحرام من أعظم أسباب حرمان الرزق الطيب المبارك؛ وقد قال صلى الله عليه آله وسلم في الحديث الذي يحسنه بعض أهل العلم: "إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه".
فكم من درهم حرام حُرم به العبد دراهم من الحلال، ولو تعفف العبد عن الحرام وقنع بما كتب الله له من الحلال لفتح الله عليه من أبواب رزقه ما يكفيه ويغنيه، فإنه -تعالى- قد أخذ على نفسه ذلك، فقال: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)الطلاق: 2-3].
ومن عقوبات أكل الحرام: أن المال الحرام ماحق لبركة المال؛ كما حدث بذلك حكيم بن حزام -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم- قال: "البيعان بالخيار ما لم يتفرقا، فإن صدق البيعان وبينا بورك لهما في بيعهما، وإن كتما وكذبا فعسى أن يربحا ربحا ويمحقا بركة بيعهما، اليمين الفاجرة منفقة للسلعة، ممحقة للكسب"[رواه البخاري ومسلم].
أن كل ما ينفقه آكل الحرام على نفسه وعياله فغير نافع له ولا يؤجر عليه، بل هو وبال عليه؛ فقد روى الطبراني وصححه الألباني من حديث أبي الطفيل بلفظ: "من كسب مالا من حرام فأعتق منه ووصل منه رحمه كان ذلك إصرا عليه".
وروى أبو داود في المراسيل عن القاسم بن مخيمرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم-: "من اكتسب مالا من مأثم، فوصل به رحمه، أو تصدق به، أو أنفقه في سبيل الله، جُمع ذلك كله جميعا فقذف به في جهنم".
ومن أخطر عقوبات أكل المال الحرام: أن كاسب المال الحرام متعرض للعنة الله ورسوله، فكم جاء في أحاديث رسول الله صلى الله عليه آله وسلم لعن الراشي والمرتشي؟ وكم جاء في الأحاديث النبوية لعن آكل الربا وموكله وكاتبه وشاهديه، ولعنة بائع الخمرة ومبتاعها، ولعنة السارق ولعنة مغير منار الأرض، وهي حدودها ليأخذ من الأرض ما لا حق له فيه.
فآكل المال الحرام ملعون بلعنة الله، وملعون بلعنة رسوله -صلى الله عليه آله وسلم-.
واللعن، هو: الطرد والإبعاد من رحمة الله -تعالى- وهو الحرمان والخسران المبين -أعاذنا الله وإياكم من ذلك-.
أن أكل المال الحرام من أسباب: حرمان العبد من كثير من الأعطيات الربانية، والمنح الإلهية، وأعظمها ما روي في الحديث الذي حسنه السيوطي عنه عليه الصلاة والسلام: "من بات كالاً من عمل يده بات مغفوراً له".
الخطبة الثانية:
ومن أعظم عقوبات أكل الحرام: أن الله -تعالى- لا يستجيب لآكل الحرام دعوة، ولا ترفع له إلى السماء مسألة؛ فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم-: "إن الله طيب لا يقبل إلا طيبا، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين، فقال: (يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ) [المؤمنون: 51] وقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)[البقرة: 172] ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك"[رواه مسلم والترمذي].
أرأيتم -أيها الفضلاء- إلى جناية آكل الحرام على نفسه ودينه، لقد استجمع هذا الرجل من صفات الذل والمسكنة ما يدعو إلى رثاء حاله، ويؤكد شدة افتقاره، تقطعت به السبل، وطال عليه المسير، وتغربت به الديار، وتربت يداه، واشْعَثَّ رأسه، واغبرَّت قدماه، وكل ذلك من أعظم موجبات قبول دعوته، وإجابة طلبته، ولكنه قد قطع صلته بربه، وحرم نفسه من مدد مولاه، فحيل بين دعائه والقبول.
أكل من حرام، واكتسى من حرام، ونبت لحمه من حرام، فردَّت يداه خائبتين، بربكم ماذا يبقى للعبد إذا انقطعت صلته بربه، وحُجب دعاؤه، وحيل بينه وبين الرحمة؟!
لمثل هذا قال بعض السلف: "لا تستبطئ الإجابةَ وقد سددتَ طُرقَها بالمعاصي".
إطابةَ المطعم سببٌ من أسباب قبول الدعاء؛ كما قال وهبُ ابن منبِّه -رحمه الله-: "مَن سرَّه أن يستجيب الله دعوتَه فليُطيب طُعْمَتَه".
ولَمَّا سئل سعدُ بن أبي وقاص -رضي الله عنه-: "تستجاب دعوتك من بين أصحاب رسول الله -صلى الله عليه آله وسلم-؟ فقال: "ما رفعتُ إلى فمي لُقمةً إلاَّ وأنا عالِمٌ من أين مجيئُها ومن أين خرجت".
