الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - المنجيات |
من أعظم الأدوية النافعة لداء الفتور في العبادة: مصاحبة الأخيار، ومجالسة أهل الخير، أهل الهمم العالية والطموحات الرفيعة الهادفة، فالصاحب ساحب، والطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي. قال زين العابدين: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه". وهذا جَعْفَر بْن سُلَيْمَانَ، قَالَ: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة، انطلقت فنظرت إِلَى وجه مُحَمَّد بْن واسع مرة، قَالَ: وكنت إذا نظرت إِلَى وجه مُحَمَّد بْن واسع كأنه ثكلى. وحكى ابن القيم ما استفاده من صحبة شيخه ابن تيمية، فقال: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة ويقيناً وطمأنينة" ....
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي جعل للفتور علاجًا، أحمده سبحانه؛ يسّر لعباده وبيّن المنهاجَ، وأشهد أن لا إله إلا الله أعظم درع وسياج، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله وضّح السبيل لكل سالك، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه.
أما بعد:
ألا إنما التقوى هي العز والكرم | وحـبك للدنـيـا هي الذل والســقـم |
وليس على عبد تقي نقيـصـة | إذا حقق التقوى وإن حاك أو حجم |
أيها الناس: طوبى لأقوام كانت هممهم عالية، وعيونهم من خشية الله باكية، فزهدوا في الدار الفانية، وشمروا إلى جنات عالية قطوفها دانية.
أيها الإخوة في العقيدة: مضى معنا في الجمعة الماضية الإفادة بأسباب الفتور عن العبادة، ومن باب التخلي قبل التحلي، فجمعتنا هذه سيكون الحديث عن علاج الفتور في العبادة، مع أن أسباب الفتور بضدها علاج الفتور، ففي ضدها تتبين الأشياء، فلنعالج فتورنا على العبادة، وننضم إلى ركب أهل العبادة، فهناك خطوات وعلاج وسير ومنهاج، وأهم بداية العلاج الاعتراف بالتقصير والضعف في العمل اليسير (وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [التوبة:102].
فالاعتراف بالذنب والندم عليه أساس علاج الفتور في العبادة، ودلالة على زيادة الإيمان ورسوخه وربنا يقول: (وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ) [آل عمران: 135].
وفي البخاري: "إن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب إلى الله، تاب الله عليه"، فالاعتراف يزيد المرء طاعة لرب العباد.
يستوجب العفو الفتى إذا اعترف | بما جنى من الذنوب واقترف |
أقرر بذنبك ثم اطلب تجاوزه | إن الجحود جحود الذنب ذنبان |
وكذا عدم الاستسلام للفتور، فإذا حصل لك فتور ما، فبادر بعلاجه وصلاحه وذهابه، وكن مؤمنًا أنه ما أنزل الله من داء إلا وله دواء، كما صح الخبر عن النبي المرتضى، قال ابن القيم: "وهذا يعم أدواء القلوب والروح والبدن وأدويتها".
فالاستسلام للفتور يوهن المرء عن العبادة، ويسترسل في تركها حتى يتساهل بالمفروضة.
ومن أضرار الاستسلام أن يتردد في نفسه أنه لا يمكنه العودة والجد والقوة والنشاط والعزة بعد الضعف والكسل والانقطاع وسوء العمل، وهذا من وسوسة الشيطان.
ومن العلاج: الإخلاص والصدق مع الله، والصدق والإخلاص ركنا ذلك التوحيد كالركنين للبنيان.
والإخلاص تصفية العمل بصالح النية عن جميع شوائب الشرك، فالإخلاص به ثبات العبد على العبادات والعون على الطاعات، وبالإخلاص صلاح الأعمال والرغبة بما عند الكبير المتعال.
قال ابن الجوزي -رحمه الله-: "فاعلم أن ترك النظر إلى الخلق، ومحو الجاه من قلوبهم، وإخلاص القصد، وستر الحال هو الذي رفع من رفع، فسر منازل السالكين وزمام المتعبدين: الإخلاص لرب العالمين، فما يحصل خلل وفتور إلا بالبعد عن الإخلاص للرحيم الغفور، فالمشقات تنتقل لذات والمكروهات تتحول المسرات".
قال ابن القيم -رحمه الله-: "وإنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، فأما من تركها صادقا مخلصا من قلبه لله؛ فإنه لا يجد في تركها مشقة، إلا في أول وهلة ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب، فإذا صبر على تلك المشقة قليلا استحالت لذة".
فالإخلاص يرفع عتابات العبودية ويملأ القلب قوة وخشية، وتنبعث جوارحه ويزداد إيمانه.
ومن الأدوية تذكر الآخرة فذكر الموت وقصر الأمل، وتذكر الدنيا وفناءها، والآخرة وإقبالها، والقبر وظلمته، واللحد ووحدته، من أعظم السبل المرقية للإيمان والعبودية، ولذا جاء "أكثروا ذكر هادم اللذات".
