العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
كان موضوع خطبتنا السابقة الصدق وثماره، وفي لحظاتنا هذه: الكذب وآثاره، ذلكم أن الكذب والصدق قرينان وخصلتان متضادتان، قال مالك بن دينار: "الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما الآخر".
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين، أحمده -سبحانه- حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله لعن الكاذبين، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله جعل الكذب من صفات المنافقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين، وسائر الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد: فالزموا تقوى رب العالمين؛ تفوزا وتسعدوا في أمور الدنيا والدين.
معشر المسلمين: كان موضوع خطبتنا السابقة الصدق وثماره، وفي لحظاتنا هذه: الكذب وآثاره، ذلكم أن الكذب والصدق قرينان وخصلتان متضادتان، قال مالك بن دينار: "الصدق والكذب يعتركان في القلب حتى يخرج أحدهما الآخر".
ومن باب التحلي والتفاؤل قدمنا الصدق، ومن باب التخلي أخرنا الكذب، ومَن أمَر بالصدق نهى عن الكذب، ومن نهى عن الكذب أمر بالصدق.
الكذب بوابة الشرور، والمفاسد والنفور، والأوزار والفجور. الكذب آفة ذميمة، وخصلة وخيمة، تسقط قدر الإنسان، وتدنيه من الهوان.
الكذب ما كان في شيء إلا أفشله، ولا في حديث إلا أنقصه، ولا معاملة إلا أبطلها، ولا في أموال إلا أذهب بركتها، ولا مع أولاد إلا حط من قدره، ولا صديق إلا أذهب هيبته، مَن اعتاده استمرأه، ومن مشى عليه استشربه.
بيد أن الكذب عند البعض أصبح هو الثقافة والقوة والشجاعة والدهاء والديانة، وأخْذَ الحقِّ والمتانة، وسرعةً في البديهة، وحسناً في التصرف، وقوة في الذاكرة؛ فصُدق الكاذب، وكذب الصادق، فانعكست الموازين، وضيعت ونهبت حقوق المسلمين.
الكذب يقلب الحقائق، فيدني البعيد ويبعد القريب، ويقبح الحسن ويحسن القبيح؛ الكذب مهنة دنيئة، وخلة سيئة وبيئة، فأصبح شعار بعض البيوعات في العقارات والمناقصات، والعقود والمعاهدات، والبيوع والمشتريات، وأنواع المركبات والسيارات، وفي المعاملات والتعاملات.
فهو يروج في السلع، ويورث الهلع، فتجد الإنسان على ظاهره أحلى الكلمات، وأصدق العبارات، وأوفى المعاهدات، ودون ذلك خرط قتاد، وتحته الكذب والتمويهات، فبان خبثه، وظهر قبحه.
لا خير في ود امرئ متملق | حلو اللسان وقلبه يتلهبُ |
يلقاك يحلف أنه بك واثقٌ | وإذا توارى عنك فهو العقرب |
يعطيك من طرف اللسان حلاوة | ويروغ منك كما يروغ الثعلب |
الكذاب ملعون في السنة والكتاب، (ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةَ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ) [آل عمران:61]، الكذاب يصب عليه الرصاص المذاب، في البخاري، عنه عليه الصلاة والسلام: "من تحلم بحلم لم يره كلف أن يعقد بين شعيرتين ولن يفعل، ومن استمع إلى حديث قوم وهم له كارهون صب في أذنيه الآنك يوم القيامة". ومعنى: من تحلم بحلم لم يره، أي: يقول: إني رأيت كذا وكذا في المنام وهو لم ير.
وأعظم الفرى أن يُري عينيه ما لم تريا، كما قال المصطفى: "مِن أفرى الفرى أن يري الرجل عينيه ما لم تريا"، يقول: رأيت ورأيت ورأيت فيما لم ير!.
واسمع ما يهز الوجدان، وينبه الإنسان، كما في البخاري عن ولد عدنان، فيما رآه الرسول في المنام، وفيه: "فأتينا على رجل مستلقٍ لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه ويشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر، فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصبح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيفعل مثل ما فعل في المرة الأولى، ثم أخبر بمن هذه صفته فقال له: وأما الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق".
فهل بعد سمع هذا الوعيد الشديد، والنهي الأكيد، يكذب المرء على العبيد؟! فاللهم احمنا من الكذب يا ذا العرش المجيد.
والكذب صفة من صفات المنافقين، كما صح عن سيد المرسلين: "أربع من كن فيه كان منافقا خالصا، ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من النفاق حتى يدعها"، ومنها: "إذا حدث كذب"، كما في القرآن: (وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [التوبة:107].
الكذب وسيلة لدخول النار، كما ثبت في الصحيحين عن النبي المختار: "وإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب حتى يكتب عند الله كذابا".
ولاحظ قوله: "يهدي إلى الفجور"، فالكذب تجتمع فيه المفاسد والشرور، وألوان المعاصي والفجور، كالغرر والتمويه، وإخلاف الوعد والتفويه، والغش والتدليس، والتزوير والتلبيس.
