البحث

عبارات مقترحة:

الملك

كلمة (المَلِك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعِل) وهي مشتقة من...

القيوم

كلمةُ (القَيُّوم) في اللغة صيغةُ مبالغة من القِيام، على وزنِ...

الحكم

كلمة (الحَكَم) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فَعَل) كـ (بَطَل) وهي من...

صلاة الجماعة (6) تعطيل العمل لحضور الجماعة

العربية

المؤلف إبراهيم بن محمد الحقيل
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الصلاة
عناصر الخطبة
  1. الصلاة الركن الأعظم بعد الشهادتين .
  2. نظرة مجتمع الصحابة لصلاة الجماعة .
  3. لا يتخلف عنها إلا منافق .
  4. المنافقون يزهدون الناس في صلاة الجماعة .
  5. حقيقة الدعوة لعدم تعطيل العمل وقت صلاة الجماعة .
  6. الصحابة يوقفون أعمالهم لأداء الجماعة .

اقتباس

وَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ قَوْمٌ يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِيهَا، فَيَجْتَرُّونَ الْخِلَافَ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِهَا، وَيَعْتَنُونَ بِأَقْوَالِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَعْظَمَ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِالَأْحَادِيثِ. وَآخَرُونَ يَحُثُّونَ النَّاسَ عَلَى عَدَمِ تَعْطِيلِ أَعْمَالِهمْ، وَإِغْلَاقِ أَسْوَاقِهِمْ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَجِبُ، مَعَ كَثْرَةِ النُّصُوصِ الَّتِي تُوجِبُهَا.

الخطبة الأولى:

الْحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70-71].

أَمَّا بَعْدُ:

فَإِنَّ خَيْرَ الْكَلَامِ كِتَابُ اللهِ تَعَالَى، وَخَيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ -صلى الله عليه وسلم-، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ.

أَيُّهَا النَّاسُ: إِنْ كَانَ الْكَافِرُ يَعِيشُ لِدُنْيَاهُ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ بِأُخْرَاهُ، أَوْ إِيمَانُهُ بِهَا عَلَى وَجْهٍ مَغْلُوطٍ، فَإِنَّ المُؤْمِنَ يَعِيشُ لِأُخْرَاهُ، وَيُسَخِّرُ لَهَا دُنْيَاهُ؛ فَحَيَاتُهُ فِي الدُّنْيَا لَيْسَتْ لِأَجْلِ الدُّنْيَا، وَإِنَّمَا هِيَ لِلْآخِرَةِ، وَلَوْ تَمَتَّعَ بِمَا أَحَلَّ اللهُ تَعَالَى لَهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ. فَالدُّنْيَا عِنْدَهُ مَطِيَّةُ الْآخِرَةِ، وَالدُّنْيَا وَسِيلَتُهَا، وَالْغَايَةُ أَمَامَهُ.

وَالمُؤْمِنُ يَنْطَلِقُ فِي عَقِيدَتِهِ تِلْكَ مِنْ يَقِينِهِ بِحَقِيقَةِ الدُّنْيَا وَحَقِيقَةِ الْآخِرَةِ الَّتِي تَلَقَّاهَا مِنْ نُصُوصِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. وَبِنَاءً عَلَى ذَلِكَ فَإِنَّ الْأَصْلَ أَنَّهُ إِذَا تَعَارَضَ عَمَلٌ دُنْيَوِيٌّ مَعَ آخَرَ أُخْرَوِيٌّ فِي زَمَانِهِ أَوْ مَكَانِهِ قَدَّمَ الْعَمَلَ الْأُخْرَوِيَّ عَلَى الدُّنْيَوِيِّ؛ لِأَنَّ الْأُخْرَوِيَّ يَبْقَى، وَالدُّنْيَوِيَّ يَفْنَى. وَكُلُّ مُؤْمِنٍ مُقْتَنِعٌ بِذَلِكَ مِنْ جِهَةِ الْقَوْلِ وَالتَّنْظِيرِ وَلَوْ خَالَفَهُ مَنْ جِهَةِ الْعَمَلِ وَالتَّطْبِيقِ؛ فَالنُّفُوسُ أَحْيَانًا تَضْعُفُ، وَالشَّيْطَانُ يَتَسَلَّطُ، فَيُؤْثِرُ المَهْزُومُ عَمَلَ الدُّنْيَا عَلَى عَمَلِ الْآخِرَةِ.