إن نسيان تذكر الموت وسكرته، والاستعداد له، يورث الكسل والإهمال والضعف في الأعمال، بيد أن ذِكْره يعطي الطاقة في العبادة والشجاعة على الطاعة، فيبادر المرء أنفاسه ويلاحق أيامه، ويستعد لرحيله، ويتزود لآخرته، فمن جعل الموت أمام عينيه يشمّر في عبادة ربه، ويخشى الرجعة ويتذكر الفزعة: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) [المؤمنون:100].
فلا تغرنك الدنيا وزينتها | وانظر إلى فعلها في الأهل والوطن |
وانظر إلى من حوى الدنيا بأجمعها | هل راح منها بغير الحنط والكفن؟! |
خذ القناعة من الدنيا وارض بها | لو لم يكن لك فيها إلا راحة البدن |
يا نفس كُفّي عن العصيان واكتسبي | فعلاً جميلًا لعل الله يرحمني |
فمن علم أنه راحل تزود لآخرته في جميع المراحل: (وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى) [البقرة: 197].
سبيلك في الدنيا سبيل مسافر | ولا بد من زاد لكل مسافر |
ولا بد للإنسان من حمل عدة | ولا سيما إن خاف صولة قاهر |
ومن العلاج النافع: كثرة الذكر قيامًا أو قعودا أو على المضاجع، فدوام ذِكره سبحانه أبعث باعث على المسارعة، فالذاكر قريب من ربه، رقَّ طبعه، ولان قلبه، وخشعت جوارحه، وأرضى ربه، وأبعد شيطانه، فالأجواء له متهيئة والجوارح للعبادة لينة، فالذكر قوت القلوب، وإرضاء علام الغيوب، وبه تطمئن القلوب، وتتهذب به النفوس، وكلما تغذى القلب بالذكر تغذت الجوارح بالعمل.
ومن الأدوية النافعة والسبل الواقية: سلم المراقبة، فمن كان مستحضرا مراقبة الله سارع إلى رضاه، وعمل بوسعه ما ينفعه في أخراه.
إذا ما خلوت بريبة في ظلمة | والنفس داعية إلى العصيان |
فاستحِ من نظر الإله وقل | لها إن الذي خلق الظلام يراني |
المراقبة تلفظ غبار الكسل، وتمحو العجز ونقص الأمل، المراقبة تقوِّي الحياة القلبية وتبعث الجوارح البدنية طلبًا للجنان العلية والحياة الباقية السرمدية.
من راقب الله زاد في طاعته، ونقص من معصيته، من راقب الله شمَّر للعبادة والرغبة للحسنى وزيادة.
ومن الأدوية النافعة والأمور الناجعة: تهيئة الأجواء الإيمانية داخل الأسرة، فكما أن المال والولد والزوج فتنة ومضعفة للعمل، إلا أن البديل والإصلاح والوقاية والكفاح من أسباب النشاط والفلاح، فاختيار الزوجة الصالحة، وتربية النشء من أعظم الوقاية والاستمرار بالأعمال الصالحة، وتذكيرهم ووعظهم وترغيبهم وتشويقهم أكبر معين على طاعة رب العالمين.
كما أن وقايتهم من القنوات المحرمة والشاشات الفاسدة، وتحذيرهم من المحرمات كاللعن والغناء والدخان والمخدرات والإسبال، وحلق اللحى، والنظر الحرام والتهاون بمراقبة المولى؛ أمر يولّد الخير والصلاح والولد الصالح للإصلاح: "أو ولد صالح يدعو له".
فكم من الآباء أبناؤهم عون لهم على الطاعة، ومن دعاء المؤمنين: (وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) [الفرقان: 74].
ومن العلاجات: البيئة الصالحة والرفقة الصادقة، فمن أراد سلامة دينه وتبدل حاله ونشاطه في العبادة، وطرد الكسل والفتور وحياته القلبية والبدنية؛ فعليه بالرفقة الصالحة التي تعينه وتساعده.
وكذا مجالسة الصالحين والأخيار المستقيمين، فمن أعظم الأدوية النافعة لداء الفتور في العبادة: مصاحبة الأخيار ومجالسة أهل الخير، أهل الهمم العالية والطموحات الرفيعة الهادفة، فالصاحب ساحب، والطيور على أشكالها تقع، وكل قرين بالمقارن يقتدي.
فالمرء ترتفع همته وتشحذ قريحته ويزداد إيمانه ويقوى نشاطه إذا رأى تلك الثلة الصالحة والنخبة الهادئة والصفوة القائدة، ولهذا اختر جليسك وجلساءك يظهر ذلك في دينك ودنياك.
قال زين العابدين: "إنما يجلس الرجل إلى من ينفعه في دينه".
وهذا جَعْفَر بْن سُلَيْمَانَ، قَالَ: كنت إذا وجدت من قلبي قسوة، انطلقت فنظرت إِلَى وجه مُحَمَّد بْن واسع مرة، قَالَ: وكنت إذا نظرت إِلَى وجه مُحَمَّد بْن واسع كأنه ثكلى.