و"الكذب ريبة" كما جاء في الحديث، فلا تسكن القلوب إليه، ولا تطمئن لقائله؛ بل تنفر منه وتمجه، ويعرض صاحبه للإهانة، فهو من أقبح الذنوب، وفواحش العيوب. وفي سورة المرسلات تكرار تلك الآيات: (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ).
والكذب من أوصاف الكافرين، كما في الكتاب المبين: (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ) [الانشقاق:22]، وهو سبب لمحق البركات، وقلة الخيرات، وإتلاف الممتلكات؛ (وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ) [الأعراف:96]. وفي الصحيحين: "وَإِنْ كَذَبَا وَكَتَمَا مُحِقَتْ بَرَكَةُ بَيْعِهِمَا".
الكذب يقلل من هيبة الرجال، وشخصية الإنسان والجمال، وما شيء إذا فكرت فيه بأذهب للمروءة والجمال من الكذب الذي لا خير فيه، وأبعد بالبهاء من الرجال.
ومضار الكذب كثيرة، ومفاسده كبيرة، وآثاره وخيمة، فهو وسيلة لدمار الأفراد والمجتمعات، ويؤدي بصاحبه إلى الهلاك والدمار، وفساد الدنيا والدين.
الكذب لص يسرق العقل كما يسرق اللص المال، دليل على خسة ودناءة صاحبه، يمقته الناس فهو ذليل مهان، ومغضب للرحمن، ومُرضٍ للشيطان.
والكذب -معشر المسلمين- له صور، أقبحها وأشنعها: الكذب على الله ورسوله، كالقول على الله بلا علم، والافتراء على الله ورسوله، والكذب على الناس بزعم الكاذب أنه من أهل الخير والصلاح، والتقى والإيمان والفلاح: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ) [البقرة:8].
والكذب في الحديث بين الناس، كالكذب في السلعة والبيع والبضاعة، وفي مسلم: "ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم"، منهم: "رجل حلف على سلعة لقد أعطي بها أكثر مما أعطي وهو كاذب".
ومن صوره المبالغة في الإطراء والمدح، والغلو والطرح، فالمجازفة في المدح والمبالغة في الإطراء يدخل في الكذب، والواجب أن يحذر المسلم حينما يثني على غيره أو يزكيه ألا يذكر إلا ما يعلم مما هو فيه، ولا يجنح إلى المبالغة وتضخيم المحامد، وطي المساند؛ وهذا يقع من الشعراء، وعند طلب الحاجة من الآخرين، وإظهار الحب والود. والمتشبع بما لم يعطَ كلابس ثوب زور.
ومن صوره: الكذب لإضحاك الناس، كما يقع في المجالس والاستراحات، وهو ما يسمى بالنكت والطرف والروايات المكذوبة، والتلفيق على صور موهومة، كـ "المحشش"، و"جحا"، والتعليق على الجلساء، والإتيان بالغرائب والعجائب، والقصص المذوبة، والحكايات المصنوعة.
وعند أبي داود والترمذي وأحمد مرفوعا: "ويلٌ للذي يحدث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب! ويلٌ له! ويلٌ له!"، قال المناوي: "كرره إيذاناً بشدة هلكته؛ وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم، وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب، ويجلب النسيان، ويورث الرعونة، كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة" اهـ.
ومن صوره: الكذب لإفساد ذات البين، وبين الأقارب والإخوة والأخوات والآباء والأمهات والأزواج والزوجات، مما يورث التفرق بين المتحابين، وغرز الشحناء والبغضاء بين المسلمين.
ومن علامة الإسلام صيانة اللسان، عند مسلم: "المسلم أخو المسلم، لا يخونه ولا يكذبه".
ومن صوره القبيحة التخلص من المواقف المحرجة واستدرار العاطفة، وتكثير المتابعين، والإتيان بشيء جديد، ومسألة الناس، وإظهار الفقر والحاجة، أو المرض والعاهة، أو إعالة الأسرة، والتملق لأرباب الثراء والأغنياء والجاه والمناصب، والتذلل إليهم، ومدحهم بما ليس فيهم؛ لنيل غرض أو حاجة.
وفي مسلم: "يكون في آخر الزمان دجالون كذابون، يأتونك من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم، فإياكم وإياهم! لا يضلونكم ولا يفتنونكم".
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد عباد الله: ومن صور الكذبِ الكذبُ على الأولاد، فيعوّد بنيه الكذب بمقاله ولسان حاله، فكثيرا ما يكذب الوالدان على أولادهم تخلصا منهم، أو تخويفا لهم، أو حفزا لهم، أو ترغيبا أو ترهيبا لهم.
وكان مسعر بن كدام يوصي ابنه:
إني منحتك يا كدام وصيتي | فاسمع لقول أب عليك شفيقِ |
أما المزاحة والمراء فدعهما | خلقان لا أرضاهما لصديق |
فاحذر أن يتعود الأبناء منك الكذب:
وينشأ ناشئ الفتيان منا | على ما كان عوّده أبوه |
ومن صوره: شهادة الزور، والحلف بالشهادة، وهذا من أشنع الكذب، فاحذر من أن تشهد وتنقل ما لا تعلم، وإياك والحيف لقرابة أو صداقة! أو استحياء أو خوف مهانة، أو لنعرات عصبية أو مجاملات زوجية أو أحوال أسرية.
ومن صوره: ظن بعض الناس أن هناك كذبا أبيض وهو حلال وكذبا أسود وهو حرام، والكذب كله حرام، أبيضه وأسوده.
ومن الناس من يعود غيره على الكذب ومن تحت يده من موظفين ومسؤولين أو عمال وطلبة وبنين، فيبوء بالوزر والإثم المبين .
ومن الناس -أيها الناس- من يقول: الكذب في زمننا لا بد منه، فلا يمكن أن نعيش أو نخلص معاملاتنا وتعاملاتنا إلا به. وهذا منكر وخيم، ووزر عظيم، ولا ينال ما عند الله إلا برضاه.
ومن الناس من اعتاد الكذب، فيظن أن الناس كل حديثهم كذب، فيجازى بنقيض قصده!
إذا عُرِف الكذَّابُ بالكذب لم يزل | لدى الناس كذَّابًا وإن كان صادقا |
ومن آفة الكذاب نسيان كذبه | وتلقاه ذا ذهن إذا كان حاذقا |
ومن الناس من يكذب بحجة المصلحة والدعوة، فربما قال: رأيت في المنام. كذبا وزورا، يفعل ذلك ترغيبا وترهيبا، خصوصا لمن مات له ميت.
وكذا يكذب بحجة أن الناس كلهم يكذبون، وهذا لا يبرر ولا يشفع له عند ربه، فلا يعامل الخطأ بخطأ مثله.
الكذب -أيها المسلمون- صاحبه ممقوت على أي حال من الأحوال، إلا ما جاء في ثلاثة أحوال: في الحرب، والصلح بين المتخاصمين، وفي الحياة الزوجية بين الزوجين، كما جاء ذلك في مسلم: "ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس، يقول خيرا وينمي خيرا"...
لا يكذب المرء إلا من مهانته | أو عادة السوء أو من قلة الأدبِ |
لَبعضُ جيفةِ كلبٍ خيرُ رائحة | من كذبةِ المرءِ في جدٍّ وفي لعبِ |
يقول ابن القيم: "إياك والكذب! فإنه يفسد عليك تصور المعلومات على ما هي عليه، ويفسد عليك تصويرها وتعليمها للناس".
وقال إبراهيم التيمي: "ما عرضت قولي على عملي إلا خشيت أن أكون مكذبا".
واختر الجليس الصادق، قال الإمام أحمد: "الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل، واختر الجليس الصادق، واحذر الكاذب الماحق".
واختر صديقك واصطفيه تفاخرا | إن القرين إلى المقارن ينسب |
ودع الكذوب ولا يكن لك صاحبا | إن الكذوب لبئس خلّا يصحب |
و"بئس مطية الرجل: زعموا"، قالوا، ذكروا، نشروا، غردوا! قال ابن عمر: "زعموا، زاملة الكذب".
والكذب -عباد الله- انتشر في هذه الأزمان انتشارا لا نظير له، وذاع في كل قطر ومكان وزمان وانتشر انتشارا لا مثيل له، وذلك عبر التواصلات الاجتماعية والمواصلات العنكبوتية والتقنيات المعلوماتية، كالـ "واتس" والمنتديات والرسائل والمواقع...
قال علي بن أبي طالب: "أعظم الخطايا عند الله اللسان الكذوب".
واحذر الاستعانة بالكاذب، فحبله قصير، وشره مستطير، يقول عمر بن عبد العزيز: "إياك أن تستعين بكذوب! فإنك إن تطع الكذوب تهلك".
وينبغي تعويد الأولاد الصدق، وتحريرهم من الكذب.
ولقد حرص السلف على صيانة ألسنتهم وحفظ منطقهم، وتحري الصدق في أقوالهم، يقول الأحنف بن قيس: "ما كذبت منذ أسلمت ألا مرة واحدة، فإن عمر سألني عن ثوب بكم أخذته فأسقطت ثلثي الثمن".
وقال عمر بن عبد العزيز: "ما كذبت كذبة منذ شددت علي إزاري"، وقال بعض السلف: "والذي لا إله إلا هو! لو نادى منادٍ: الكذب حلال؛ ما كذبت أبدا!".
وعن أبي بردة قال: "كان يقال إن ربعي بن حراش لم يكذب كذبا قط، قال: فأقبل ابناه من خراسان، فجاء العريف إلى الحجاج فقال: إن الناس يزعمون أن ربعي بن حراش لم يكذب كذبة قط، وقد قدم ابناه من خراسان وهما عاصيان لك. فقال الحجاج: علي به! فلما جاء قال: أيها الشيخ، قل ما تشاء. قال: ما فعل ابناك؟ قال: المستعان الله! خلفتهما في البيت. قال: لا جرم، لا أسوؤك فيهما، هما لك".
فزبدة الكلام: احفظ لسانك من الكذب على الأنام، وكن قدوة صالحة لمن خلفك بصدق الكلام.
هذا، وأسأل الله الكريم رب العرش العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه.