الحفيظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحفيظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | خالد بن عبدالله الشايع |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المعاملات - الحكمة وتعليل أفعال الله |
الحذرَ الحذر من الربا، ولنتق الله في حدوده، وإياكم وتتبع الرُّخَص، ولا نغتر بقول العامة: ضع بينك وبين النار شيخًا، فالنار تسع الجميع، والواجب على المسلم أن يحتاط لدينه عند الخلاف، كيف والخلاف في الاكتتاب في البنك ضعيف جدًّا، ثم هو لا يسمن ولا يغني من جوع، ولو زخرفه الشيطان وأهل الباطل، فإن مصيره للمحق، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ).
الخطبة الأولى:
أما بعد فيا أيها الناس: لقد كشف الله لنا حال الدنيا بما لا مزيد عليه، وبيَّنها في أوضح صورة، فقال سبحانه: (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآَخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ) [غافر: 39]، وقال: (فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان: 33]، ويقول سبحانه (زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآَبِ) [آل عمران: 14].
وأكد على ذلك النبي -صلى الله عليه وسلم-، كما أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ الدُّنْيَا حُلْوَةٌ خَضِرَةٌ, وَإِنَّ اللَّهَ مُسْتَخْلِفُكُمْ فِيهَا, فَيَنْظُرُ كَيْفَ تَعْمَلُونَ؟ فَاتَّقُوا الدُّنْيَا, وَاتَّقُوا النِّسَاءَ, فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِي إِسْرَائِيلَ, كَانَتْ فِي النِّسَاءِ".
عباد الله: لقد كان الناس في زمن النبوة يعيشون في ضيق من العيش، وكانت الدنيا لا تساوي عندهم جناح بعوضة، همهم الآخرة، ورضا الرب جل في علاه، ولهذا لما فُتحت البحرين كما في الصحيحين، جاء منها مال كثير، فتعرض الصحابة للنبي -صلى الله عليه وسلم- بعد الصلاة، فلما رآهم ضحك ثم قال: "أظنكم سمعتم أن أبا عبيدة قدم بشيء من البحرين"؟ فقالوا: أجل يا رسول الله. قال: "فأبشروا وأملوا ما يسركم، فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى عليكم أن تبسط الدنيا عليكم كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم" وفي رواية: "وتلهيكم كما ألهتهم".
إذًا الخوف إنما هو من المال، لا من الفقر؟
ولقد كفى الله المؤمن همّ الرزق فلم يجعله إليه، بل جعله –سبحانه- لنفسه، فقال سبحانه (نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ) [الأنعام: 151] وقال: (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ) [الزخرف: 32] .
أخرج الحاكم في المستدرك، وصححه الشيخ الألباني في صحيح الجامع: "لا تستبطئوا الرزق، فإنه لم يكن عبد ليموت حتى يبلغه آخر رزق هو له، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب: أخذ الحلال، وترك الحرام".
فالمؤمن العاقل هو الذي يسعى لنجاته في الآخرة، ويكون همّه في الدنيا جمع الزاد الموصل لرضوان الله في الآخرة .
معاشر المسلمين: نحن في هذه الأزمنة لم تسلم أرزاقنا من الشُّبَه، ولهذا عُدم فينا من لو أقسم على الله لأبره، إلا من رحم الله، فكثر الدعاء وقلت الإجابة، وكثر البلاء وقلت العافية، وكثرت الأمراض وقل الشفاء، وغرق الناس في الدنيا ونسوا الآخرة، وقل منا من ينجو من ذلك.
وإن من أشراط الساعة ظهور الربا وفشوّه، فعن ابن مسعود أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "بين يدي الساعة يظهر الربا والزنى والخمر". (قال الهيثمي: رواه الطبراني في الأوسط، ورجاله رجال الصحيح).
والأمر لا يتوقف عند هذا الحد فحسب، بل إن الذي لا يتعامل به لا بد أن يجد شيئًا من غباره.
ففي مستدرك الحاكم وسنن أبي داود وابن ماجه والنسائي وغيرهم عن الحسن عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "ليأتين على الناس زمان لا يبقى فيه أحد إلا أكل الربا، فإن لم يأكله أصابه من غباره" قال الحاكم: وقد اختلف أئمتنا في سماع الحسن من أبي هريرة، فإن صح سماعه منه، فهذا حديث صحيح.
إذا عُلم هذا، فاعلم أن النبي أخبرنا أن الحرام سيطغى في آخر الزمان، حتى لا يتبين الناس ولا يستوثقون من حلّ وحرمة أموالهم، أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة قال -صلى الله عليه وسلم-: "ليأتين على الناس زمان لا يبالي المرء بما أخذ المال، أمن حلال أم من حرام".
وفي لفظ عند النسائي "يأتي الناس زمان ما يبالي الرجل من أين أصاب المال من حلال أو حرام"، وهذا وللأسف هو واقعنا في هذا الزمن، فالحلال ما حل في اليد والعياذ بالله.
اللهم ارزقنا رزقًا حلالا لا شُبة فيه، وأغننا بحلالك عن حرامك.
الخطبة الثانية
أما بعد فيا أيها الناس: الكل سمع بالاكتتاب في البنك الأهلي، بل لقد أخذ ذلك بقلوب كثير من الناس، وعلق الغنى والفقر به، وأخذوا يبحثون عمن يحلل الاكتتاب فيه، ويتتبعون الرُّخَص في ذلك، ضاربين بفتوى اللجنة العلمية الدائمة للإفتاء عرض الحائط، وغيرهم من المختصين في باب أسواق الأسهم، وشركاته.
وفرحوا بإجازة اللجنة الشرعية للبنك الاكتتاب فيه، مع أن البنك فيه معاملات ربوية صرفة تقترب من نصف معاملاته، أفلا يعلمون أنهم يتقحمون أبواب الربا، وهي محاربة الله ورسوله، أو لا يعلمون أن المرابي يبعث يوم القيامة كالسكران والمجنون، قال تعالى: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 275].
روى الإمام الطبري -رحمه الله- عن سعيد بن جبير –رحمه الله- في تفسير هذه الآية قوله:- "يُبْعَث آكل الربا يوم القيامة مجنوناً يُخنَق"، ونقل عن قتادة قوله:- "وتلك علامة أهل الربا يوم القيامة، بعثوا وبهم خَبَل من الشيطان".
وأخرج مسلم في صحيحه من حديث جابر -رضي الله عنه- قال: "لعن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- آكل الربا وموكله، وكاتبه وشاهديه، وقال: هم سواء".
فمن يريد الدخول في الربا فليستعد للعنة الله، والعياذ بالله، وليأخذ سلاحه، ليحارب الله ورسوله، وليغذ جسده لجهنم، فأيما جسد نبت من سحت فالنار أولى به.
والمرابي يعذَّب في البرزخ حتى يبعث الناس فقد أخرج البخاري في صحيحه من حديث سمرة بن جندب -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "رأيت الليلة رجلين أتياني فأخرجاني إلى أرض مقدسة، فانطلقا حتى أتينا على نهر من دم، فيه رجل قائم، وعلى وسط النهر رجل بين يديه حجارة، فأقبل الرَّجل الذي في النهر، فإذا أراد الرجل أن يخرج رمى الرجل بحجر في فيه فردَّه حيث كان، فجعل كلما جاء ليخرج رمى في فيه بحجر فيرجع حيث كان، فقلت: ما هذا؟ فقال: الذي رأيته في النهر: آكل الربا".
وقال الإمام النووي -رحمه الله-: "أجمع المسلمون على تحريم الربا، وأنه من الكبائر وقيل: إنه كان محرماً في جميع الشرائع، وممن حكاه الماوردي".
معاشر المؤمنين: الحذر الحذر من الربا، ولنتق الله في حدوده، وإياكم وتتبع الرخص، ولا نغتر بقول العامة: ضع بينك وبين النار شيخًا، فالنار تسع الجميع، والواجب على المسلم أن يحتاط لدينه عند الخلاف، كيف والخلاف في الاكتتاب في البنك ضعيف جدًّا، ثم هو لا يسمن ولا يغني من جوع، ولو زخرفه الشيطان وأهل الباطل، فإن مصيره للمحق، قال تعالى: (يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ) [البقرة: 276].
أخرج الإمام أحمد من حديث عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-، أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "الربا وإن كَثُر فإن عاقبته إلى قل".
قال ابن كثير – رحمه الله-: "وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود".
وقال معمر: "سمعت أنه لا يأتي على صاحب الربا أربعون سنة حتى يُمحَق"، وقاله الثوري، وقال عبد الرزاق: "قد رأيته".
أقول وقد رأينا ذلك بأعيننا.
عباد الله: لنحلل مأكلنا، لتُستجَاب دعوتنا، وليبارك الله في أرزاقنا، ولنتق الله، فمن اتقى الله، يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، اللهم جنبنا الربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات.. اللهم فرج هم المهمومين..