وَالصَّلَاةُ هِيَ الرُّكْنُ الْأَعْظَمُ بَعْدَ الشَّهَادَتَيْنِ، وَأَدَاؤُهَا فِي المَسَاجِدِ دَأَبُ المُؤْمِنِينَ، وَالتَّخَلُّفُ عَنْهَا عَمَلُ المُنَافِقِينَ، قَالَ عَبْدُ اللهِ بنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: "مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَلْقَى اللهَ غَدًا مُسْلِمًا، فَلْيُحَافِظْ عَلَى هَؤُلَاءِ الصَّلَوَاتِ حَيْثُ يُنَادَى بِهِنَّ، فَإِنَّ اللهَ شَرَعَ لِنَبِيِّكُمْ -صلى الله عليه وسلم- سُنَنَ الْهُدَى، وَإِنَّهُنَّ مَنْ سُنَنَ الْهُدَى، وَلَوْ أَنَّكُمْ صَلَّيْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ كَمَا يُصَلِّي هَذَا المُتَخَلِّفُ فِي بَيْتِهِ، لَتَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ، وَلَوْ تَرَكْتُمْ سُنَّةَ نَبِيِّكُمْ لَضَلَلْتُمْ، وَمَا مِنْ رَجُلٍ يَتَطَهَّرُ فَيُحْسِنُ الطُّهُورَ، ثُمَّ يَعْمِدُ إِلَى مَسْجِدٍ مِنْ هَذِهِ المَسَاجِدِ، إِلَّا كَتَبَ اللهُ لَهُ بِكُلِّ خَطْوَةٍ يَخْطُوهَا حَسَنَةً، وَيَرْفَعُهُ بِهَا دَرَجَةً، وَيَحُطُّ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةً، وَلَقَدْ رَأَيْتُنَا وَمَا يَتَخَلَّفُ عَنْهَا إِلَّا مُنَافِقٌ مَعْلُومُ النِّفَاقِ، وَلَقَدْ كَانَ الرَّجُلُ يُؤْتَى بِهِ يُهَادَى بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ حَتَّى يُقَامَ فِي الصَّفِّ". رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

فَحَكَى ابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- النَّظْرَةَ السَّائِدَةَ فِي مُجْتَمَعِ الصَّحَابَةِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَأَنَّهَا مِنْ سُنَنِ الْهُدَى، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَهَمِّيَّتِهَا الْبَالِغَةِ عِنْدَ ذَلِكُمُ المُجْتَمَعِ المُضِيءِ بِأَنْوَارِ الْوَحْيِ وَالنُّبُوَّةِ، كَمَا يَحْكِي -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- نَظْرَتَهُمْ إِلَى مَنْ يَتَخَلَّفُ عَنِ الْجَمَاعَةِ، وَأَنَّ الظَّنَّ فِيهِ أَنَّهُ يَسِيرُ فِي طَرِيقِ الضَّلَالِ، وَقَدْ يَصِلُ إِلَى دَرَكِ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الَّذِينَ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ.

وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِي التَّرْهِيبِ وَالتَّخْوِيفِ مِنَ التَّخَلُّفِ عَنِ الْجَمَاعَةِ إِلَّا هَذَا الْحَدِيثُ لَكَانَ كَافِيًا فِي الزَّجْرِ عَنْ ذَلِكَ، فَابْنُ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- لَا يَقُولُ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِاجْتِهَادٍ اجْتَهَدَهُ، أَوْ رَأْيٍ رَآهُ، إِنَّمَا يَحْكِي نَظْرَةَ أَفْضَلِ مُجْتَمَعٍ وُجِدَ فِي الْبَشَرِيَّةِ لِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَنَظْرَتَهُمْ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنْهَا، بِمَعْنَى أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ لِلْمُتَخَلِّفِ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ: هَذِهِ نَظْرَةُ مُجْتَمَعِ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- فِيكَ، وَرَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَهُمْ وَلَمْ يُنْكِرْ نَظْرَتَهُمْ هَذِهِ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنِ الْجَمَاعَةِ، فَيَا لَهَا مِنْ خَسَارَةٍ فَادِحَةٍ لِلْمُتَخَلِّفِينَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ أَنْ تَكُونَ نَظْرَةُ أَفْضَلِ مُجْتَمَعٍ وَأَنْقَاهُ لَهُمْ بِهَذِهِ الصُّورَةِ المُزْرِيَةِ!

وَأَعْجَبُ مِمَّنْ يَتَخَلَّفُونَ عَنْ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ قَوْمٌ يُزَهِّدُونَ النَّاسَ فِيهَا، فَيَجْتَرُّونَ الْخِلَافَ لِإِسْقَاطِ وُجُوبِهَا، وَيَعْتَنُونَ بِأَقْوَالِ بَعْضِ الْفُقَهَاءِ أَعْظَمَ مِنْ عِنَايَتِهِمْ بِالَأْحَادِيثِ. وَآخَرُونَ يَحُثُّونَ النَّاسَ عَلَى عَدَمِ تَعْطِيلِ أَعْمَالِهمْ، وَإِغْلَاقِ أَسْوَاقِهِمْ وَقْتَ الصَّلَاةِ بِحُجَّةِ أَنَّ الْجَمَاعَةَ لَا تَجِبُ، مَعَ كَثْرَةِ النُّصُوصِ الَّتِي تُوجِبُهَا.

وَوَاللهِ لَوْ كَانَتْ صَلَاةُ الْجَمَاعَةِ سُنَّةً بِإِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَلَوْ لَمْ يَقُلْ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِوُجُوبِهَا أَوْ بِشَرْطِيَّتِهَا لِصِحَّةِ الصَّلَاةِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا وَلَا نَصٌّ وَاحِدٌ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِهَا، لَكَانَ مِنَ الْخُسْرَانِ أَنْ يَدْعُوَ دَاعٍ إِلَى تَرْكِ الْجَمَاعَةِ، أَوْ إِلَى الْعَمَلِ فِي وَقْتِهَا، أَوْ إِلَى عَدَمِ تَعْطِيلِ الْأَسْوَاقِ لِأَجْلِهَا، فَكَأَنَّهُ يَقُولُ: اتْرُكُوا سُنَنَ الْهُدَى، وَعَطِّلُوا المَسَاجِدَ، وَأَقْبِلُوا عَلَى الْأَسْوَاقِ وَالْأَعْمَالِ.

إِنَّ وَلِيَّ الْأَمْرِ لَوْ أَرَادَ الْقَضَاءَ عَلَى ظَاهِرَةِ السَّهَرِ، وَأَمَرَ بِإِغْلَاقِ الْأَسْوَاقِ بَعْدَ الْعِشَاءِ؛ لِلْمَصْلَحَةِ الرَّاجِحَةِ فِي ذَلِكَ؛ لَوَجَبَتْ طَاعَتُهُ؛ وَلَمَا قِيلِ: إِنَّ الْبَيْعَ فِي اللَّيْلِ مُبَاحٌ فَلِمَ يَمْنَعْهُ؟! وَلَأَيَّدَهُ بَعْضُ مَنْ يَدْعُو لِلْعَمَلِ وَفَتْحِ الْأَسْوَاقِ وَقْتَ الصَّلَاةِ؛ وَهِيَ مَصْلَحَةٌ لِأَجْلِ النَّوْمِ المُبَكِّرِ، عُطِّلَتِ الْأَسْوَاقُ لِأَجْلِهَا، وَالصَّلَاةُ يَجِبُ الِاسْتِيقَاظُ مِنَ النَّوْمِ لَهَا، فَكَيْفَ يُقَالُ لِلمُسْتَيْقِظِينَ: يَسَعُكُمُ الْعَمَلُ وَتَرْكُ الْجَمَاعَةِ، وَالنَّائِمُ يَجِبُ أَنْ يُوقَظَ لِأَجْلِهَا؟!

