الخلاق
كلمةُ (خَلَّاقٍ) في اللغة هي صيغةُ مبالغة من (الخَلْقِ)، وهو...
العربية
المؤلف | محمد أكجيم |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أهل السنة والجماعة |
في ظلال الفضيلة منعة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذل وهوان. وإذا هُدم للفضيلة حصنها، وإذا ضُيِّع أمر الله، فكيف تُستنكَر الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب، وألوان الاعتداء؟! وإن العقول السليمة، والفِطَر السوية المستقيمة، بله الشرائع السماوية كلها: تقضي بأن حفظ العرض وصيانة الكرامة، ضرورة من ضرورات العمران البشري، وإلا أصابه الخراب والفساد...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
وبعد: فلقد شاء الله - تعالى- بحكمته أن يظل وجود الإنسان في الأرض، زمانًا بعد زمان، وجيلاً بعد جيل، يخلف بعضهم بعضًا؛ ابتلاء واختبارًا في عبادة الله وطاعته، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها؛ فخلق –سبحانه- الزوجين الذكر والأنثى، وجعل في كل منهما غريزة الميل إلى الآخر، ووضع لهذه الغريزة حدودًا تحدها، وضوابط تضبطها وتهذبها؛ تصرفها في السبيل الحلال، وتجنبها سبل الحرام.
وإن العقول السليمة، والفِطَر السوية المستقيمة، بله الشرائع السماوية كلها: تقضي بأن حفظ العرض وصيانة الكرامة، ضرورة من ضرورات العمران البشري، وإلا أصابه الخراب والفساد. ففي الحديث: "لم تظهر الفاحشة في قوم حتى يعلنوا بها إلا فشا فيهم الطاعون والأوجاع التي لم تكن مضت في أسلافهم" (سنن ابن ماجه، 4019، وحسنه الألباني).
وهذه الدراسات الطبية، والمؤسسات الصحية العالمية؛ تخبر العالم من حين لآخر بما تحار فيه الألباب وتذهل له العقول.
وفي الناحية الاجتماعية: فما شاع الزنا في مجتمع إلا انهار فيه نظام الأسرة، وما يرتبط به من واجبات اجتماعية وتكافلية، ولا تسل حينها عن كثرة اللقطاء؛ الذين لا يعرف لهم آباء يسألون عنهم، وإذا كثر اللقطاء،كثر الجانحون والمتشردون؛ فأصبحوا مادة لإفساد المجتمع.
من أجل ذلك، حفظ الله المجتمع المسلم عن انتشار الزنا، بما شرعه من ضمانات وقائية، وأحكام شرعية، تجنب هذه الفاحشة، وتقاوم وقوعها في مجتمع الطهر والعفاف.
ففي فاتحة سورة "النور" - بعد أن ذكر الله –سبحانه- شناعة جريمة الزنا - ذكر –سبحانه- من فاتحتها إلى تمام ثلاث وثلاثين آية منها: أربع عشرة وسيلة وقائية.
منها: أنه - سبحانه- حرّم على المؤمنين زواج الزانيات، وتزويج الزواني إلا بعد التوبة، ومعرفة الصدق فيها، فقال تعالى: (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) [النور: 3].
- طهّر العين من النظر إلى المرأة الأجنبية، ومنها إلى الرجل الأجنبي، فقال تعالى: (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ) [النور: 30 - 31].
- حرّم إبداء المرأة زينتها للأجانب عنها، فقال تعالى: (وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) [النور: 31].
- منع ما يحرّك الرجل ويثيره؛ كضرب المرأة برجليها، أو خضوعها بقولها، فقال تعالى: (وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ) [النور: 31].
وقال سبحانه: (فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا) [الأحزاب: 32]، أدب المؤمنة وهي ترفع رِجلاً وتضع أخرى، أدبّها حتى في نبرات صوتها.
أمر بالاستعفاف من لا يستطيع الزواج، وندب إلى فعل الأسباب لتحصيل القدرة عليه؛ فقال تعالى: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ) [النور: 33].
وفي السنة النبوية الشريفة تدابير وقائية أخرى.
منها : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حرّم الخلوة بالأجنبية، حيث قال: "لا يخلون رجل بامرأة إلا كان الشيطان ثالثهما" (سنن الترمذي رقم 1171 وصححه الألباني).
عباد الله، وأعظم الضمانات وقاية للمجتمع من شيوع الفاحشة: فرض الحجاب على نساء المؤمنين، بنص قوله - تعالى- في سورة النور: (وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ) [النور: 31].
وقوله - تعالى- في سورة الأحزاب: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الأحزاب: 59].
يقول العلماء: قوله تعالى: (ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ) دليل على وجود الأذية إذا لم يحتجبن؛ لأنهن إذا لم يحتجبن، ظُنّ أنهن غير عفيفات؛ فيتعرض لهن من في قلبه مرض.
عباد الله، لقد أجمل الله سبحانه ما سبق تفصيله من الضمانات وغيرها، وما يترتب على تعديها من مفاسد صحية واجتماعية في أبلغ عبارة وأوضح بيان، لو ما أنزل الله في كتابه غيره، لكفى تنبيها لأولي الألباب؛ حيث قال تعالى: (وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا) [الإسراء: 32].
الخطبة الثانية:
الحمد لله...
أما بعد: فإن آخر حصن ومعقل لحفظ العرض وصيانة الكرامة وحراسة الفضيلة، ما أودعه الله - تعالى- في نفس كل آدمي من غيرته على الأعراض؛ غيرة النساء على أعراضهن وشرفهن، وغيرة أوليائهن عليهن، وغيرة المؤمنين أن تُنَال الحرمات أو تُخدَش بما يجرح كرامتها وعفتها.
الغيرة في القلب مثل القوة في البدن، تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت، أصبح البدن قابلاً للأمراض، فتتمكن منه فيكون الهلاك.
والعرب في جاهليتهم قبل الإسلام، لم يكونوا يعرفون في حفظ العرض هوادة، ولا في صيانة الكرامة مواربة، حتى تجاوزوا في الغيرة حدودها، إلى كراهة أن يلدوا البنات، إلى وأدهن وهن على قيد الحياة، إلى حروب تنشب بينهم، شرارتها: تعدٍّ على عرض أو إهانة لكرامة.
ويوم أن جاء الإسلام أقر هذه الغيرة وهذّبها وطهّرها ونقاها مما خرج بها عن حدها واعتدالها؛ فشجع على الرغبة في إنجاب البنات بدلاً من كراهيتهن، حيث قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: «من كان له ثلاث بنات فصبر عليهن، وأطعمهن، وسقاهن، وكساهن من جدته كن له حجابًا من النار يوم القيامة» (سنن ابن ماجة رقم 3669 وصححه الألباني).
وميَّز النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يُحمَد من الغيرة وما يذم؛ حيث قال: «إن من الغيرة ما يحب الله -عز وجل-، ومنها ما يبغض الله -عز وجل-، فأما الغيرة التي يحب الله عز وجل: فالغيرة في الريبة، وأما الغيرة التي يبغض الله عز وجل: فالغيرة في غير ريبة» (سنن النسائي رقم 2558 وحسنه الألباني).
عباد الله، وإذا كان الإفراط في الغيرة مذمومًا، فإن التفريط فيها أشد ذمًّا؛ لأن ضعف الغيرة في الإنسان أو انعدامها، يجعله أحط من العرب في جاهليتهم قبل الإسلام، بل وأحط من بهيمة الأنعام التي تغار بغريزتها؛ فذكور الماعز تغار، والديكة والإبل والقردة يغارون، وهذا أمر معلوم مشاهد لدى الناس.
وسبب ضعف الغيرة أو انعدامها: كثرة ملابسة الذنوب والمعاصي. يقول العلماء: "وكلما اشتدت ملابسة المرء للذنوب، أخرجت من نفسه الغيرة على نفسه وأهله وعموم الناس، وقد تضعف جدًّا حتى لا يستقبح بعد ذلك قبيحًا، لا من نفسه ولا من غيره، وإذا وصل إلى هذا الحد، فقد دخل في باب الهلاك. ففي الحديث: «ثلاثة لا ينظر الله -عز وجل- إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه، والمرأة المترجلة، والديوث» (سنن النسائي رقم 2562 وقال الألباني: حسن صحيح). والديوث: هو من يقر الفحش في أهله، ولا غيرة له عليهم.
عباد الله، في ظلال الفضيلة منعة وأمان، وفي مهاوي الرذيلة ذل وهوان. وإذا هُدم للفضيلة حصنها، وإذا ضُيِّع أمر الله، فكيف تُستنكَر الخيانات البيتية، والشذوذات الجنسية، وحالات الاغتصاب، وألوان الاعتداء؟!
يقول تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا * يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا) [النساء: 26- 28].
حفظ الله لنا وللمسلمين العِرْض والكرامة، وثبت في قلوبنا الغيرة على الحرمات، ووقانا سبل الردى والهلكات.