الجبار
الجَبْرُ في اللغة عكسُ الكسرِ، وهو التسويةُ، والإجبار القهر،...
العربية
المؤلف | أحمد الحاج |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب |
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، ودعامة راسخة من دعائم المجتمع الصالح، فقد دلّت على ذلك النصوص، وشهد به التاريخ، ونطق به الواقع.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعلنا خير أمة أخرجت للناس.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، القائل -سبحانه وتعالى-: (وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ) [الحج:40-41].
وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، القائل -صلى الله عليه وسلم-: "إياكم والجلوس بالطرقات"، فقالوا: يا رسول الله، ما لنا من مجالسنا بدّ! نتحدث فيها. فقال: "إذا أبيتم إلا المجلس فأعطوا الطريق حقه"، قالوا: وما حقّ الطريق يا رسول الله؟ قال: "غضّ البصر، وكفّ الأذى، وردّ السلام، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" متفق عليه.
اللهم صل وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [آل عمران:200].
أما بعد: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر شعيرة عظيمة من شعائر الإسلام، ودعامة راسخة من دعائم المجتمع الصالح، فقد دلّت على ذلك النصوص، وشهد به التاريخ، ونطق به الواقع.
فالمجتمعات في باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تنقسم إلى ثلاثة أقسام: مجتمع يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وهو المجتمع المؤمن، ومجتمع يأمر بالمنكر وينهى عن المعروف، وهو المجتمع المنافق، ومجتمع يأمر ببعض المعروف وبعض المنكر، وينهى عن بعض المعروف وبعض المنكر، فيقع منهم حقّ وباطل، وهو حال المقصّرين والعصاة والمسرفين على أنفسهم.
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من مهمة الأنبياء، وهو مهمة النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الأعراف:157].
وهو من مهمة المؤمنين، قال -تعالى-: (ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104]، وقال: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71].
وعن أبي سعيد: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان" رواه مسلم.
أما المنافقون فهم بعكس المؤمنين، قال -تعالى-: (الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) [التوبة:67].
وكذلك حال اليهود الذين تركوا هذه المهمة، فاستحقوا اللعنة من الله: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ * كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78-79].
إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والدعوة إلى الخير فيه الكثير من الخيرات التي تعود على هذه الأمة، فهو سبب خيرية هذه الأمة: قال -تعالى-: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ) [آل عمران:110].
وفلاحُها من خلاله: قال -تعالى-: (ولْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [آل عمران:104].
وصلاحُها به: قال -تعالى-: (يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخر ويَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ويُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ) [آل عمران:114].
ورحمتُها به: قال -تعالى-: (يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة:71].
ونجاتُها فيه: قال -تعالى-: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ) [الأعراف:165].
وعن النعمان بن بشير -رضي الله عنهما- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خَرقاً ولم نؤذ من فوقنا، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً" رواه البخاري.
والجنة لهم به: قال -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الآمرونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة:111-112].
وهو جزء من التكافل بين المؤمنين، فإذا رأى المسلم أخاه واقعاً في منكر وجب عليه أن يكون عوناً له، فيمنعه من منكره ويدفعه إلى المعروف، عن أنس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً"، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً، كيف أنصره؟ قال: "تحجزه أو تمنعه من الظلم، فإن ذلك نصره" متفق عليه.
وهو ضمانة للمجتمع من التلوّث الفكري والأخلاقي، فترك أهل الفساد يمارسون فسادهم، وينشرون شرورهم، يجعل الناس يتخبطون في بحور الشبهات والشهوات.
وهو ضمانة من العقوبات الإلهية، فعاقبة تركه وخيمة أليمة، وهي العذاب والهلاك العامّ الشامل، قال -تعالى-: (وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [الأنفال:25].
فما هي العقوبات المترتبة على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ أول تلك العقوبات كثرة الخبث وانتشاره ممّا يؤذن بالعذاب العام، عن زينب بنت جحش -رضي الله عنهما- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل عليها فزعاً يقول: "لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب! فُتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه"، وحلق بإصبعه الإبهام والتي تليها، قالت زينب بنت جحش: فقلت: يا رسول الله، أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كثر الخبث" متفق عليه.
وعن أبي بكر الصديق أنه قال: أيها الناس، إنكم تقرءون هذه الآية: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ) [المائدة:105] وإني سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمّهم الله بعقاب منه" رواه الترمذي.
ومن عقوبات ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الاختلاف والتناحر، فقد قال -تعالى- بعد أن أمر بالأمر بالمعروف: (وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [آل عمران:105].
ومنها عدم إجابة الدعاء، فعندما ينزل العقاب بالتاركين لهذه الشعيرة يتجهون إلى الله ويدعونه فلا يستجيب لهم، عن حذيفة بن اليمان عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "والذي نفسي بيده! لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقابا منه ثم تدعونه فلا يستجاب لكم" رواه الترمذي.
لذلك؛ ما أحوجنا جميعاً لأن نكون دعاة إلى الخير، آمرين بالمعروف، ناهين عن المنكر! حتى نسلم ويسلم مجتمعنا، وإلا كنّا جميعاً من الهالكين.
نسأل الله -عز وجل- أن يهدينا وإيَّاكم إلى الخير، وأن يعصمنا من الضلال والانحراف، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه؛ إنَّه غفور رحيم.