المنان
المنّان في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من المَنّ وهو على...
العربية
المؤلف | مازن التويجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
أيها الإخوة المؤمنون: إن الشدائد في طريقنا لن تخطئنا، ولن نخطئها، وإن خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء. والصحة رخاء، الشباب رخاء، المال رخاء، الأمن رخاء، الفراغ رخاء، القوة رخاء، فهل نعرف الله في هذا الرخاء. وأما الشدائد، فقد...
الخطبة الأولى:
أيها المؤمنون: كم مضى من عمر الحياة! وكم سلف من العصور! وكم تقلب من الدهور! أمم على إثرها أمم، وأجيال تعقب أجيالاً، ورجال على إثر رجال، أحوال متباينة، وصور متغايرة، وأمور تدار، والله يخلق ما يشاء ويختار.
فتعالَ نستخبر الخبر كي نستقي العبر.
اسألوا التاريخ إذ فيه العبر | ضل قوم ليس يدرون العبر |
هذا يونس بن متّى نبي الله يسقط في لجج البحار فيبتلعه الحوت فهو في ظلمة جوف الحوت في ظلمة جوف البحر في ظلمة الليل، في ظلمات ثلاث، فلا أحد يعلم مكانه، ولا أحد يسمع نداءه، ولكن يسمع نداءه من لا يخفى عليه الكلام، ويعلم مكانه من لا يغيب عنه مكان، فدعا وقال وهو على هذه الحال: (أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ)[الأنبياء: 87].
فسمعت الملائكة دعاءه، فقالت: "صوت معروف في أرض غريبة، هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة".
فيجيء الجواب الإلهي له: (فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ)[الصافات: 144].
أتاه الجواب بالنجاة: (وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88].
قال الحسن البصري: "ما كان ليونس صلاة في بطن الحوت، ولكن قدم عملاً صالحًا في حال الرخاء فذكره الله في حال البلاء، وإن العمل الصالح ليرفع صاحبه فإذا عثر وجد متكأً".
وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة"[رواه أحمد في المسند ح (2800)].
وفي البحر قصص أخرى، وعبر تترى؛ فهذا الطاغية فرعون يدركه الغرق فيدعو بالتوحيد: (آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)[يونس: 90].
وسمعت الملائكة دعاءه فنزل جبريل إليه سريعًا، منجدًا؟ لا .. مغيثًا؟ لا، وإنما يأخذ من حال البحر ووحله فيدسه في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
وبعدها آتاه الجواب: (آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)[يونس: 91].
لقد سمعت الملائكة دعاء كلا المكروبين، ولكن فرق عظيم، فالأول: تقول فيه: "صوت معروف في أرض غريبة، هذا يونس لم يزل يرفع له عمل صالح ودعوة مستجابة".
وأما الآخر، فينزل جبريل يدس الوحل في فيه خشية أن تدركه الرحمة.
يا ترى! ما الفرق بين الحالين، والكرب واحد، والصورة واحدة؟! إن الفرق واضح، والبون شاسع.
فرق بين من عرف الله في الرخاء ومن ضيعه، فرق بين من أطاع الله في الرخاء ومن عصاه.
فيونس؛ رخاؤه صلاة ودعاء ودعوة.
وفرعون؛ رخاؤه ظلم وفسق وكفر وجحود.
وأما رسول الله -عليه السلام- فيقول: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
ولا يزال لطيف صنع الله -عز وجل- بأوليائه وعباده الصالحين يتوالى عليهم في حال الشدائد والكرب، فيفرج كربهم، وينفِّس شدائدهم حيث كان لهم مع الله معاملة في الرخاء.
فهذا نبي الله أيوب، كان كثير المال، من سائر صنوفه وأنواعه، من العبيد والأنعام والمواشي والأراضي، وكان له أولاد كثير وأهلون، فسلب ذلك كله وابتلي في جسده بأنواع البلاء، لم يبق منه عضو سليم سوى قلبه ولسانه يذكر بهما ربه.
