الرقيب
كلمة (الرقيب) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (فاعل) أي:...
العربية
المؤلف | ملتقى الخطباء - الفريق العلمي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
إن الجبن صفة رذيلة حقيرة دنيئة، استعاذ منها الأسد الهمام والقائد المغوار، أشجع هذه الأمة وفارسها الأكبر، رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فكان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله رب العالمين ناصر الموحدين، والصلاة والسلام على نبي الملحمة، الضحوك القتال، نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً.
أما بعد:
عباد الله: كان العرب يعدون الجبن من أبشع الصور الدنيئة، وأرذل صفات الرجال، ويحتقرون كل جبان خوار، ويستهينون به في كلامهم وأشعارهم، وفي المقابل يعظمون الرجل الشجاع المغوار، ويتفاخرون به، ويعطونه كل ألقاب الشرف والفخر، ويعتبرونه وسامهم الأعظم ورمزهم الأشرف.
إن الجبن صفة رذيلة حقيرة دنيئة، استعاذ منها الأسد الهمام والقائد المغوار، أشجع هذه الأمة وفارسها الأكبر، رسولنا -صلى الله عليه وسلم-، فكان يقول في دعائه: "اللهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْهَرَمِ، وَالْبُخْلِ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ" [مسلم (2706)].
يستعيذ النبي -صلى الله عليه وسلم- من الجبن، لأن الجبن يدفع بالإنسان إلى التقصير في أداء الواجبات، والتساهل في إزالة المنكرات، وترك القيام بحقوق الله تعالى، والخور والتساهل مع الطغاة والفجرة، ولأنه بشجاعة النفس وقوتها المعتدلة تتم العبادات، وينصر المظلوم، ويقوم الجهاد في سبيل الله.
إن المؤمن حقاً بالله وقضائه وقدره يعلم علماً يقينيا -لاشك فيه ولا ريب- أن الأقدار كلها بيد الله، وأن الله -سبحانه وتعالى- قد جعل لكل شيء قدراً، فالأعمار كلها بيده، ولا يقع شيء إلا بإذنه، ولهذا فإنه لا يخاف الموت، لأنه يعلم أنه لن يموت حتى يستكمل أجله، ولا تخيفه الأهوال والشدائد لأنه يعلم أنه لن يصيبه إلا ما كتب الله له، فلم الجبن والخور؟.
فإذا ضعف إيمان العبد، وتلاشى يقينه، وهان في قلبه دينه، كان الجبن صفته، والخور عنوانه، وترك الشجاعة صفة ملازمة له، وكلما ضعف إيمان العبد كلما ازداد جبنه، ولهذا فإن أكثر الناس جبناً هم الكفرة الفجار. يقول الله -سبحانه وتعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) [آل عمران : 156].
يخاطب الله المؤمنين أن لا يتصفوا بالجبن والخور لأنه من صفات الكفار، فينهانا أن نكون مثلهم، أو أن نتشبه بهم في هذه الصفة الذميمة، حتى أنهم من شدة جبنهم يقولون عن إخوانهم الذين قتلوا في ساحة القتال والنزال لو كانوا عندنا هنا، وجلسوا مثلنا، ولم يشاركوا في الحرب، فلن يقتلوا، ولن يصيبهم ما أصابهم من الموت والقتل، يقولون هذا خوراً وجبناً، وعدم إيمان بقضاء الله وقدره، ولكن الله يريد أن يزيدهم حسرة فوق حسرتهم، ووهناً فوق وهنهم، وكفراً فوق كفرهم.
ويربي الله -تبارك وتعالى- نفوس المؤمنين على الشجاعة والبسالة والإقدام، ويحذرهم من الجبن والخوف، ويرتب على الجبن العقاب الأليم والعذاب الشديد، فيقول ربنا -سبحانه- ناهياً المؤمنين عن التقهقر أمام العدو، أو التولي عنه، والانحياز والبعد عن مواجهته إذا قدم، فيقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ) [الأنفال : 16].
ويبين الله -سبحانه وتعالى- العلاقة بين الكفر والجبن وأنه كلما وقع الكفر حصل الجبن فيقول: (لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ) [التوبة : 45].
ففي هاتين الآيتين بيان واضح أن الجبن ناتج عن الكفر، وأن هؤلاء المنافقين ما استأذنوا في القعود، وطلبوا من الرسول -صلى الله عليه وسلم- أن يرخص لهم في عدم المشاركة في الحرب إلا بسبب كفرهم، وعدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، ولو أنهم يؤمنون بالله ولقائه لما طلبوا القعود، وفضلوا الجبن والخور على المشاركة في الجهاد في سبيل الله.
ولهذا فإن المؤمنين الصادقين المؤمنين بالله حقاً لم يتوانوا لحظة واحدة في المشاركة في الجهاد في سبيل الله، بكل ما يملكون من إمكانيات وطاقات، ويساهمون في ذلك بأموالهم وأنفسهم، وأوقاتهم وطاقاتهم.
ومن الأمثلة العظيمة والشواهد المؤكدة التي تؤكد أن الجبن سببه الكفر، أن الله -سبحانه وتعالى- وصف اليهود الذين هم أكفر خلق الله، وأشدهم حقداً، وأكثرهم عداوة، نعتهم بالجبن ووصفهم به، فقال: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) [الحشر : 14].
وذكر الله -جل جلاله- أنهم من شدة جبنهم، وكثرة خوفهم وفزعهم، تجدهم أحرص الناس على حياة، فهم حريصون جداً على العيش، ويكرهون جداً جداً الموت، لأن جبنهم يدفعهم إلى حب الدنيا وكراهية الموت، يقول الله -سبحانه وتعالى- عنهم: (وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) [البقرة : 96].
