العربية
المؤلف | إبراهيم بوبشيت |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المهلكات |
أيها المسلمون: "التمساح" لما كان التمساح مختلف الأسنان، صار كل ما حصل بين أسنانه ما يؤذيه، يخرج إلى شاطئ البحر، فاتحا فاه، طالبا للراحة، فيأتي طائر ليأكل ما بين أسنان التمساح. سبحان الله! يكون ذلك رزقا للطائر، وترويحا للتمساح!. ولكن ما هي مكافأة الأستاذ التمساح؟! ما هي المكافأة التي قدمها ذلك التمساح مكافأة لمن أراحه؟! مكافأة لمن ساعده؟! مكافأة لمن وقف معه في أزمة من أزمات حياته؟! ما الذي كافئ به ذلك التمساح لذلك الطائر؟! دعونا نـ...
الخطبة الأولى:
الحمد لله العلي العظيم، الحكيم الكريم، السميع البصير، اللطيف الخبير، ذي النِعَم السوابغ، والفضل الواسع.
سبحانه كل يوم يأتي برزق جديد، من مليك لنا غني حميد، قادر حميد، لطيف ظاهر باطن قريب بعيد.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، البشير النذير، المبعوث بالترغيب والترهيب والتنزيل.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد الذي نبع الماء من بين أصابعه، فروى الجم الغفير، وأشبع ألفا بكف من طعام، وظلله الغمام من الهجير، وعلى آله وأصحابه.
صلى الله عليه صلاة ما تبلغه ما بلغ الليل والنهار، ورضي الله -تعالى- عن آله الكرام، ومن تبعهم بإحسان، واقتفى أثرهم بإيمان، صلاة تبلغ العنبر والعبير، ويقهر سناهم الشمس المشرقة والقمر المنير، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانه!.
تسبحه نغمات الطيور | يسبحه الظل تحت الشجر |
يسبحه النبع بين المروج | وبين الفروع وبين الثمر |
يسبحه النور بين الغصون | يسبحه المساء وضوء القمر |
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران:102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ)[لقمان: 33].
أصلحوا السرائر تسعدوا بسعادة الضمائر، تصدقوا في الخفاء تسعدوا بالهناء، بادروا الخيرات تنالوا أعلى الدرجات، قدموا لأنفسكم من الصالحات لتنجوا من الكربات.
فالسعداء: (طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ)[الرعد: 29],
والثمن: (بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ)[الرعد: 24].
والضمان من الله: (وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ)[الحجر: 48].
أيها المسلمون: "التمساح" لما كان التمساح مختلف الأسنان، صار كل ما حصل بين أسنانه ما يؤذيه، يخرج إلى شاطئ البحر، فاتحا فاه، طالبا للراحة، فيأتي طائر ليأكل ما بين أسنان التمساح.
سبحان الله! يكون ذلك رزقا للطائر، وترويحا للتمساح!.
ولكن ما هي مكافأة الأستاذ التمساح؟ ما هي المكافأة التي قدمها ذلك التمساح مكافأة لمن أراحه؟ مكافأة لمن ساعده؟ مكافأة لمن وقف معه في أزمة من أزمات حياته؟ ما الذي كافئ به ذلك التمساح لذلك الطائر؟
دعونا نطالع اليوم وإياكم مواقف من حياة التماسيح من البشر.
إن ذلك التمساح، كما قال ابن الجوزي -عليه رحمة الله- عجيبا في أمره، فإنه يكافئ بعض أولئك الطيور بأنه يلتهمها.
مكافأة التمساح، هو التهام ذلكم الطائر الذي قدم له يد المساعدة.
إنه مثل الذي يمد له يده لكي يخرجه من غرق البحار، فإذا به ينجو ويسقط من أنجاه، قال الحكماء: "فكل من فعل جميلا فكوفئ بالقبيح، هذه تسمى مكافأة التمساح".