وكان الإمام أحمد إذا بلغه عن شخص صلاح أو زهد أو قيام بحق أو اتباع لأمر سأل عنه وأحب أن يجري بينه وبين معرفة، وأن يعرف أحواله.
وحكى ابن القيم ما استفاده من صحبة شيخه ابن تيمية، فقال: "وعلم الله ما رأيت أحداً أطيب عيشاً منه قط، مع ما كان فيه من ضيق العيش، وخلاف الرفاهية والنعيم، بل ضدها، ومع ما كان فيه من الحبس، والتهديد، والإرهاق، وهو مع ذلك من أطيب الناس عيشاً، وأشرحهم صدراً، وأقواهم قلباً، وأسَرِّهم نفساً تلوح نضرة النعيم على وجهه. وكنا إذا اشتد بنا الخوف، وساءت منا الظنون، وضاقت بنا الأرض أتيناه، فما هو إلا أن نراه، ونسمع كلامه فيذهب ذلك كله، وينقلب انشراحاً، وقوة ويقيناً وطمأنينة" .
أنت في الناس تقاس | بالذي اخترت خليلا |
فاصحب الأخيار تعلو | وتنل ذكرا جميلا |
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على فضله وامتنانه.
ومن سبل العلاج -وفقكم الله لخير منهاج-: التحصن بالعلم الشرعي؛ فهو درع متين وحصن حصين يدفع المرء للعمل الجاد والمسارعة للخيرات الجياد.
العلم بفضائل الأعمال والعلم بمآلات وثمرات الأعمال يرفع الهمة، ويوقظ الحركة وقد قيل معرفة ثواب الأعمال سهلت العمل على العمال، فالعلم نور وهدى وبصيرة وتقوى
اعلم هُديـت أن أفضـل المنـن | علمٌ يزيل الشـك عنـك والـدرن |
ويكشف الحـق لـذي القلـوب | ويوصـل العبـد إلـى المطـلـوب |
قراءة سير السلف الصالح وحالهم مع العبادة فهي ترفع الهمم وتشحذ النفوس إلى القمم؛ إذ السلف نموذج تطبيقي ومنهج نبوي تعليمي: (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ) [الأنعام: 90]، فقراءة السير من الأنبياء والمرسلين والسلف الصالحين والصحابة والتابعين تربيةٌ للنفوس وسبب للجد والاجتهاد والنشاط، فكم من عبد قرأ سيرة صالح فغيّرت حياته وشحذت همته، وكانت سببا لنشاطه وتعديل مساره وقوته في العبادة.
فالقراءة في سير القوم الثبات وعلو الهمة والاقتداء وصلاح الطوية، ومعرفة قدر العبد نفسه وضعفه، قال ابن الجوزي: "رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب إلا أن يخرج بالرقائق، والنظر في سير السلف الصالحين، فأما مجرد العلم بالحلال والحرام فليس له كبير عمل في رقة القلب، وإنما ترق القلوب بذكر رقائق الأحاديث وذكر أخبار السلف الصالحين".
ومن الأسباب -أمة السنة والكتاب-: لزوم الجماعة والتآلف والتراحم، والاجتماع والتلاحم، فالاجتماع قوة وشجاعة وعز وتأسي وعبادة، فالاجتماع سبب للعصمة ونشاط في العبادة وصبر ومجاهدة.
ومن الأدوية الجميلة والعلاجات الجليلة: تنظيم الوقت وترتيبه، وإعطاء كل وقت حصته وورده ووظيفته، وترتيب الأمور للأوراد كالصلوات والأدعية والذكر والقراءة فوقت للزيارة، وآخر للبر والصلة، وثالث للصدقة وهكذا..
فمن نظم وقته أنتح ومن رتب حاله أبلج، فوقتك شرفك وقيمتك بقدر محافظتك عليه تنبعث همتك ويقوى نشاطك والوقت كالإناء بحسب ما تضع فيه تشربه عذبا زلالاً.
وهناك سبل أخرى لعلاج الفتور كتعاهد الإيمان ومحاسبة النفس، والحرص على النوافل والعبادات والمحافظة عليها فهي سياج منيع ودرع متين للواجبات، وكذا التنويع في العبادات، فالنفس ملولة، فالتنويع يعطي النفس دفعة معنوية ونشاط وهمة، والصبر والمصابرة أكبر باعث على الهمة العالية.
وختامها الدعاء؛ فهو السلاح الأمضى والضارب الأنكى، والعامل الأقوى فأكثر من الدعاء على الإعانة على البر والهدى، لاسيما العمل الذي يعسر عليك فعله كالبر والقراءة والصلاة ونحو ذلك، والعامل الوحيد والخلاصة في النشاط الحميد الهمة والعزم وطرد الكسل والهم..
وإذا كانت النفوسُ كباراً | تَعِبَت في مُرادِها الأجسامُ |
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ | وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ |
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها | وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ |
هذا وأسأل الله العظيم أن ينصر دينه، وأن يعلي كلمته، وأن يجعلني وإياكم من أنصار دينه وشرعه، اللهم أحينا مسلمين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بعبادك الصالحين.