وطال مرضه حتى عافه الجليس، وأوحش منه الأنيس، ولم يبق أحد يحنو عليه سوى زوجته، ترعى له حقه، فضعفت حالها وقل مالها، حتى كانت تخدم الناس بالأجر ثم عافها الناس لما عرفوا أنها زوجة أيوب خشية أن تعديهم، وكانت تقول له: يا أيوب لو دعوت ربك لفرج عنك. فقال: قد عشت سبعين سنة صحيحًا، فهل قليل لله أن أصبر له سبعين سنة، ولما عافهما الناس اضطرت أن تبيع ظفائرها، فعندما علم أيوب بذلك نادى ربه: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)[الأنبياء: 83].
فيأتيه الجواب: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ)[الأنبياء: 84].
وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
وزكريا يدخل على مريم، فيجد عندها رزقًا، يجد عندها فاكهة لم يأتِ أوان حصادها بعد، قال: (أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ)[آل عمران: 37].
ورجع زكريا وفكر ورأى، فإذا هو طاعن في السن وامرأته مع كبر السن عقيم لا تلد، ولكن!! الذي يرزق الشيء في غير أوانه قادر على أن يرزقه ولدًا وإن كان طاعنًا في السن وامرأته عاقر.
قال بعض السلف: "قام من الليل فنادى ربه مناداة أسرها عمن كان حاضرًا عنده فخافته فقال: يا رب، يا رب، يا رب، فقال الله: لبيك لبيك لبيك، قال: (رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا)[مريم: 4].
(هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاء) [آل عمران:38].
فجاءه الجواب على الفور: (يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا)[مريم: 7].
لماذا هذا؟ وكيف حصل؟!
لا تسل، وحسبك أن تقول إنه عرف الله في الرخاء، فعرفه الله في حال الشدة والكرب والحاجة.
وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
ثم استخبر خبر الثلاثة من بني إسرائيل الذين قص النبي -عليه السلام- قصتهم، وأخبر خبرهم، يوم أن آواهم المبيت إلى غار فتدهدهت عليهم صخرة عظيمة أغلقت فم الغار، فإذا الغار صندوق مغلق محكم الإغلاق، مقفل موثق الإقفال.
إن نادوا فلن يسمع نداؤهم، وإن استنجدوا فلا أحد ينجدهم، وإن دفعوا فسواعدهم أضعف وأعجز من أن تدفع صخرة عظيمة سدت باب هذا الغار، وكانت كربة، وكانت شدة، فلم يجدوا وسيلة يتوسلون بها في هذه الشدة إلا أن يتذكروا معاملتهم في الرخاء، فدعوا الله في الشدة بصالح أعمالهم في الرخاء.
دعا أحدهم؛ ببره والديه، يوم أتى فوجدهما نائمين، وطعامهما قدح من لبن في يده، وصبيته يتضاغون من الجوع، وكان بين خيارين إما أن يوقظ الوالدين من النوم، وإما أن يطعم الصبية!! فلم يختر أيًا من هذين الخيارين، ولكن اختار خيارًا ثالثًا وهو أن يقف والقدح على يده والصبية يتضاغون عند قدميه، ينتظر استيقاظ الوالدين الكبيرين، والوالدان يغطان في نوم عميق حتى انبلج الصبح وأسفر الفجر فاستيقظا، وبدأ بهما وأعرض عن حنان الأبوة وقدم عليه حنان البنوة على الأبوة فشرب أبواه وانتظر بنوه.
"اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه".
ثم دعا الآخر؛ فتوسل إلى الله بخشيته لله ومراقبته يوم أن قدر على المعصية، وتمكن من الفاحشة ووصل إلى أحب الناس إليه، ابنة عمه، بعد أن اشتاق إليها طويلاً وراودها كثيرًا وحاول فأعيته المحاولة، حتى إذا أمكنته الفرصة واستطاع أن يصل إلى شهوته وينال لذته خاطبت فيه تلك المرأة مراقبة الله، فقالت: اتق الله ولا تفض الخاتم إلا بحقه، فارتعد القلب واقشعر الجلد، ووجفت النفس وتذكر مراقبة الله -تعالى- فوقه، فقام عنها، وهي أحب الناس إليه وترك المال الذي أعطاها.
"اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه".
ودعا الثالث؛ فتوسل بعمل صالح قربه، وهو الصدق والأمانة، حيث استأجر أجراء فأعطاهم أجرهم، وبقي واحد لم يأخذ أجره فنمّاه وضارب فيه، فإذا عبيد وماشية وثمر.
ثم جاء الأجير بعد زمن طويل، يقول: أعطني حقي.
لقد كان يستطيع أن يقول: هذا حقك أصوعٌ من طعام، ولكنه كان أمينًا غاية الأمانة، نزيهًا غاية النزاهة، فقال: حقك ما تراه، كل هذا الرقيق، وكل هذه الماشية، كلها لك، فكانت مفاجأة لم يستوعبها عقل هذا الأجير الفقير، فقال: "اتق الله ولا تستهزئ بي" فقال: يا عبد الله إني لا أستهزأ بك، إن هذا كله لك، فاستاقه جميعًا، ولم يترك له شيئًا.
"اللهم إن كنت تعلم أني فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه".
وتنامت دعواتهم، وتنامت مناجاتهم، فإذا الشدة تفرج والضيق يتسع، وإذا النور يشع من جديد فيخرجون من الغار يمشون[قصة أصحاب الغار رواها البخاري ومسلم].
وأما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فيقول: "تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".
التعرف على الله بالتزلف إليه بالنوافل والقربات في حال الرخاء.
وكما كشف عن الأفراد كروب وفرجت شدائد؛ لأنهم عرفوا الله في الرخاء، فكذا تفرج عن الأمة كروب وتنفس عنهم شدائد إذا عرفوه في الرخاء.
أما طاف الأحزاب بالمدينة وهم عشرة آلاف، والمسلمون ثلاثة آلاف، وكانت شدة فرجت عن قوم عرفوا الله في الرخاء، فأرسل الله الريح فاقتلعت الخيام، وكفأت القدور، وإذا بالجيش يرتحل من غير نزال ولا قتال.
أمَا نزل التتار حول دمشق فطوقوها كما يطوق اللجام رأس الفرس، فما خرج إليهم جيش ولا احتشدت أمامهم حشود الجنود، ولكن أنزل الله الجليد وكثر عليهم الثلج وكأنما يقول لهم: (لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا)[الأحزاب: 13].
ونحن اليوم نعيش شدة تعيشها الأمة، تدكها دكًا.
فنعرف أن الأمة اليوم تدفع الثمن الباهظ ثمن غفلة طويلة ونسيان لله، وطول صدود عنه، فها نحن ندعو في الشدة، ندعو في الشدة، ندعو في الشدة، ولكن طالما أطلنا التفريط في الرخاء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بهدي سيد المرسلين محمد -صلى الله عليه وآله وصحبه أجمعين-.
الخطبة الثانية:
أيها الإخوة المؤمنون: إن الشدائد في طريقنا لن تخطئنا، ولن نخطئها، وإن خير ما نلقى به هذه الشدائد معرفة الله في الرخاء.
والصحة رخاء، الشباب رخاء، المال رخاء، الأمن رخاء، الفراغ رخاء، القوة رخاء، فهل نعرف الله في هذا الرخاء.
وأما الشدائد، فقد تخطئنا شدة الفقر، فلا نفتقر، وقد تخطئنا شدة المرض فلا نمرض، ولكن لن تخطئنا الشدة التي لا أشد منها، هل يخطئنا الموت؟! وهل أشد منه؟ وهل كرب أعظم منه؟
ولكنها شدة تفرج بمعرفة الله في الرخاء، وإن ربنا أكرم وأرحم وأبر من أن يخذل عبدًا عند ذل ذلك المصرع، وهو قد تعرف عليه حال الرخاء: (إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)[فصلت: 30].
قال بعض السلف: "يدخل هؤلاء الجنة، وإن لذة الفرحة لا تزال في قلوبهم يوم بشروا عند الموت بالجنة".
أمامنا شدة لن تخطئنا ولن نخطئها، أمامنا شدة القبر، وشدة الحشر، وشدة العرض، وشدة المنقلب إما إلى جنة وإما إلى نار.
هذه شدائد نحن أحوج ما يكون إلى أن يعرفنا الله فيها.
إن من عرف الله في الرخاء يدخل الجنة، ويقول عند دخولها: (إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ)[الطور: 28].
أما المعرضون عن ربهم في الرخاء، فيعرضون على النار ويقال لهم: (أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ)[الأحقاف: 20].
يا عبد الله: "احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده أمامك، تعرف على الله في الرخاء يعرفك في الشدة".