لله در تماسيح البشر! لقد أخذ أخوة يوسف العهد على أبيهم قائلين: (أَرْسِلْهُ مَعَنَا)[يوسف: 12].
ورددوا قائلين: (وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)[يوسف: 12]..
ولكن المكر والخداع سريرة في نفوسهم، تمكر بهم، لكي تفعل شيئا عجيبا: (اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)[يوسف: 9].
هؤلاء التماسيح الذين كم من دخلوا في أمن فأفسدوه، ظواهرهم غير بواطنهم.
من عجيب ما ذكره العلماء: أن أنثى التمساح لا تثق في أحد، تضع بيضها في أأمن الأماكن، مع أنها أم الخداع.
ثم العجيب الثاني تمضي به في قاع مدة 12 شهر، لكي تحفظ صغارها، حتى ينبتون، ثم يكون التمساح في أول أمره من ألين المخلوقات جمالا في بشرة، جمالا في منظر، جمالا في هيئة، ولكن منذ ما يبلغ ينقلب إلى حيوان عجيب قبيح في منظر، قبيح في هيئة؟
قال بعض الأدباء: وهكذا بعض البشر ترى بعضهم قبل أن يسود الرياسة والريادة، يسر الناظرين، وبمجرد ما يكون رئيسا أو مسئولا أو ذا وجاهة، فيكون وجهه مثل التمساح، عليه الكآبة والقطر.
أيها المسلمون: لقد وقف أخوة يوسف قائلين ومرددين ما يردده بعض من تعيش معه اليوم، إذ يعطيك الأمن والأمان على أسرارك، والأمن والأمان على أموالك، والأمن والأمان على أهلك وذريتك، يعطيك الأمن والأمان على طلابك وبناتك، ولكن هو تمساح في الباطن سرعان ما يخادعك، فيخون عرضك، ويبيع كرامتك، وإذا به يصيبك بالإفلاس والغرم يوما من الأيام: (قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ)[يوسف: 11].
إن هذا المكر المبطن، ثم تماسيح بعض البشر إذ يعطونك الأمن والأمان، وسرعان ما يكون تمساحا لكي يلتقمك.
فكم من موظف مسكين صار رهين زميله في فصله؟
وكم من مشروع وتاجر أصبح رهين السجون من موظف أمنه، قال له: ما لك لا تأمنا على تجارتك؟
وكم من بيت اليوم أصبح رهين انتهاك الأعراض؟
كم من امرأة اليوم الذي تخون العرض مع أخ أو صديق زوجها؟
أبكتني -والله- تلك المرأة قبل أيام قلائل، إذ تقول: أن النزاع بينها وبين زوجها كان من وراء الأسباب -والله أعلم- تقول: ذهبت إلى بيت أهلي، مكثت فيه ما كنت أتصور أن المراغمة على الفاحشة سوف تصيبني يوما من الأيام من أخي، راودني، وانتهك عرضي!.
أنا الآن حاملة من أخي! ماذا تنصحني؟! ماذا أفعل مع هذا الحمل الذي في بطني؟! زوجي يعلم وأهلي يعلمون أني خرجت من بيتهم وأنا لست حاملة! ماذا يا ترى أفعل؟
إذا كان التمساح يعيش بيننا في بيوتنا، إذا كان الإنسان لا يأمن على بنته من ولده، ولا يأمن على نفسه من أهله، ماذا عسانا أن ننتظر؟!
(يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ)[يوسف: 11].
لا تكن تمساحا، النفس لها حظ وعليها حق: (فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ)[النساء: 129].
إذا تعاملتم مع الناس زنوا بالقسطاط المستقيم.
والعجب أن تنقلب الحياة المليئة بالسعادة والهناء فجأة لموقف، أو لتصرف مشين، أو التحول من طبيعة البشر إلى غير طبيعة البشر.
عن ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما- أنه قال: قال النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-: "رأيت النار، فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن" قيل: أيكفرن بالله؟ قال: "يكفرن العشير" أو "يكفرن بالإحسان، لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئا قالت: ما رأيت خيرا قط" [رواه البخاري ومسلم].
بعض النساء مثل التماسيح لا ترى تعب زوجها طوال الأيام، وغربته وتعبه.
لا ترى ما يصيبه من الذل والمهانة والألم في عمله ووظيفته.
لا ترى ما يهان به من التغرب عن الأوطان والغيبة عن الأهل والأصحاب.
إن بعض النساء مثل التماسيح تظهر الوداد، وتخفي الخيانة.
بئست حياة المرأة التمساحة التي تنكر جميل حياة مضت، وتنسى معروفها، والله يردد قائلا علينا: (وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ)[البقرة: 237].
لا تكن تمساحا، يقابل الإحسان بالإساءة، مهما كانت إساءة المسيء، مهما كانت إساءة المسيء، مهما كانت إساءة المسيء قابلها بالإحسان، وتأمل ما يصف به الشاعر حالنا اليوم:
أعلمه الرماية كل يوم | فلما اشتد ساعده رماني |
كم تمساح في بعض الأحايين من بعض الأخوة الذين أدخلوا إخوانهم أو أقاربهم في بعض المشاريع، كانوا فقراء فأغناهم الله، كانوا ضعفاء فقواهم الله، كانوا أذلة فأعزهم الله؛ بعد فضل الله؛ كانت اليد البيضاء لهؤلاء الناس، فبماذا قابلوا هذا الإحسان؟
تعجبت! وأنا أحضر هذا الموضوع أسأل بعض الأخوة حتى المقيمين في بلادنا، فضلا عن بني جلدتنا، أصبح الإنسان لا يأمن أخاه حتى في الدينار والدرهم، أصبح بعضنا لا يأمن أخاه حتى في كفالة أو غرامة، كيف أن يضحي بنفسه؟ كيف أن يتصدق له بعرضه؟ كيف أن يعمل له ويأمن؟ ألهذه الدرجة بلغ حالنا اليوم من خوف أن ينقلب ذلكم الأخ إلى تمساح.
أعلمه الرماية كل يوم، فكم من رئيس علم موظفا، وكم من صاحب علم إنسانا، علمه صنعة، أو تجارة.
مسكت بيد حداد، فقلت له أنت ماهر؟ لماذا لا تأتي ببعض أقاربك يعملون معك؟ قال: والبلاء من الأقارب، قلت له: لماذا؟ قال: ما أتيت بأحد وعلمته إلا خانني وانبرم عني.
لماذا نعيش بعدم الوفاء؟
لا أنسى ذلكم الشاب الذي ينتظر الزواج وعمره 25 سنة، يقول: جمعت المال فلما جمعته كنت أجمعه عند والدي، فلما قربت رغبتي في الزواج، قلت لوالدي: أين مالي؟ قال: ليس عندي لك مال! ماذا أقول؟! ماذا أرد؟
وتعجبت! وأنا أطالع سيرة التاجر البار عبد العزيز الموسى الذي توفي قبل سنة ونصف، وقد بلغت خيراته وتجارته الآفاق: أنه لما خرج من بلده ضعيفا بسيطا، فعمل في البناء، ثم أنشأ التجارة وبدأ، قال: جمعت مالا ولم يكن في ذلك الوقت من بنك، ولا غيره آمنه عند أحد التجار، فإذا بي لما أردت المال، قال لي: ليس عندي لك مال، بدأت حياتي من جديد.
أتعجب عندما نسمع أمثال هؤلاء، أيعيش بيننا هؤلاء؟! أيوجد بيننا أمثال هؤلاء الناس؟!
تبكي تلك الفتاة، وتقول: أخذت مهري، أعطيته والدي، جلست آخذ منه لكي أجهز زواجي، أمضيت نحو العشرين ألف، بقيت الثلاثين، قلت لوالدي: أعطني المال؟ قال: ما عندي مال، ماذا أفعل يا شيخ؟! تقول: بقي على زواجي نحو عشرة أيام، أنا فتاة إلى من ألتجأ؟ إلى من أذهب؟! إذا كان والدي الذي أنا وثقت به وأمنته قابلني بمثل هذه المقابلة؟ ماذا ننتظر؟ ماذا عسانا اليوم أن ننتظر؟!