وَقَدْ نُقِلَ عَنْ عُمَرَ وَعَلِيٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُمَا فِي خِلَافَتِهِمَا يَدُورَانِ يُوقِظَانِ النَّاسَ لِصَلَاةِ الْفَجْرِ، يَفْعَلَانِ ذَلِكَ كُلَّ يَوْمٍ. وَلَوْ صَحَّ أَنَّ الْأَعْمَالَ وَالْأَسْوَاقَ لَا تُعَطَّلُ لِأَجْلِ حُضُورِ الْجَمَاعَةِ لَكَانَ إِيقَاظُ النَّائِمِ لَهَا تَعَنُّتًا؛ لِأَنَّ النَّائِمَ أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ مِنَ الْبَائِعِ وَالمُشْتَرِي.

وَعَنْ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: "كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- المَغْرِبَ، وَنَنْصَرِفُ إِلَى السُّوقِ...". رَوَاهُ أَحْمَدُ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمْ يُوقِفُونَ الْعَمَلَ فِي السُّوقِ إِلَى مَا بَعْدَ الصَّلَاةِ.

وَفِي خِلَافَةِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- جَاءَ أَعْرَابِيٌّ بِجَلَب إِلَى السُّوقِ، فَوَصَلَ وَالنَّاسُ فِي المَسَاجِدِ، يَقُولُ: فَانْصَرَفَ النَّاسُ مِنْ صَلَاتِهِمْ، فَخَرَجَ النَّاسُ عَلَى أَسْوَاقِهِمْ. فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُمْ تَوَقَّفُوا عَنِ الْبَيْعِ وَالشَّرَاءِ وَقْتَ الصَّلَاةِ وَاتَّجَهُوا إِلَى المَسَاجِدِ، وَهَكَذَا كَانَ حَالُ المُجْتَمَعِ فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-.

وَمَرَّةً فَقَدَ عُمَرُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- سُلَيْمَانَ بْنَ أَبِي حَثْمَةَ في صَلاَةِ الصُّبْحِ -وَمَسْكَنُ سُلَيْمَانَ بَيْنَ السُّوقِ وَالمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ- فَمَرَّ عُمَرُ عَلَى أُمِّ سُلَيْمَانَ فَقَالَ لَهَا: "لَمْ أَرَ سُلَيْمَانَ في الصُّبْحِ! فَقَالَتْ: إِنَّهُ بَاتَ يُصَلِّي فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَنْ أَشْهَدَ صَلَاةَ الصُّبْحِ في الْجَمَاعَةِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُومَ لَيْلَةً". رَوَاهُ مَالِكٌ.

وَقَدْ وَصَفَ اللهُ تَعَالَى عُمَّارَ المَسَاجِدِ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ بِأَنَّهُمْ يُعَطِّلُونَ أَعْمَالَهُمْ وَتِجَارَتَهُمْ لِأَجْلِهَا، وَأَثْنَى عَلَيْهِمْ بِهِ، وَلَمْ يَخْتَرْ لَهُمْ وَصْفًا غَيْرَهُ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ القُلُوبُ وَالأَبْصَارُ) [النور: 37]، عَنِ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا-: "أَنَّهُ كَانَ فِي السُّوقِ فَأُقِيمَتِ الصَّلَاةُ، فَأَغْلَقُوا حَوَانِيتَهُمْ وَدَخَلُوا المَسْجِدَ، فَقَالَ ابْنُ عُمَرَ: فِيهِمْ نَزَلَتْ: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِ)".