إنهم يحرصون على مجرد الحياة، ولو كانت حياة ذليلة مهينة، المهم هو أن يبقى حياً غير ميت، بل وحريص على ذلك، وليس مجرد أنه يحب الحياة فقط، وإنما حريص عليها كل الحرص.
ومن جبنهم أنهم لا يقاتلون المؤمنين إلا من وراء الحيطان وخلف الجدران، وما ذلك إلا بسبب جبنهم وهلعهم وفزعهم الناتج عن كفرهم وشركهم، يقول الله عنهم: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) [الحشر : 14].
ومن الأمثلة التي تدل على جبن الكفار، ودناءة مواقفهم، وتظهر حقيقة شجاعتهم جبن المنافقين، الذين ذكر الله في كتابه العظيم كثيراً من مواقفهم الدنيئة الهابطة، التي تدل على جبنهم الكبير وخورهم العظيم، يقول الله -سبحانه وتعالى- في ذكر موقف لأحدهم: (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ) [التوبة : 49]. هذه الآية العظيمة نزلت في رجل يدعى "الجد بن قيس"، من كبار المنافقين، ورؤوس الشياطين، لما أمرهم الرسول -صلى الله عليه وسلم- بالتجهز للقتال لحرب الروم، جاء الجد بعذر أقبح من ذنب.
عذر يدل على نفسية منهزمة، ملئت جبناً وضعفاً، حينما قال له الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "هَلْ لَك يَا جَدّ الْعَام فِي جِلَاد بَنِي الْأَصْفَر؟ فَقَالَ: يَا رَسُول اللَّه أَوَتَأْذَن لِي وَلَا تَفْتِنِّي فَوَاَللَّهِ لَقَدْ عَرَفَتْ قَوْمِي مَا رَجُل أَشَدّ عَجَبًا بِالنِّسَاءِ مِنِّي وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْت نِسَاء بَنِي الْأَصْفَر أَنْ لَا أَصْبِر عَنْهُنَّ. فَأَعْرَضَ عَنْهُ رَسُول اللَّه -صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ: قَدْ أَذِنْت لَك فَفِي الْجَدّ بْن قَيْس نَزَلَتْ هَذِهِ الآية (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُول اِئْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي) الْآيَة" [ تفسير ابن كثير ( 2/213 )].
ويذكر الله أنه من قوة جبنهم وشدة خوفهم أنهم يتمنون أن لو وجدوا مكاناً يهربون إليه، أو مغارة في جبل يختبؤون فيها، أو مدخلاً يدخلون فيه، أو ملجئاً يلتجؤون فيه، ويختفون بداخله، هرباً من المشاركة في المعارك، وإبعاداً لأنفسهم من خوض المعامع والملاحم، (وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ) [التوبة 56: 57].
ويحكي القرآن عن حالهم يوم الأحزاب، ويصف جبنهم في تلك المعركة الشديدة فيقول: (أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا) [الأحزاب : 19].
قلت ما سمعتم، واستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله ولي الصالحين، ومؤيد عباده المؤمنين، وخاذل الكفرة والمشركين، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
عباد الله: لو تأملتم في معظم المعارك وأغلب الحروب التي دارت بين المسلمين والكفار، لرأيتم أن الكفار غالباً ما يكونون هم الأكثر عدداً، والأقوى عدة، والأكثر جمعاً، إلا أن النصر غالباً ما يكون حليف المسلمين!.
إن جبن الكفار ودناءة أنفسهم هو السبب الأعظم -بعد خذلان الله لهم- في سر هذه الانتكاسات المتوالية، والهزائم المتتالية، التي تلحقهم وتصيبهم دائماً وأبداً، على مر التاريخ القديم والحديث.
اليوم في عصرنا هذا عصر القوة والتكنولوجيا الهائلة التي يملكها الكفار، والأسلحة المتطورة التي يحوزونها، إلا أننا نراهم يقفون عاجزين مكتوفين أمام فئة قليلة من المسلمين، لا تملك عشر معشار ما يملكونه من القوة.
ففي العراق وأفغانستان وقفت أمريكا -أعظم دولة في العالم- ذليلة، حقيرة، كسيرة، ضعيفة، أمام عدد بسيط من المجاهدين، وفرت من الصومال لا تألوا على شيء، وفرت من العراق تجر أذيال الهزيمة والفشل، وعزمت على الرحيل من أفغانستان مهزومة مدحورة.
وفي الشيشان وقفت روسيا -ثاني أقوى دولة في العالم- وقفت عاجزة على القضاء على المجاهدين، رغم قلة عددهم وضعف إمكانياتهم، ومرت سنوات طويلة على الحرب بينهم وبين المجاهدين، ولم يستطيعوا حسم المعركة ضدهم.
وفي فلسطين العز والمجد والآباء يقف أبناء القردة والخنازير مرعوبين، مذعورين, خائفين من أطفال الحجارة وأشبال فلسطين، مع أن إسرائيل تعد من الدول المتقدمة جداً في المجال العسكري والحربي.
كل هذا وغيره يرينا جبن الكفار، ودناءة مواقفهم، وخسة أنفسهم الجبانة، وليس معنى هذا أنه لا يوجد فيهم من هو شجاع مغوار؛ كلا، وإنما المقصود هو أن الأعم الأغلب فيهم هو الخوف والجبن، الموروث عن الكفر المتجذر في قلوبهم.
صلوا وسلموا على رسول الله، استجابة لأمر الله القائل: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب:56]، وترضوا على الصحابة الكرام، وخصوا منهم بالذكر ذوي القدر الجلي، والمقام العلي: أبو بكر وعمر وعثمان وعلي، وعلى سائر الصحابة والتابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.