قال علي -رضي الله عنه-: "كن من خمسة على حذر: من لئيم إذا أكرمته، وكريم إذا أهنته، وعاقل إذا أحرجته، وأحمق إذا مازحته، وفاجر إذا عاشرته".
قال الله -سبحانه وتعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ)[إبراهيم: 28-29].
اللهم انفعنا وارفعنا بالقرآن العظيم الذي رفعت مكانه، وأيدت سلطانه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم..
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
عبد الله: لا تكن تمساحا، كم ينعم عليك ربك، يسدي عليك من النعم، ويهبك من الفضل والكرم، ثم يصف الله -جل وعلا- هذا الإنسان، كيف ينقلب على نعم ربه؟ كيف يتحول هذا الإنسان عن نعم مولاه؟ كيف ينقلب حاله من شاكر إلى غير شاكر؟ كيف يتحول هذا الإنسان إلى أمر عجيب؟!
قال الله -تعالى-: (إِنَّ الْإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ)[العاديات: 6].
قال الحسن -عليه رحمة الله-: "الكنود، هو الذي يعد المصائب، وينسى نعم الله".
ينسى نعم الله؛ لماذا؟
ينساها؛ لأنه تحول من أن يكون صابرا في البلاء، شاكرا في النعماء، مدركا لفضل الله.
قال ابن المبارك:
يد المعروف غنم حيث كانت | تحملها شكور أو كفور |
ففي شكر الشكور لها جزاء | وعند الله ما كفر الكفور |
قال ابن الأثير، كما في جامع الأصول، ونقله ابن مفلح في الآداب الشرعية، قال: "من كان عادته وطبعه كفران نعمة النّاس، وترك شكره لهم، كان من عادته كفر نعمة اللّه -عز وجل-، وترك الشكر له".
لأن من شكر الله؛ شكر إحسان المحسنين.
معاشر المؤمنين والمسلمين: إذا أردت ان تعيش سعيدا، فإياك وإياك أن تأخذ رزقك بالمكر، وسعادتك بالمكر، وحياتك بالمكر، لا تتاجر بالمكر، ولا تطلب الرزق بالمكر، فإن من أقبح طبائع التمساح المكر، من أقبح طبائعه المكر، وتأمل بعض الأمور الوثائقية التي تعطيك درسا في قدرة الله أن كل تمساح يبتليه الله -جل وعلا- بما هو أقوى منه.
فتعجبت يوما، وأنا أطالع من يستطيع على التمساح المعروف بالمكر، فإذا بثعبان ضخم مليء بالقهر، إذ أن صغاره يأكلها هذا التمساح، فإذا بذلكم الثعبان الضخم يقع في عراك مع ذلكم التمساح من أمكر التماسيح، فلتقمه.
فكل من أصبح مثل هذا سوف يدله الله يوما من الأيام، كما وقف أخوة يوسف عليه، فنال كرامتين الذين في السجن، قالوا: نراك من المحسنين.
وإخوانه بعدما جاءوا صاغرين، قالوا: نراك من المحسنين.
فنال الإحسان في شدة البلاء، ونال الإحسان في شدة العز.
هكذا الأوفياء في شدة البلاء، تثبت أخلاقهم، وفي شدة الرخاء، تثبت أخلاقهم، فيوسف -عليه السلام- لم يقابل مكرهم إلا بالإحسان: (أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ)[يوسف: 59].
وللحديث بقية مع هذه الطبائع التي نصف دواءها، ونعالج أمرها، سائلين الله -جل وعلا- أن يجنبنا الأخلاق الردية، والأفعال القبيحة السيئة.
اللهم أعز الإسلام، وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين.