المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ عِنْدَ النَّاسِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَمَا يُعَانُونَهُ مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ سَبَبُهُ اشْتِغَالُهُمْ بِالْفُضُولِ، حَتَّى جَاوَزَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ المُبَاحَاتِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ، فَمَا يَجِدُ أَكْثَرُهُمْ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً، وَلَا لِلْعِبَادَةِ لَذَّةً، وَلَا لِلْقُرْآنِ طَعْمًا.. هَذَا؛ وَانْغِمَاسُ الْعَبْدِ فِي فُضُولِ شَيْءٍ وَاحِدٍ يَقُودُهُ إِلَى فُضُولٍ فِي غَيْرِهِ، فَفُضُولُ الطَّعَامِ يُؤَدِّي إِلَى فُضُولِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالنَّوْمِ.. وَكُلُّهَا سَبَبٌ لِقَسْوَةِ الْقَلْبِ.
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ للهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ؛ (خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ) [السجدة: 7، 8] نَحْمَدُهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ، وَنَشْكُرُهُ عَلَى مَزِيدِ فَضْلِهِ؛ أَنْعَمَ عَلَيْنَا بِالدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَصَرَفَ عَنَّا الْمِحَنَ وَالْبَلَايَا، وَلَهُ عَلَيْنَا فِي كُلِّ لَحْظَةٍ نِعَمٌ لَا نُحْصِيهَا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ المَلِكُ الْحَقُّ المُبِينُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ النَّبِيُّ الْأَمِينُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ دَهْرَكُمْ كُلَّهُ، وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَعْقَابِكُمْ بَعْدَ شَهْرِكُمْ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَةَ للهِ رَبِّكُمْ، وَإِنَّ حَاجَتَكُمْ إِلَيْهِ فِي كُلِّ أَحْوَالِكُمْ وَأَزْمَانِكُمْ، وَمَنْ عَرَفَ اللهَ تَعَالَى فِي الرَّخَاءِ عَرَفَهُ اللهُ تَعَالَى فِي الشِّدَّةِ، وَمَنْ أَكْثَرَ الدُّعَاءَ فِي السَّرَّاءِ اسْتُجِيبَ لَهُ فِي الضَّرَّاءِ، وَلَيْسَ دُونَ الْعَبْدِ وَالْعَمَلِ إِلَّا المَوْتُ؛ فَإِنَّهُ قَاطِعُ الْعَمَلِ، مُوجِبُ الْجَزَاءِ (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ * وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ) [الحجر: 98-99].
أَيُّهَا النَّاسُ: رَمَضَانُ مَدْرَسَةٌ حَوْلِيَّةٌ لِمَنْ عَمَرَهُ بِالطَّاعَاتِ، وَأَخَذَ مِنْهُ الْعِبَرَ وَالْعِظَاتِ.. مَدْرَسَةٌ فِي الْعِبَادَةِ، وَمَدْرَسَةٌ فِي السُّلُوكِ، وَمَدْرَسَةٌ فِي إِصْلَاحِ الْقُلُوبِ، وَمَدْرَسَةٌ فِي تَرْكِ الْفُضُولِ..
وَالْفُضُولُ: هُوَ الِاشْتِغَالُ بِمَا لَا يَعْنِي. وَمَا يَعْنِي الْإِنْسَانَ أَمْرَانِ: إِمَّا أَمْرُ مَعِيشَتِهِ، وَإِمَّا أَمْرُ آخِرَتِهِ.. فَمَنِ اشْتَغَلَ بِغَيْرِ ذَلِكَ كَانَ مِنْ فُضُولِ الشُّغْلِ الَّتِي لَا تُفِيدُ الْعَبْدَ لَا فِي دُنْيَاهُ وَلَا فِي آخِرَتِهِ.
وَقَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ» أَصْلٌ فِي تَرْكِ الْفُضُولِ. وَبَيَّنَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّ «مِنْ حُسْنِ إِسْلَامِ المَرْءِ تَرْكُهُ مَا لَا يَعْنِيهِ» وَقَالَ الْجُنَيْدُ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «عَلَامَةُ إِعْرَاضِ اللهِ تَعَالَى عَنِ الْعَبْدِ أَنْ يَشْغَلَهُ بِمَا لَا يَعْنِيهِ». وَقَدْ قِيلَ: ضَيَاعُ الْعُقُولِ فِي طَلَبِ الْفُضُولِ.
وَالْفُضُولُ يَكُونُ فِي الْكَلَامِ وَفِي الطَّعَامِ وَفِي النَّظَرِ وَفِي الْخُلْطَةِ وَفِي النَّوْمِ:
فَفُضُولُ الْكَلَامِ أَنْ يَتَكَلَّمَ بِمَا لَا يُفِيدُهُ، أَوْ يَسْتَمِعَ إِلَيْهِ، وَمَعَ أَنَّ دِينَ الْإِسْلَامِ لَيْسَ دِينَ الصَّمْتِ، وَالصَّمْتُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ فِي الشَّرِيعَةِ؛ لِأَنَّ آلَةَ اللِّسَانِ يَجِبُ أَنْ تُسْتَثْمَرَ فِي طَاعَةِ اللهِ تَعَالَى وَذِكْرِهِ، إِلَّا أَنَّ المَرْءَ إِذَا كَانَ سَيَشْغَلُ لِسَانَهُ بِفُضُولِ الْكَلَامِ فَصَمْتُهُ خَيْرٌ مِنْ كَلَامِهِ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ...»، وَلِكَثْرَةِ فُضُولِ الْكَلَامِ فِي النَّاسِ فَلَا عَجَبَ أَنْ يَكُونَ أَكْثَرُ مَا يُورِدُ النَّاسَ النَّارَ حَصَائِدَ الْأَلْسُنِ.
وَفُضُولُ الْكَلَامِ هُوَ غَالِبُ كَلَامِ النَّاسِ فِي بُيُوتِهِمْ وَمَجَالِسِهِمْ وَفِي أَسْوَاقِهِمْ وَطُرُقِهِمْ، وَعَبْرَ أَجْهِزَتِهِمُ المَنْقُولَةِ مَعَهُمْ صَوْتًا وَكِتَابَةً، وَمَعَ أَهْلِهِمْ وَقَرَابَتِهِمْ وَأَصْدِقَائِهِمْ وَمَنْ لَا يَعْرِفُونَ، وَذِكْرُ اللهِ تَعَالَى فِيمَا يَقُولُونَ قَلِيلٌ، وَهُمْ مُؤَاخَذُونَ بِهَذَا الْفُضُولِ.
قَالَ عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: «إِنَّ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ يَكْرَهُ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَكَانُوا يَعُدُّونَ فُضُولَ الْكَلَامِ مَا عَدَا كِتَابَ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ تَقْرَأَهُ، أَوْ أَمْرٍ بِمَعْرُوفٍ، أَوْ نَهْيٍ عَنْ مُنْكَرٍ، أَوْ أَنْ تَنْطِقَ بِحَاجَتِكَ فِي مَعِيشَتِكَ الَّتِي لَا بُدَّ لَكَ مِنْهَا، أَتُنْكِرُونَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ كِرَامًا كَاتِبِينَ، (عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 17- 18]، أَمَا يَسْتَحِيي أَحَدُكُمْ أَنْ لَوْ نُشِرَتْ عَلَيْهِ صَحِيفَتُهُ الَّتِي أَمْلَاهَا صَدْرَ نَهَارِهِ أَكْثَرُ مَا فِيهَا لَيْسَ مِنْ أَمْرِ دِينِهِ وَلَا دُنْيَاهُ».
وَنُقِلَ عَنْ بَعْضِ الصَّحَابَةِ قَالَ: «إِنَّ الرَّجُلَ لَيُكَلِّمُنِي بِالْكَلَامِ لَجَوَابُهُ أَشْهَى إِلَيَّ مِنَ المَاءِ الْبَارِدِ إِلَى الظَّمْآنِ، فَأَتْرُكُ جَوَابَهُ خِيفَةَ أَنْ يَكُونَ فُضُولاً».
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقْضِي وَقْتَهُ فِي الِاسْتِمَاعِ إِلَى فُضُولِ الْكَلَامِ عَبْرَ الْإِذَاعَاتِ وَالشَّاشَاتِ وَنَحْوِهَا. وَالْهَوَاتِفُ الذَّكِيَّةُ مَلْأَى بِالمَقَاطِعِ الصَّوْتِيَّةِ وَالمَرْئِيَّةِ الَّتِي هِيَ مِنَ الْفُضُولِ، وَاسْتِمَاعُ المَرْءِ لِلْقُرْآنِ أَوِ الْحَدِيثِ أَوِ التَّذْكِيرِ وَالمَوْعِظَةِ خَيْرٌ لَهُ، وَهُوَ فِي مُتَنَاوَلِهِ، وَلَكِنْ يَتَثَاقَلُ عَنْهُ، أَوْ يُسَوِّفُ فِيهِ، وَمَا أَهْلَكَ ابْنَ آدَمَ إِلَّا التَّسْوِيفُ، وَهُوَ أَمْضَى أَسْلِحَةِ إِبْلِيسَ.
وَمِنَ الفُضُولِ المُؤْذِي فُضُولُ الأَسْئِلَةِ؛ فَإِنَّ مِنَ النَّاسِ مَنْ لَا يَدَعُ شَيئًا مِنْ خَاصَةِ جَلِيسِهِ إِلَّا سَأَلَهُ عَنْهُ؛ فَيَسْأَلَهُ عَنْ عُمُرِهِ وَعَمَلِهِ وَنَسَبِهِ وَأَصْلِهِ وَأَصْهَارِهِ وَمَنْزِلِهِ وَأَوْلَادِهِ وَوَظِيفَتِهِ وَمَالِهِ، وَكُلِّ مَا هُوَ خَاصٌّ بِهِ، فَيُؤْذِيِهِ بِأَسْئِلَتِهِ الصَفِيقَةِ أَشَدَّ الأَذَى، وَهُوَ لَا يَنْتَفِعُ بِشَيءٍ مِمَّا سَأَلَهُ عَنْهُ سِوَى الفُضُولِ، وَرُبَّمَا حَسَدَهُ عَلَى مَا مُنِحَ مِنْ نِعَمٍ.
وَفُضُولُ النَّظَرِ أَيْضًا مَذْمُومٌ؛ وَالْأَصْلُ فِي ذَمِّهِ قَوْلُ اللهِ تَعَالَى: (وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى) [طه: 131]؛ أَيْ: لَا تَمُدَّ عَيْنَيْكَ مُعْجَبًا، وَلَا تُكَرِّرِ النَّظَرَ مُسْتَحْسِنًا إِلَى أَحْوَالِ الدُّنْيَا وَالمُمَتَّعِينَ بِهَا، مِنَ المَآكِلِ وَالمَشَارِبِ وَالمَلَابِسِ وَالْبُيُوتِ وَالنِّسَاءِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ زَهْرَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، تَبْتَهِجُ بِهَا نُفُوسُ المُغْتَرِّينَ... ثُمَّ تَذْهَبُ سَرِيعًا، وَتَمْضِي جَمِيعًا.
وَكَانَ السَّلَفُ الصَّالِحُ يَكْرَهُونَ فُضُولَ النَّظَرِ كَمَا يَكْرَهُونَ فُضُولَ الْكَلَامِ... وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ قَدْ بُلُوا بِفُضُولِ النَّظَرِ، وَفُتِنُوا بِزَخَارِفِ الدُّنْيَا، حَتَّى إِنَّهُمْ يُصَعِّدُونَ النَّظَرَ فِيمَا يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ المَبَانِي وَالمَرَاكِبِ وَالمَلَابِسِ وَالْأَثَاثِ وَغَيْرِهَا؛ اسْتِحْسَانًا لَهَا، وَضَبْطًا لِدَقَائِقِهَا، وَرُبَّمَا حَسَدُوا غَيْرَهُمْ عَلَى مَا أُعْطُوا مِنْ دُنْيَاهُمْ.
وَبَعْضُ النَّاسِ مَفْتُونٌ بِالنَّظَرِ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ يَمُرُّ بِهِ مِنْ جَامِدٍ وَمُتَحَرِّكٍ حَتَّى كَأَنَّهُ رَادَارٌ يَلْتَقِطُ كُلَّ شَيْءٍ، وَفِي ذَلِكَ مِنْ أَذِيَّةِ النَّاسِ مَا فِيهِ فَإِنَّ النَّاسَ لَا يُحِبُّونَ مَنْ يُطِيلُ النَّظَرَ لِيَكْشِفَ بَوَاطِنَ دُورِهِمْ، وَيَكْرَهُونَ مَنْ يُحْدِقُ فِي سَيَّارَاتِهِمْ لِمَعْرِفَةِ مَنْ بِدَاخِلِهَا، وَيَمْقُتُونَ مَنْ يُصَعِّدُ النَّظَرَ فِيمَا يَحْمِلُونَ مِنْ حَاجَاتٍ لِمَعْرِفَةِ مَاهِيَّتِهَا. وَكُلُّ ذَلِكَ مِنْ فُضُولِ النَّظَرِ.
فَضْلًا عَنِ النَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ فِي الشَّاشَاتِ وَالْأَجْهِزَةِ الذَّكِيَّةِ وَغَيْرِهَا، وَهِيَ لَا تُعَدُّ وَلَا تُحْصَى مِنْ صِوَرٍ ثَابِتَةٍ وَأُخْرَى مُتَحَرِّكَةٍ.
فَإِذَا نُهِيَ عَنْ فُضُولِ النَّظَرِ إِلَى المُبَاحِ؛ لِئَلَّا يُفْتَنَ الْقَلْبُ بِالدُّنْيَا وَزَخَارِفِهَا فَكَيفَ إِذَنْ بِالنَّظَرِ إِلَى المُحَرَّمِ؟ وَقَدْ قَالَ بَعْضُ الْعُبَّادِ: «مَنْ تَرَكَ فُضُولَ النَّظَرِ وُفِّقَ لِلْخُشُوعِ».
وَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى دَاوُدَ الطَّائِيِّ فَقَالَ: «إِنَّ فِي سَقْفِ بَيْتِكَ جِذْعًا مَكْسُورًا، فَقَالَ: يَا ابْنَ أَخِي، إِنِّي فِي هَذَا الْبَيْتِ مُنْذُ عِشْرِينَ سَنَةً مَا نَظَرْتُ إِلَى السَّقْفِ».
وخَرَجَ حَسَّانُ بْنُ أَبِي سِنَانٍ يَوْمَ الْعِيدِ، فَلَمَّا رَجَعَ قَالَتْ لَهُ امْرَأَتُهُ: «كَمْ مِنَ امْرَأَةٍ حَسْنَاءَ قَدْ نَظَرْتَ الْيَوْمَ؟ فَلَمَّا أَكْثَرَتْ قَالَ: وَيْحَكِ! مَا نَظَرْتُ إِلَّا فِي إِبْهَامِي مُنْذُ خَرَجْتُ مِنْ عِنْدِكِ حَتَّى رَجَعْتُ إِلَيْكِ».
وَعَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: (وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 28] قَالَ: «المَرْأَةُ تَمُرُّ بِالرَّجُلِ فَلَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ عَنِ النَّظَرِ إِلَيْهَا وَلا يَنْتَفِعُ بِهَا، فَأَيُّ شَيْءٍ أَضْعَفُ مِنْ هَذَا؟».
وَفِي خُطُورَةِ فُضُولِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ يَقُولُ ابْنُ الْقَيِّمِ: «وَأَكْثَرُ المَعَاصِي إِنَّمَا تَوَلُّدُهَا مِنْ فُضُولِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ، وَهُمَا أَوْسَعُ مَدَاخِلِ الشَّيْطَانِ».
وَأَمَّا فُضُولُ الطَّعَامِ؛ فَالْأَصْلُ فِي ذَمِّهِ قَوْلُ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَا مَلَأَ آدَمِيٌّ وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ...» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَقَدْ تَعَوَّذَ النَّبِيُّ مِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَيَشْمَلُ عَدَمَ شَبَعِهَا مِنَ الْأَكْلِ، وَعَدَمَ شَبَعِهَا مِنْ جَمْعِ الدُّنْيَا.
وَقَدْ يَنْشَأُ عَنْ فُضُولِ الطَّعَامِ فُضُولُ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ؛ فَإِنَّ الْبُطُونَ إِذَا أُتْخِمَتْ بِلَذَائِذِ الطَّعَامِ، تَحَرَّكَتْ كَوَامِنُ الشَّهَوَاتِ، قَالَ أَبُو عَبْدِ اللهِ الْوَاهِبِيُّ: «مَنْ أَدْخَلَ فُضُولًا مِنَ الطَّعَامِ أَخْرَجَ فُضُولًا مِنَ الْكَلَامِ».
وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ أَدْهَمَ: «مَنْ ضَبَطَ بَطْنَهُ ضَبَطَ دِينَهُ».
وَقَالَ مَالِكُ بْنُ دِينَارٍ: «مَا يَنْبَغِي لِلْعَاقِلِ أَنْ يَكُونَ بَطْنُهُ أَكْبَرَ هَمِّهِ، وَأَنْ تَكُونَ شَهْوَتُهُ هِيَ الْغَالِبَةَ عَلَيْهِ».
وَقَالَ بِشْرُ بْنُ الْحَارِثِ: «مَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَشْبَعَ الْيَوْمَ مِنْ الْحَلَالِ؛ لِأَنَّهُ إذَا شَبِعَ مِنْ الْحَلَالِ دَعَتْهُ نَفْسُهُ إلَى الْحَرَامِ».
وَفُضُولُ الطَّعَامِ سَبَبٌ لِفُضُولِ النَّوْمِ، وَفُضُولُ النَّوْمِ يُمِيتُ الْقَلْبَ، وَيُثَقِّلُ الْبَدَنَ، وَيُضِيعُ الْوَقْتَ، وَيُورِثُ كَثْرَةَ الْغَفْلَةِ وَالْكَسَلِ.
قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: «وَكَثْرَةُ النَّوْمِ مِنْ كَثْرَةِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ»، وَنَقَلَ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ: «بِقِلَّةِ الطَّعَامِ يُمْلَكُ سَهَرُ اللَّيْلِ»، يَعْنِي فِي الْعِبَادَةِ.
وقَالَ الْفُضَيْلُ: «خَصْلَتَانِ تُقَسِّيَانِ الْقَلْبَ: كَثْرَةُ النَّوْمِ, وَكَثْرَةُ الْأَكْلِ».
وَفُضُولُ الْخُلْطَةِ تَقُودُ إِلَى قَوْلِ المُنْكَرِ أَوْ سَمَاعِهِ أَوْ مُمَارَسَتِهِ أَوِ السُّكُوتِ عَنْهُ، وَكَثِيرٌ مِنَ اجْتِمَاعَاتِ النَّاسِ مَا هِيَ إِلَّا مِنْ فُضُولِ الخُلْطَةِ الَّتِي تَضُرُّ وَلَا تَنْفَعُ حَتَّى رَتَّبُوا لِهَذِهِ الِاجْتِمَاعَاتِ أَزْمِنَةً ثَابِتَةً تُعْرَفُ بِالدَّوْرِيَّاتِ، وَرُبَّمَا خُصِّصَ لَهَا أَمْكِنَةٌ كَالِاسْتِرَاحَاتِ وَنَحْوِهَا، مِمَّا يَدُلُّ عَلَى كَثْرَتِهَا وَتَنَوُّعِهَا، وَغَالِبُهَا يَخْلُو مِنْ ذِكْرِ اللهِ تَعَالَى، وَتُقْضَى فِي الْقِيلِ وَالْقَالِ، وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ، وَالِاجْتِمَاعِ عَلَى مُشَاهَدَةِ مَا يَضُرُّ وَلَا يَنْفَعُ. وَكُلُّ خُلْطَةٍ لَا تَزِيدُ صَاحِبَهَا قُرْبًا مِنَ اللهِ تَعَالَى فَتَرْكُهَا خَيْرٌ لِصَاحِبِهَا. قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْوَرَّاقُ: «وَجَدْتُ خَيْرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فِي الْخَلْوَةِ وَالْقِلَّةِ، وَشَرَّهُمَا فِي الْكَثْرَةِ وَالِاخْتِلَاطِ».
وَقَالَ الْجُنَيْدُ: «مُكَابَدَةُ الْعُزْلَةِ أَيْسَرُ مِنْ مُدَارَاةِ الْخُلْطَةِ».
وَلَا شَكَّ أَنَّ الَّذِي يُخَالِطُ النَّاسَ فَيَنْفَعُهُمْ، وَيَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ خَيْرٌ مِنَ الَّذِي لَا يُخَالِطُهُمْ وَلَا يَصْبِرُ عَلَى أَذَاهُمْ، كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ.
وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْ خُلْطَةِ النَّاسِ الْيَوْمَ هِيَ مِنْ فُضُولِ الْخُلْطَةِ وَرَدِيئِهَا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ فِيهَا إِلَّا السُّكُوتُ عَلَى مُنْكَرٍ حَاضِرٍ لَكَانَ ذَلِكَ كَافِيًا فِي ذَمِّهَا. قَالَ يَحْيَي بْنُ أَبِي كَثِيرٍ: «مَنْ خَالَطَ النَّاسَ دَارَاهُمْ، وَمَنْ دَارَاهُمْ رَاءَاهُمْ». وَقِيلَ لِابْنِ المُبَارَكِ: «مَا دَوَاءُ الْقَلْبِ؟ فَقَالَ: قِلَّةُ المُلَاقَاةِ لِلنَّاسِ».
نَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى أَنْ يُزَكِّيَ قُلُوبَنَا بِالْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَأَنْ يُجَنِّبَنَا مَا لَا يَنْفَعُنَا مِنَ الْفُضُولِ، وَأَنْ يَمُنَّ عَلَيْنَا بِالْقَبُولِ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا....
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِمْ وَاقْتَفَى أَثَرَهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ (وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ) [البقرة: 281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: كَثِيرٌ مِنَ الْخَلَلِ الْوَاقِعِ عِنْدَ النَّاسِ فِي عِبَادَاتِهِمْ وَتَزْكِيَةِ نُفُوسِهِمْ، وَمَا يُعَانُونَهُ مِنْ قَسْوَةِ قُلُوبِهِمْ سَبَبُهُ اشْتِغَالُهُمْ بِالْفُضُولِ، حَتَّى جَاوَزَ كَثِيرٌ مِنْهُمُ المُبَاحَاتِ إِلَى المُحَرَّمَاتِ، فَمَا يَجِدُ أَكْثَرُهُمْ لِلْإِيمَانِ حَلَاوَةً، وَلَا لِلْعِبَادَةِ لَذَّةً، وَلَا لِلْقُرْآنِ طَعْمًا.
هَذَا؛ وَانْغِمَاسُ الْعَبْدِ فِي فُضُولِ شَيْءٍ وَاحِدٍ يَقُودُهُ إِلَى فُضُولٍ فِي غَيْرِهِ، فَفُضُولُ الطَّعَامِ يُؤَدِّي إِلَى فُضُولِ الْكَلَامِ وَالنَّظَرِ وَالنَّوْمِ.. وَكُلُّهَا سَبَبٌ لِقَسْوَةِ الْقَلْبِ.
وَبِذَا نَعْلَمُ أَنَّ مِنْ حِكْمَةِ الصِّيَامِ تَصْفِيَةَ الْجَسَدِ وَالْقَلْبِ مِنَ الْفُضُولِ؛ لِيَتَهَيَّأَ الْعَبْدُ لِلسُّمُوِّ وَالْعُلُوِّ عَنْ حُظُوظِ الْجَسَدِ إِلَى صَلَاحِ الْقَلْبِ وَاسْتِقَامَتِهِ، وَقَدْ لَمسَ الصَّائِمُونَ وَقْتَ صِيَامِهِمْ رِقَّةَ قُلُوبِهِمْ لمَّا خَلَتْ أَجْوَافُهُمْ مِنْ فُضُولِ الطَّعَامِ، وَصَارَ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ وَقْتَ صِيَامِهِ يَجْتَنِبُ فُضُولَ الْكَلَامِ، وَيَشْتَغِلُ بِالْقُرْآنِ، وَلَا يَجْتَرِئُ عَلَى فُضُولِ النَّظَرِ وَهُوَ صَائِمٌ؛ خَوْفًا مِنْ تَدْنِيسِ صِيَامِهِ، وَهُوَ مُسْتَحْضِرٌ قَوْلَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: «مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ وَالجَهْلَ، فَلَيْسَ لِلهِ حَاجَةٌ أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ».
إِنَّنَا -يَا عِبَادَ اللهِ- قَدْ تَعَلَّمْنَا مِنْ رَمَضَانَ تَرْكَ فُضُولِ النَّظَرِ وَالْكَلَامِ وَالنَّوْمِ وَالطَّعَامِ وَالْخُلْطَةِ، وَوَجَدْنَا لِرَمَضَانَ لَذَّةً قَلَّمَا نَجِدُهَا فِي غَيْرِهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُحَافِظَ بَعْدَ رَمَضَانَ عَلَى مَا تَعَلَّمْنَا مِنْ تَرْكِ الْفُضُولِ.
وَقَدْ شَرَعَ اللهُ تَعَالَى صِيَامَ النَّافِلَةِ الْأُسْبُوعِيِّ وَالشَّهْرِيِّ وَالسَّنَوِيِّ؛ لِيَسْتَمِرَّ تَرْكُ الْفُضُولِ مَعَ الْعَبْدِ دَهْرَهُ كُلَّهُ؛ وَذَلِكَ لِتَصْفُوَ قُلُوبُنَا، وَتَزْكُوَ نُفُوسُنَا، وَتَخْلُوَ أَجْسَادُنَا مِنْ زَوَائِدَ تَضُرُّهَا وَلَا تَنْفَعُهَا، وَقَدْ نَدَبَنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى صِيَامِ سِتَّةِ أَيَّامٍ مِنْ شَوَّالٍ، فَمَنْ صَامَهَا مَعَ رَمَضَانَ كَانَ كَمَنْ صَامَ الدَّهْرَ كُلَّهُ كَمَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا...