البحث

عبارات مقترحة:

الوكيل

كلمة (الوكيل) في اللغة صفة مشبهة على وزن (فعيل) بمعنى (مفعول) أي:...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

السبوح

كلمة (سُبُّوح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فُعُّول) من التسبيح،...

مبادئ الإسلام في الحرب والسلام (2)

العربية

المؤلف عبد العزيز بن عبد الله السويدان
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات كتاب الجهاد - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. مخاطر غياب الإسلام عن المشهد الحضاري .
  2. مناخ كئيب شكَّلته الحضارة الغربية .
  3. مبادئ الإسلام في الحرب .
  4. شرط إباحة الحرب في الإسلام .
  5. ضرورة الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو .
  6. وصايا السلف الصالح للمجاهدين في سبيل الله .

اقتباس

لا خيار للمسلم في عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو، وإن كان العدو لم يلتزم بها حتى إن لم يلتزم بها، ولا خيار للمسلم في عدم الوقوف عند حدود الله وإن كان عدوه المحارب تجاوز هذه الحدود.. هذا هو مفهوم التقوى الذي نقرأه في آيات القتال، فإذا مثَّل محارب الكفار بقتلى المسلمين إذا مثلوا بهم، فلا يجوز للمسلمين معاملتهم بالمثل، وإذا قتل الأعداء نساء المسلمين وصبيانهم أو غير المقاتلين منهم، فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا نساء الأعداء أو صبيانهم أو غير المقاتلين منهم.

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70-71].

 

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم- وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

تكلمنا فيما تقدم عن الحضارة الغربية المعاصرة التي تمكنت من العالم في زماننا بعد الحرب العالمية الأولى، ثم اكتملت بعد الحرب الثانية، وأن غياب الإسلام عن المشهد الحضاري لأكثر من قرن كان له عواقبه الوخيمة على الناس أجمعين؛ حروب ظالمة، ومذابح بشرية، وقتل بالملايين، كل هذا مغلّف بغشاء جميل من التقنيات الإبداعية والصناعات الحديثة والمظاهر الأخرى الفاتنة للحضارة الغربية.

 

لكن الحقيقة تُسفر عن وجهها عند الملمات؛ فإنه كما هو الحال اليوم حينما تسود مصالح الدول الكبرى على كل عُرف فطري وكل خُلق كريم فتكون مصالحها المادية الجشعة مقدمة على كل شيء، ولو على حساب أرواح الأبرياء والضعفاء، تحكم حينها شريعة الغاب فلا نصيب في الغابة إلا للقوي، أما الضعيف فمظلوم مكسور مهضوم لا يملك إلا الخوف الذي يسكن قلبه، ولا يكاد يفارقه ليل نهار، يلتفت يمنة ويسرة لا يدري متى ينقض عليه المفترس.

هكذا هو عالم الغاب، وهو واقع الحضارة المعاصرة، لكن بأسلوب ماكر غادر.

 

إن هذا المناخ الكئيب الذي شكَّلته هذه الحضارة هو الذي سبب الاحتقان العالمي، وهو الذي أعان على إفراز ظاهرة الغلو وحب الانتقام، هذا هو منهج الحضارة وطرف من مبادئها في الحرب، فما هي مبادئ الإسلام في الحرب.

 

معاشر الإخوة: ذكرنا من قبل الآية الكريمة التي اشتملت على ثلاثة مبادئ حددها الإسلام في الحرب (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190]، وليس الكلام عن الناسخ والمنسوخ في آيات تشريع القتال وإنما المقصود المبادئ الإسلامية في ذلك التشريع فما معنى (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ

 

أما من حيث المعنى فمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله، وأما من الناحية العملية فقد عرضت الآيات الآتية صورًا يمكن الاهتداء بها لتحديد ما هو في سبيل الله.

 

ابتداءً يجب أن يكون شرط إباحة الحرب وشروط مباشرة الحرب في الإسلام على النحو التالي:

الأول: رد العدوان، قال تعالى: (الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [البقرة:194].

 

وقال تعالى: (أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ)، وقال تعالى (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ) [الشورى:39]، وقال تعالى (وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا) [الشورى: 40]، وقال تعالى: (وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) [الشورى:41]، وقال عز وجل: (وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ) [التوبة:36] وقال تعالى: (فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ) [البقرة: 191].

هذه آيات القرآن الكريم، الدفاع ورد العدوان يبحان أو يوجبان مباشرة الحرب.

 

الشرط الثاني من شروط إباحة الحرب: الدفاع ضد الظلم وحماية المظلومين، قال تعالى (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ) [الحج: 39 - 40]، (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ) أي: أُذن لهم بالقتال.

 

وقال تعالى: (وَمَا لَنَا أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) [البقرة: 246]، هذا ظلم، وقال تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ) [الحجرات:9]، البغي ظلم.

 

وقال تعالى: (وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيرًا) [النساء:75].

 

وقال تعالى: (وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ) [الأنفال: 72]، فصد الظلم وحماية المظلوم ونصره على الظالم مما يشرع للحرب.

 

الشرط الثالث: الدفاع ضد الإفساد في الأرض، قال تعالى: (إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ * إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [المائدة: 33- 34].

 

وقال تعالى: (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251]، وقال سبحانه: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) [الحج:40].

 

الشرط الرابع: القتال لحماية حق الإنسان في اختيار التوحيد، بأن يكون الله هو إلهه لا إله سواه وهذا الحق يقع على رأس حقوق الإنسان في الإسلام؛ لأنه الغاية من الحياة، يقول تعالى (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56]، وقال تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ)[آل عمران: 64].

 

وقد فهم الصحابة والمسلمون من بعدهم في القرون الأولى أن مهمتهم الكبرى إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها؛ كما عبر عن ذلك الصحابي الجليل ربيعي بن عامر في مفاوضات المسلمين مع الفرس في حرب القادسية، لما سأله رستم ما جاء بكم؟

 

فقال ريبعي: "الله ابتعثنا لنخرج من العباد من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، فأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه فمن قَبِل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضيَ إلى موعود الله ".

 

فمنع الإنسان من التوحيد أشد من قتله، ولذلك قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ) [البقرة: 217]، وقال تعالى:  (وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ) [البقرة:191].

 

قال الإمام الطبري في تفسير قوله تعالى: (وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ) أي: الشرك بالله أشد من القتل، قال: وقد بينت أن أصل الفتنة الابتلاء والاختبار، فتأويل الكلام وابتلاء المؤمن في دينه حتى يرجع عنه فيصير مشركًا بالله من بعد إسلامه أشد عليه وأضر من أن يُقتل مقيمًا على دينه متمسكًا عليه.

 

وقال الإمام القرطبي في تفسير الفتنة "التي حملوكم عليها وراموا رجوعكم بها إلى الكفر أشد من القتل"، وفي تفسير والفتنة أكبر من القتل قال مجاهد وغيره: "الفتنة هنا الكفر"، وقال الجمهور: معنى الفتنة هنا فتنة المسلمين عن دينهم حتى يهلكوا أي: أن ذلك أشد إجراما من قتلكم في الشهر الحرام.

 

وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) [البقرة: 193]، أخرج البخاري في تفسير هذه الآية عن نافع أن رجلا أتى ابن عمر فقال: يا أبا عبدالرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ) قال "فعلنا على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكان الإسلام قليلاً، فكان الرجل يُفتن عن دينه إما قتلوه وإما يعذبونه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة" أي: أن النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة قاتلوا من منعوا الناس الدخول في الإسلام حتى كثر الإسلام.

هذه هي الدوافع والشروط الشرعية للقتال.

 

المبدأ الثاني: أن يكون القتال ضد من يقاتل كما في الآية (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ) [البقرة: 190]، أما من لم يقاتل فليس للمسلم أن يقابله بالسيف، قال تعالى: (وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ) [الأنفال: 60] إلى قوله: (وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال:61].

 

وقال تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة:193]، قال الإمام الطبري عن مجاهد: "(فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) أي: لا تقاتلوا إلا مَن يقاتلكم، وقال في تفسير قوله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190]، عن سعيد بن عبدالعزيز قال: كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة إني وجدت آية في كتاب الله (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) أي: "لا تقاتل مَن لا يقاتلك"، وهو قول الإمام الطبري -رحمه الله تعالى-.

 

وقال تعالى: (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً) [النساء:90]، قال ابن كثير: "أي: فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك"، وقال تعالى: (فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُواْ إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوَاْ أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثِقِفْتُمُوهُمْ وَأُوْلَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُّبِينًا) [النساء:91].