وَعَنِ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ قَالَ: "كُنْتُ مَعَ سَالَمِ بْنِ عَبْدِ اللهِ وَنَحْنُ نُرِيدُ المَسْجِدَ، فَمَرَرْنَا بِسُوقِ المَدِينَةِ وَقَدْ قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ وَخَمَّرُوا مَتَاعَهُمْ، فَنَظَرَ سَالِمٌ إِلَى أَمْتِعَتِهِمْ لَيْسَ مَعَهَا أَحَدٌ، فَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: (رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللهِثُمَّ قَالَ: هُمْ هَؤُلَاءِ".

وَقَالَ الْحَسَنُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "وَاللهِ لَقَدْ كَانُوا يَتَبَايَعُونَ فِي الْأَسْوَاقِ، فَإِذَا حَضَرَ حَقٌّ مِنْ حُقُوقِ اللهِ بَدَؤُوا بِحَقِّ اللهِ حَتَّى يَقْضُوهُ، ثُمَّ عَادُوا إِلَى تِجَارَتِهِمْ". وَقَالَ السُّدِّيُّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَإِقَامِ الصَّلَاةِ): "أَيْ: إِقَامَةِ الصَّلَاةِ فِي جَمَاعَةٍ".

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "كَانُوا يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَلَا يَدَعُونَ الصَّلَوَاتِ المَكْتُوبَاتِ فِي الْجَمَاعَةِ".

وَقَالَ مَطَرٌ الْوَرَّاقُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: "أَمَا إِنَّهُمْ قَدْ كَانُوا يَشْتَرُونَ وَيَبِيعُونَ، وَلَكِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا سَمِعَ النِّدَاءَ وَمِيزَانُهُ فِي يَدِهِ خَفَضَهُ وَأَقْبَلَ إِلَى الصَّلَاةِ".

فَهَذِهِ أَقْوَالُ الصَّحَابَةِ وَأَتْبَاعِهِمْ وَأَتْبَاعِ أَتْبَاعِهِمْ فِي تَعْطِيلِ الْعَمَلِ وَالْأَسْوَاقِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَى المَسَاجِدِ، وَاسْتِئْنَافِ الْعَمَلِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ الْعَمَلُ فِي دَوْلَةِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-، وَدَوْلَةِ الْخِلَافَةِ الرَّاشِدَةِ وَمَا بَعْدَهَا، وَهُوَ إِجْمَاعٌ عَمَلِيٌّ مِنْ صَدْرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى تَعْظِيمِ أَمْرِ الصَّلَاةِ، وَالْعِنَايَةِ بِصَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، وَإِيقَافِ الْعَمَلِ وَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ لِأَجْلِ حُضُورِهَا فِي المَسَاجِدِ، وَأَدَائِهَا فِي جَمَاعَةِ المُسْلِمِينَ.

وَأَعْدَاءُ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ مِنَ المُنَافِقِينَ وَمَنْ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَطُلَّابِ الدُّنْيَا يُرِيدُونَ إِبْطَالَ هَذِهِ السُّنَّةَ الْعَظِيمَةَ الْقَاضِيَةَ بِإِيقَافِ الْعَمَلِ وَقْتَ الصَّلَاةِ، وَجَعْلِ وَقْتِ الصَّلَاةِ وَغَيْرِهِ سَوَاءً.