أن أكل الحرام من أسباب زوال نعم الله على العبد، وحلول نقمه عليه تماماً؛ كما قال الله -تعالى- لأكلة الربا: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة:279].
وآكل المال الحرام يظن أنه في نعمة وغنى، وكلما جمع من الحرام أكثر كلما أحاطت به خطيئته، وأحل الله به عقوبته من حيث يشعر، ومن حيث لا يشعر.
أن أكل الحرام سبب لحلول النقم، والعقوبات العامة على الأمة، وزوال نعم الله عليها في اقتصادها وأمنها؛ فللمكاسب المحرمة آثارٌ سيئة على الفرد والجماعة؛ تُنزع البركات، وتفشو العاهات، وتحل الكوارث. أزمات مالية مستحكمة، وبطالة متفشية، وتظالم وشحناء.
قال ابن حجر الهيتمي: "وَلِهَذِهِ الْقَبَائِحِ الَّتِي ارْتَكَبَهَا التُّجَّارُ وَالْمُتَسَبَّبُونَ وَأَرْبَابُ الْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الظَّلَمَةَ فَأَخَذُوا أَمْوَالَهُمْ، وَهَتَكُوا حَرِيمَهُمْ، بَلْ وَسَلَّطَ عَلَيْهِمْ الْكُفَّارَ فَأَسَرُوهُمْ وَاسْتَعْبَدُوهُمْ، وَأَذَاقُوهُمْ الْعَذَابَ وَالْهَوَانَ أَلْوَانًا، وَكَثْرَةُ تَسَلُّطِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِالْأَسْرِ وَالنَّهْبِ وَأَخْذِ الْأَمْوَالِ وَالْحَرِيمِ إنَّمَا حَدَثَ فِي هَذِهِ الْأَزْمِنَةِ الْمُتَأَخِّرَةِ لَمَّا أَنْ أَحْدَثَ التُّجَّارُ وَغَيْرُهُمْ قَبَائِحَ ذَلِكَ الْغِشِّ الْكَثِيرَةِ الْمُتَنَوِّعَةِ وَعَظَائِمِ تِلْكَ الْجِنَايَاتِ وَالْمُخَادَعَاتِ وَالتَّخَيُّلَاتِ الْبَاطِلَةِ عَلَى أَخْذِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِأَيِّ طَرِيقٍ قَدَرُوا عَلَيْهَا، لَا يُرَاقِبُونَ اللَّهَ الْمُطَّلِعَ عَلَيْهِمْ، وَلَا يَخْشَوْنَ سَطْوَةَ عِقَابِهِ وَمَقْتِهِ، مَعَ أَنَّهُ تعالى عَلَيْهِمْ بِالْمِرْصَادِ: (يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ) [غافر: 19] ".
وَقد ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي كِتَابِ الزُّهْدِ لِأَبِيهِ: أَصَابَ بَنِي إِسْرَائِيلَ بَلَاءٌ، فَخَرَجُوا مَخْرَجًا، فَأَوْحَى اللَّهُ -عز وجل- إِلَى نَبِيِّهِمْ أَنْ أَخْبِرْهُمْ: إِنَّكُمْ تَخْرُجُونَ إِلَى الصَّعِيدِ بِأَبْدَانٍ نَجِسَةٍ، وَتَرْفَعُونَ إِلَيَّ أَكُفًّا قَدْ سَفَكْتُمْ بِهَا الدِّمَاءَ، وَمَلَأْتُمْ بِهَا بُيُوتَكُمْ مِنَ الْحَرَامِ، الْآنَ حِينَ اشْتَدَّ غَضَبِي عَلَيْكُمْ؟ وَلَنْ تَزْدَادُوا مِنِّي إِلَّا بُعْدًا.
ومن عقوبات أكل المال الحرام: فساد القلب وحرمان حلاوة الطاعة ونورها وقبولها؛ لأن القلب قد غطى عليه المأكل الحرام، فلا يوجد فيه لحلاوة الطاعة موضع، وحلاوة الطاعة ولذة العبادة نعمة ومنحة ربانية يسعد الله بها أوليائه وصالحي عباده، وآكل الحرام ليس منهم فأنى له أن يصل لذلك.
قال بعض السلف: "إن العبد يأكل أكلة فيتقلب قلبه فينغل كما ينغل الأديم ولا يعود إلى حاله أبدا".
أَكلُ الخَبيثِ بِهِ تعمى القُلوبُ فَلا | تُحَدِث بِها ظُلمَةً تَفضي إلى كُلَلِ |
وأكل الحرام يجرأ صاحبه على المعاصي والحرمات والموبقات، وهذا ثمرة فساد قلبه بأكل الحرام، قال سهل -رضي الله عنه-: "من أكل الحرام عصت جوارحه شاء أم أبى علم أو لم يعلم، ويتبع ذلك حلول سخط الله وغضبه عليه".
ومن أشد ما يعاقب الله به آكلي المال الحرام: التعرض لسوء الخاتمة؛ وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي -رحمه الله تعالى-: "ومهما ضعف الإيمان ضعف حب الله -تعالى- وقوى حب الدنيا فيصير بحيث لا يبقى في القلب موضع لحب الله -تعالى- إلا من حيث حديث النفس، ولا يظهر له أثر في مخالفة النفس، والعدول عن طريق الشيطان، فيورث ذلك الانهماك في اتباع الشهوات، حتى يظلم القلب ويقسو ويسود، وتتراكم ظلمة النفوس على القلب، فلا يزال يطفئ ما فيه من نور الإيمان على ضعفه، حتى يصير طبعا ورينا، فإذا جاءت سكرات الموت ازداد حب الله ضعفا لما يبدو من استشعار فراق الدنيا، وهي المحبوب الغالب على القلب، فيتألم القلب باستشعار فراق الدنيا، وينقلب ذلك الحب الضعيف لله بغضا، فإن اتفق زهوق روحه في تلك اللحظة التي خطرت فيها هذه الخطرة، فقد ختم له بالسوء، وهلك هلاكا مؤبدا".
قال الهيثمي: "وَأَمَّا فِي الْآخِرَةِ بِأَنْ يَخْتِمَ اللَّهُ لَهُ بِسُوءٍ، وَمِنْ ثَمَّ كَانَ اعْتِيَادُ الرِّبَا وَالتَّوَرُّطُ فِيهِ عَلَامَةً عَلَى سُوءِ الْخَاتِمَةِ، إذْ مَنْ حَارَبَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ كَيْفَ يُخْتَمُ لَهُ مَعَ ذَلِكَ بِخَيْرٍ؟ وَهَلْ مُحَارَبَةُ اللَّهِ وَرَسُولِهِ لَهُ إلَّا كِنَايَةٌ عَنْ إبْعَادِهِ عَنْ مَوَاطِنِ رَحْمَتِهِ وَإِحْلَالِهِ فِي دَرَكَاتِ شَقَاوَتِه".
عباد الله: إن أكل الحرام يُعمي البصيرة، ويوهن الدين، ويقسي القلب، ويُظلم الفكر، ويُقعد الجوارح عن الطاعات، ويوقع في حبائل الدنيا وغوائلها، ويحجب الدعاء، ولا يتقبل الله إلا من المتقين.
أيها المسلمون: ويل للذين يتغذون بالحرام، ويُربون أولادهم وأهليهم على الحرام، إنهم كشارب ماء البحر كلَّما ازدادوا شرباً ازدادوا عطشاً، شاربون شرب الهيم، لا يقنعون بالقليل، ولا يغنيهم الكثير. يستمرئون الحرام، ويسلكون المسالك المعوجة؛ رباً وقمارٌ، وغصبٌ وسرقةٌ، تطفيفٌ في الكيل والوزن والذرع، كتمٌ للعيوب، سحرٌ وتنجيمٌ وشعوذة، أكلٌ لأموال اليتامى والقاصرين، كذب وفجور وأيمان فاجرة، لهو وملاه، مكرٌ وخديعة، زور وخيانة، مسالك معوجة، وطرق مظلمة، في الحديث الصحيح عند البخاري والنسائي: "يأتي على الناس زمان لا يبالي المرء ما أخذ منه، أمن الحلال أم من الحرام".
زاد رزين: "فإن ذلك لا تجاب لهم دعوة".
أيها العمال والموظفون، أيها التجار والصناع، أيها السماسرة والمقاولون أيها المسلمون والمسلمات: حقٌ عليكم تحري الحلال والبعد عن المشتبه، احفظوا حقوق الناس، أنجزوا أعمالهم، أوفوا بالعقود والعهود، اجتنبوا الغش والتدليس، والمماطلة والتأخير، اتقوا الله جميعاً، فالحلال هنيء مريء، ينير القلوب، وتنشط به الجوارح، وتصلح به الأحوال، وتصحُّ به الأجسام، ويستجاب معه الدعاء.
اللهم اغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.
اللهم ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا إلى النار مصيرنا، ونسألك اللهم الغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، وبارك لنا فيما رزقتنا، وقنا عذاب النار، استجب اللهم يا ربنا دعاءنا.