العزيز
كلمة (عزيز) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعيل) وهو من العزّة،...
العربية
المؤلف | عبد الله بن علي الطريف |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الهدي والأضاحي والعقيقة |
هذه العشر المباركات أعظم أيام الدنيا، والأعمال الصالحة فيها خير من العمل في غيرها.. وأعظم عمل يؤدى فيها هو الحج، وهو ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، أما من لم يكتب له حجّ مع الحاجين فقد شرع الله له في هذه العشر أعمالاً صالحة يشارك فيها الحجاج، ومن أعظمها ذبح الأضاحي، وذبح الأضاحي شعيرة من شعائر الإسلام، مقصودها الأعظم التقرب على الله -تعالى- بالذبح، وليس المقصود منها الصدقة بلحمها على الفقراء، لكنه من بعض ما يقصد منها.
الخطبة الأولى:
الحمد لله القائل (قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 162]، وأشكره أن شرع لنا ذبح الأضاحي وجعله من شعائر الدين، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله أول المسلمين وإمام المتقين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً كثيراً..
أما بعد: فاتقوا الله -عباد الله-، واشكروه أن بلّغكم موسماً من أعظم مواسم الخيرات، فهذه العشر المباركات أعظم أيام الدنيا، والأعمال الصالحة فيها خير من العمل في غيرها.. وأعظم عمل يؤدى فيها هو الحج، وهو ركن من أركان الإسلام ومبانيه العظام، أما من لم يكتب له حجّ مع الحاجين فقد شرع الله له في هذه العشر أعمالاً صالحة يشارك فيها الحجاج، ومن أعظمها ذبح الأضاحي، قال الله –تعالى-: (قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ) [الأنعام:162، 163].
قال السعدي -رحمه الله-: "نُسُكِي أي: ذبحي، وذلك لشرف هاتين العبادتين الصلاة والذبح وفضلهما، ودلالتهما على محبة الله –تعالى-، وإخلاص الدين له، والتقرب إليه بالقلب واللسان والجوارح، وبالذبح الذي هو بذل ما تحبه النفس من المال، لما هو أحب إليها وهو الله –تعالى-، ومن أخلص في صلاته ونسكه، استلزم ذلك إخلاصه لله في سائر أعماله".
أحبتي! الذبح عبادة لله لا يجوز صرفها لغيره –سبحانه-، ومن صرفها لغيره فقد عرّض نفسه للطرد والإبعاد عن رحمة الله –تعالى-، فعن عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ -رضي الله عنه- قال: قَالَ: الرَسُولُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَعَنَ اللَّهُ مَنْ ذَبَحَ لِغَيْرِ اللَّهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ آوَى مُحْدِثًا، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ لَعَنَ وَالِدَيْهِ، وَلَعَنَ اللَّهُ مَنْ غَيَّرَ الْمَنَارَ الأرض". (رواه مسلم)، وصرفها لغير الله تقربًا وتعظيمًا شرك مخرج من الملة.
أيها الإخوة: قال شيخنا محمد العثيمين -رحمه الله-: "وقد اختلف العلماء في حكم الأضاحي؛ فمنهم من قال: بأنها واجبة. ومنهم من قال: إنها مستحبة. وأكثر أهل العلم على أنها مستحبة، وأنه يُكره للقادر تركها، ومذهب أبي حنيفة -رحمه الله- أنها واجبة على القادر، واختاره شيخ الإسلام ابن تيمية. والأضحية ليست عن الأموات كما يفهمه العوام، بل هي للأحياء".
ذبح الأضاحي شعيرة من شعائر الإسلام، مقصودها الأعظم التقرب على الله تعالى بالذبح، وليس المقصود منها الصدقة بلحمها على الفقراء، لكنه من بعض ما يقصد منها، ولذلك قال الله تعالى: (لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ) [الحج: 37]، أي: ليس المقصود منها ذبحها فقط. ولا ينال اللهَ من لحومها ولا دمائها شيء، لكونه الغني الحميد، وإنما يناله الإخلاص فيها، والاحتساب، والنية الصالحة، ولهذا قال: (وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ).
ففي هذا حثّ وترغيب على الإخلاص في النحر، وأن يكون القصد به وجه الله وحده، لا فخرًا ولا رياء، ولا سمعة، ولا مجرد عادة، وهكذا سائر العبادات، إن لم يقترن بها الإخلاص وتقوى الله، كانت كالقشور الذي لا لبّ فيها، والجسد الذي لا روح فيه (كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ) أي: تعظموه وتجلوه (عَلَى مَا هَدَاكُمْ) أي: مقابلة لهدايته إياكم، فإنه يستحق أكمل الثناء وأجل الحمد، وأعلى التعظيم.
أيها الأحبة: ذبح الأضاحي تقربًا لله مشروع في كل ملة وأمة، وعبادة من العبادات وفيه مصالح كثيرة في كل زمان ومكان وأمة قال الله -تعالى-: (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) [الحج:34] أي: ولكل أمة من الأمم السالفة جعلنا منسكًا، فاستبقوا إلى الخيرات وتسارعوا إليها، ولننظر أيكم أحسن عملاً، والحكمة في جعل الله لكل أمة منسكًا، لإقامة ذكره، والالتفات لشكره، ولهذا قال: (لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الأنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ) [الحج:34].
وإن اختلفت أجناس الشرائع، فكلها متفقة على هذا الأصل، وهو ألوهية الله، وإفراده بالعبودية، وترك الشرك به، ولهذا قال: (فَلَهُ أَسْلِمُوا) أي: انقادوا واستسلموا له لا لغيره، فإن الإسلام لله طريق إلى الوصول إلى دار السلام. (وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ) بخيري الدنيا والآخرة، والمخبت: الخاضع لربه، المستسلم لأمره، المتواضع لعباده.
أيها الإخوة: لقد ثبتت مشروعية الأضحية بقول النبي -صلى الله عليه وسلم- وفعله وإقراره، ففي الصحيحين عَنْ الْبَرَاءِ بن عازب -رضي الله عنه- قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلاةِ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ".
وقَسَمَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بَيْنَ أَصْحَابِهِ ضَحَايَا، فَصَارَتْ لِعُقْبَة بن عامر -رضي الله عنه- جَذَعَةٌ فَقُالْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ صَارَتْ لِي جَذَعَةٌ، قَالَ: "ضَحِّ بِهَا".
وعَنْ أَنَسٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "ضَحَّى النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم- بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ، فَرَأَيْتُهُ وَاضِعًا قَدَمَهُ عَلَى صِفَاحِهِمَا يُسَمِّي وَيُكَبِّرُ فَذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ" (رواه مسلم)، وثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- أنه كان يذبح أضحيته بالمصلى، فيأخذ منها ليأكل ويوزع الباقي على المحتاجين؛ يفعل ذلك إظهاراً للشعيرة، وتعليمًا للأمة، فصلوات ربي وسلامه عليه.
وأقام عليه الصلاة والسلام بالمدينة عشر سنين يضحّي كل عام، كما ذكر ذلك ابن عمر –رضي الله عنهما-.
أيها الإخوة: إن بذل المال في الأضاحي أفضل من الصدقة بها، وإن الأضحية سُنة مؤكدة جدًّا لمن يقدر عليها، فضحوا عن أنفسكم وأهليكم من الزوجات والأولاد والوالدين ليحصل الأجر للجميع، وتقتدوا بنبيكم -صلى الله عليه وسلم-؛ حيث ضحى عنه وعن أهل بيته.
ولقد كان بعض الناس يحرم نفسه، ويتحجر فضل ربه؛ حيث يضحي عن والديه فقط، ويدع نفسَه وأهله وذريته، والأولى أن يضحّي للجميع، وفضل الله واسع، وهذا فيما يضحّي به الإنسان من نفسه، أما الوصايا فيمشي فيها على نص الوصية.
أيها الإخوة: والأضحية من بهيمة الأنعام. إما من الإبل أو البقر أو الضأن أو المعز على اختلاف أصنافها، ولا تجزئ إلا بشرطين؛ الأول أن تبلغ السن المعتبر شرعًا، الثاني أن تكون سليمة من العيوب التي تمنع الإجزاء، فأما السن ففي الإبل خمس سنين، وفي البقر سنتان، وفي المعز سنة، وفي الضأن نصف سنة.
وأما العيوب التي تمنع من الإجزاء، فقد قال الْبَرَاء بْن عَازِبٍ -رضي الله عنه- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "سُئِلَ مَاذَا يُتَّقَى مِنَ الضَّحَايَا؟ فَأَشَارَ بِيَدِهِ وَقَالَ: أَرْبَعًا -وَكَانَ الْبَرَاءُ يُشِيرُ بِيَدِهِ وَيَقُولُ: يَدِي أَقْصَرُ مِنْ يَدِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم- الْعَرْجَاءُ الْبَيِّنُ ظَلْعُهَا، وَالْعَوْرَاءُ الْبَيِّنُ عَوَرُهَا، وَالْمَرِيضَةُ الْبَيِّنُ مَرَضُهَا، وَالْعَجْفَاءُ الَّتِي لَا تُنْقِي" (رواه مالك وصححه الألباني).
فالعرج البيّن هو الذي لا تستطيع البهيمة معه معانقة الصحيحات، والعور البيّن هو الذي تبرز معه العين أو تنخسف، فأما إذا كانت لا تبصر بها، ولكن لا يتبين العور فيها فإنها تجزئ ولكنها تكره، والمرض البين هو الذي يظهر أثره على البهيمة إما في أكلها أو مشيها أو غير ذلك من أحوالها، ومن الأمراض البيّنة الجرب، سواء كان قليلاً أو كثيرًا، والعجفاء الهزيلة التي لا مخّ فيها.
أما عيب الأذن والقرن؛ فإنه لا يمنع من الإجزاء، ولكنها تُكره كقطع الأذن وشقّها وكسر القرن، وأما سقوط الثنايا أو غيرها من الأسنان؛ فإنه لا يضر، أما مقطوعة الذَّنَب من الإبل والبقر والمعز فتجزئ مع الكراهة، أما مقطوعة الألية من الضأن فلا تجزئ في الأضحية؛ فإن كانت من نوع لا ألية له من أصل الخلقة؛ فلا بأس بها مع الكراهة.
وكلما كانت الأضحية أكمل في ذاتها وصفاتها وأحسن منظرًا فهي أفضل، فاستكملوها واستحسنوها، وطيبوا بها نفساً...
الخطبة الثانية:
ويجب أن تكون الأضحية في الوقت المحدد شرعاً للتضحية، وهو من بعد فراغ الإمام من صلاة العيد حتى غروب الشمس من اليوم الثالث عشر.. وعليه فأيام الذبح أربعة؛ يوم العيد، وثلاثة أيام بعده، ويسن أن ينتظر حتى يفرغ الإمام من الخطبة.
أيها الأحبة: والسُّنّة أن يذبح المسلم أضحيته بنفسه، وقد ترك بعض الناس مباشرة الذبح بنفسه واعتمد على الجزارين، ولم نُعلم أبناءنا الذبح، ومن تعلمه منا فقد تركه من أجل الراحة، وأحياناً يجلس أهل البيت وفيهم عدد من الرجال الراشدين، وربما انتصف النهار وهم ينتظرون الجزار ليذبح لهم، والأولى أن يذبحها في بيته أو مزرعته، ويشهدها الجميع.. وهذه دعوة للجميع أن يتعلموا ذبح الأضاحي، وأن نعلم أبناءنا ذلك.
أيها الإخوة: كثر السؤال عن الأضحية خارج البلاد، وإليكم إجابة الشيخ عبد العزيز بن باز في ذلك: "نص السؤال هل يجزي أن ندفع مبلغاً من المال لشراء أضحية، وذبح ذلك في الخارج للفقراء والمساكين؟ الجواب: لا حرج، سواءٌ ذبحها في بيته أو في الخارج، لكن إذا ضحى في بيته كان أفضل وأكل منها ووزع على من حوله؛ تأسياً بالنبي -صلى الله عليه وسلم- كونه يذبح الضحية في بيته ويأكل ويطعم. وإذا أحب أن يذبح ضحايا أخرى في محلِ فقراء في بلد أخرى، فله أجر ذلك. هذا من الصدقات". ا.هـ.
وبعد: هذه مواسم عظيمة لاكتساب الأجور الكبيرة؛ فلا تفرطوا فيها بأيّ عمل صالح؛ أسأل الله أن يتقبل منا، وأن يبلغنا العيد ونحن بصحة وعافية، وأن يديم علينا الأمن والأمان؛ إنه جواد كريم أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) [سورة الكوثر: 1- 3]، بارك الله.