وَكَمْ فِي دَعْوَاهُمْ هَذِهِ مِنْ جِنَايَةٍ عَلَى النَّاسِ، وَإِعَانَةٍ لَهُمْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ؛ لِأَنَّ مِنْ نَتَائِجِ هَذِهِ الدَّعْوَةِ لَوْ أُصْغِيَ لَهَا: تَعْطِيلَ المَسَاجِدِ، وَحِرْمَانَ الْبَاعَةِ وَالمُتَسَوِّقِينَ مِنْ أَجْرِ الْجَمَاعَةِ، وَتَأْخِيرَ الصَّلَاةِ عَنْ وَقْتِهَا. فَكَمْ مِنْ شَخْصٍ تَرَكَ صَلَاةَ الْجَمَاعَةِ فَأَخَّرَهَا عَنْ وَقْتِهَا نِسْيَانًا أَوْ كَسَلًا، ثُمَّ نَقَرَهَا عَلَى عَجَلٍ.

وَالتَّجْرِبَةُ قَدْ دَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا فَاتَتْهُ الْجَمَاعَةُ ثَقُلَتْ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ، فَإِنْ أَدَّاهَا أَدَّاهَا عَلَى عَجَلٍ، وَتَرَكَ سُنَنَهَا الْقَبْلِيَّةَ وَالْبَعْدِيَّةَ، وَفَرَّطَ فِي أَذْكَارِهَا؛ لِانْشِغَالِهِ بِغَيْرِهَا عَنْهَا. بِخِلَافِ مَنْ يَحْضُرُهَا فِي المَسْجِدِ فَإِنَّهُ قَدْ تَهَيَّأَ لَهَا، وَتَفَرَّغَ مِنْ كُلِّ شُغُلٍ لِأَجْلِهَا، فَيُؤَدِّيهَا مُطْمَئِنًّا قَلْبُهُ بِهَا، وَيَأْتِي بِسُنَنِهَا وَأَذْكَارِهَا.

نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَهْدِيَنَا صِرَاطَهُ المُسْتَقِيمَ، وَأَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِهِ المُتَّقِينَ، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِدِينِهِ الْقَوِيمِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ...

الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدُ:

فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ: (وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ المُؤْمِنِينَ) [البقرة: 223].

أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: التَّوْفِيقُ وَالْخِذْلَانُ مِنَ اللهِ تَعَالَى؛ فَإِذَا وَفَّقَ اللهُ عَبْدًا جَعَلَهُ دَاعِيَةَ خَيْرٍ، يَدْعُو إِلَى دِينِهِ وَيُعَظِّمُ فَرَائِضَهُ، وَإِذَا خَذَلَ اللهُ تَعَالَى عَبْدًا صَارَ يَصُدُّ عَنِ الدِّينِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِهِ، وَيَرُدُّ النَّاسَ عَنِ الْعِبَادَةِ وَلَوْ كَانَ يَفْعَلُهَا.

وَإِنَّ الدَّعْوَةَ إِلَى عَدَمِ تَعْطِيلِ الْعَمَلِ وَالْأَسْوَاقِ فِي أَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ لَمِنْ أَبْوَابِ الْخِذْلَانِ الَّتِي قَدْ لَا يَنْتَبِهُ لَهَا صَاحِبُهَا، وَيَظُنُّ أَنَّهُ بِدَعْوَتِهِ يُسْدِي خَيْرًا لِلنَّاسِ وَهُوَ يَصُدُّهُمْ عَنْ عِبَادَتِهِمْ.

إِنَّنَا لَنَعْجَبُ أَشَدَّ الْعَجَبِ مِنْ أُنَاسٍ فُقَرَاءَ اضْطَرَّهُمْ عُسْرُ الْحَيَاةِ وَقِلَّةُ الْحَالِ إِلَى الْهِجْرَةِ إِلَى بِلَادٍ نَائِيَةٍ كَافِرَةٍ لِلْعَمَلِ فِيهَا، فَإِذَا حَطَّ أَحَدُهُمْ رَحْلَهُ فِي قَرْيَةٍ أَوْ بَلْدَةٍ صَغِيرَةٍ، فَأَوَّلُ مَا يَسْأَلُ عَنْهُ مَوْقِعُ المَسْجِدِ؛ لِيَحْضُرَ الصَّلَاةَ فِيهِ. فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْبَلْدَةِ مَسْجِدٌ فَإِمَّا غَادَرَهَا إِلَى غَيْرِهَا -وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ أَجْلِ صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ- وَإِمَّا بَحَثَ عَنْ مُسْلِمِينَ فِيهَا، فَاتَّخَذُوا مُصَلًّى لَهُمْ فِي مَنْزِلِ أَحَدِهِمْ أَوْ دُكَّانِهِ، وَاقْتَطَعُوا جُزْءًا مِنْ أَرْزَاقِهِمْ وَأَرْزَاقِ عِيَالِهمْ لِيَسْتَأْجِرُوا مَوْقِعًا يَجْعَلُونَهُ مَسْجِدًا لِلْمُسْلِمِينَ، يَجْتَمِعُونَ فِيهِ كُلَّ صَلَاةٍ حَسَبَ قُدْرَتِهِمْ، وَيَأْتُونَهُ مِنْ أَمَاكِنَ بَعِيدَةٍ، وَالْجَمَاعَةُ لَا تَجِبُ عَلَيْهِمْ، وَلَكِنَّهُمْ يُحِبُّونَ الصَّلَاةَ فِي الْجَمَاعَةِ، فَهَؤُلَاءِ مُوَفَّقُونَ وَلَوْ كَانُوا مِنْ ضَعَفَةِ المُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ.

فِي الْوَقْتِ الَّذِي يَعِيشُ فِيهِ أُنَاسٌ آخَرُونَ فِي سَعَةٍ مِنَ الْعَيْشِ فِي بِلَادٍ مُسْلِمَةٍ تَمْتَلِئُ بِالمَسَاجِدِ المُهَيَّأَةِ بِكُلِّ مَا تَحْتَاجُ إِلَيْهِ؛ لِيَرْفَعُوا عَقِيرَتَهُمْ مُزَهِّدِينَ النَّاسَ فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ، مُسْقِطِينَ عَنْهُمْ وُجُوبَهَا بِحُجَجٍ وَاهِيَةٍ، دَاعِينَ إِلَى عَدَمِ تَعْطِيلِ الْأَعْمَالِ وَالْأَسْوَاقِ وَقْتَ الصَّلَاةِ؛ لِئَلَّا تَتَوَقَّفَ الْحَيَاةُ -حَسَبَ زَعْمِهِمْ-، وَهَذِهِ صُورَةٌ مِنْ صُوَرِ الْخِذْلَانِ.

وَبَيْنَ هَؤُلَاءِ المَخْذُولِينَ وَأُولَئِكَ المُوَفَّقِينَ تَظْهَرُ صُوَرٌ مِنْ قُوَّةِ الْإِيمَانِ، وَتَعْظِيمِ الشَّعَائِرِ، وَتَقْدِيمِ عَمَلِ الْآخِرَةِ عَلَى عَمَلِ الدُّنْيَا، وَيَتَمَيَّزُ طُلَّابُ الدُّنْيَا مِنْ طُلَّابُ الْآخِرَةِ.

وَلِلْآخِرَةِ بَنُونَ، كَمَا أَنَّ لِلدُّنْيَا بَنِينَ، فَلْنَكُنْ -عِبَادَ اللهِ- مِنْ أَبْنَاءِ الْآخِرَةِ، وَلَوْ كَثُرَ أَبْنَاءُ الدُّنْيَا؛ فَإِنَّ الْوَعْدَ قَرِيبٌ، وَالْحِسَابَ شَدِيدٌ، وَالدُّنْيَا إِلَى زَوَالٍ، وَالْآخِرَةُ دَارُ الْقَرَارِ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ) [فاطر: 5].

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...