 

فسر ابن كثير معنى "السلم" بالمسلامة والمهادنة والمصالحة" أي: إذا لم يهادنكم واستمروا في قتالكم قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) [الممتحنة:9].

 

إذاً فالمبدآن الأولان في الحرب في منهج الإسلام أن يكون القتال في سبيل الله لا في سبيل الدنيا، وأن نقاتل من يقاتلنا في جميع صور القتال.

 

بوركتم وبورك جمعكم وهدانا الله وإياكم صراطه المستقيم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه غفور رحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ومن سار على نهجه واهتدى بهداه إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فالمبدأ الثالث من مبادئ الإسلام في الحرب هو عدم تجاوز ضرورات الحرب، وذلك في قوله تعالى: (وَلاَ تَعْتَدُواْ)، وعدم الاعتداء في الآية يشمل البدء بالاعتداء أو رده عدوانا، وهذا المبدأ صعب على النفس يعني أن يصبر الإنسان عن مقابلة ظلم بالظلم نفسه، نعم يجوز لك أن ترد الظلم عن نفسك، لكن ترده بالحق لا بالظلم حتى لو ظلم الآخر، وخرج عن ما تقضيه الأخلاق الكريمة في عرف الإسلام، وقد صح في السنن من حديث حذيفة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تكون إمعة؛ تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا".

 

فلا خيار للمسلم في عدم الالتزام بالمعايير الأخلاقية الإسلامية في معاملة العدو وإن كان العدو لم يلتزم بها حتى إن لم يلتزم بها ولا خيار للمسلم في عدم الوقوف عند حدود الله وإن كان عدوه المحارب تجاوز هذه الحدود.

 

هذا هو مفهوم التقوى الذي نقرأه في آيات القتال، فإذا مثَّل محارب الكفار بقتلى المسلمين إذا مثلوا بهم، فلا يجوز للمسلمين معاملتهم بالمثل، وإذا قتل الأعداء نساء المسلمين وصبيانهم أو غير المقاتلين منهم، فلا يجوز للمسلمين أن يقتلوا نساء الأعداء أو صبيانهم أو غير المقاتلين منهم.

 

وقد أفاض المفسرون عند تفسيرهم للآية السابقة: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة:190]، أفاضوا في ذِكر ما ورد من النصوص عن الرسول -صلى الله عليه وسلم- وخلفائه تطبيقًا لهذه الآية من ذلك ما رواه مسلم عن بريدة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: كان إذا بعث جيشا يقول: "اغزوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثّلوا، ولا تقتلوا الوليد ولا أصحاب الصوامع".

 

فالغلول أخذ شيء من المغنم قبل قسمته في خُفية، والغدر نقض العهد، والمثلة تشويه الخِلقة، وروى مالك في الموطأ عن يحيى بن سعيد أن أبا بكر الصديق بعث جيوشا إلى الشام فخرج يمشي مع يزيد بن أبي سفيان فقال: "إِنَّكَ سَتَجِدُ قَوْمًا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لِلَّهِ، فَذَرْهُمْ وَمَا زَعَمُوا أَنَّهُمْ حَبَسُوا أَنْفُسَهُمْ لَهُ، وَسَتَجِدُ قَوْمًا، فَحَصُوا عَنْ أَوْسَاطِ رُءُوسِهِمْ مِنَ الشَّعَرِ، فَاضْرِبْ مَا فَحَصُوا عَنْهُ بِالسَّيْفِ، وَإِنِّي مُوصِيكَ بِعَشْرٍ: لَا تَقْتُلَنَّ امْرَأَةً، وَلَا صَبِيًّا، وَلَا كَبِيرًا هَرِمًا، وَلَا تَقْطَعَنَّ شَجَرًا مُثْمِرًا، وَلَا تُخَرِّبَنَّ عَامِرًا، وَلَا تَعْقِرَنَّ شَاةً، وَلَا بَعِيرًا إِلَّا لِمَأْكَلَةٍ، وَلَا تَحْرِقَنَّ نَحْلًا، وَلَا تُغَرِّقَنَّهُ، وَلَا تَغْلُلْ، وَلَا تَجْبُنْ".

 

هكذا هي الوصايا التي وصى بها أبو بكر -رضي الله عنه- في أيّ غزوة كانت في الإسلام .

وللحديث تتمة إن شاء الله تعالى ..

 

اللهم أصلح شأن المسلمين المجاهدين في كل مكان ..