القهار
كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...
العربية
المؤلف | فؤاد بن يوسف أبو سعيد |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
لقد كثرت في الآونة الأخيرة الشكاوَى الاجتماعيةُ المختلفة، ورُفعت إلى المحاكم والمحكَّمين القضايا المتنوعة، فهذا يطلب حقًّا، وهذه تطالب برفع الظلم الواقع عليها من زوج أو أخ، وأمٌّ تشكو ولدَها، وولدٌ يشكو من ظلم أبيه، وأخٌ يشكو من حيف أخيه. وأغلب القضايا والمشاكل والشكاوى...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 70- 71].
أما بعد:
فإن خير الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة.
اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد، اللهم بارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد.
خطبة اليوم: "مشاكل زوجية، وقضايا أسرية، وحلول شرعية".
لقد كثرت في الآونة الأخيرة الشكاوَى الاجتماعيةُ المختلفة، ورُفعت إلى المحاكم والمحكَّمين القضايا المتنوعة، فهذا يطلب حقًّا، وهذه تطالب برفع الظلم الواقع عليها من زوج أو أخ، وأمٌّ تشكو ولدَها، وولدٌ يشكو من ظلم أبيه، وأخٌ يشكو من حيف أخيه.
وأغلب القضايا والمشاكل والشكاوى منشؤها الأزواج والزوجات، فهذا زوج يشكو زوجته، على وعد وعدها إياه أو شرط عند العقد شرطته، ثم يبدو له ألاَّ يفي به، فتطالبه فيشكوها، فعَن عبد الرَّحْمَن بن غَنْم قَالَ: "كنت مَعَ عمر حَيْثُ تمسُّ ركبتي ركبته، فَجَاءَهُ رجل، فَقَالَ: يَا أَمِير الْمُؤمنِينَ! تزوجت هَذِه، وشرطت لَهَا دارها، وَإِنِّي أجمع لأمري أَو لشأني أَن انْتقل إِلَى أَرض كَذَا وَكَذَا؟ فَقَالَ: "لَهَا شَرطهَا" فَقَالَ: هَلَكت الرِّجَال إِذاً لا تشَاء امْرَأَةٌ أَن تطلِّقَ زَوجهَا إِلاَّ طلقت، فَقَالَ عمر: "الْمُسلمُونَ عَلَى شروطهم، عِنْد مقاطع حُقُوقهم" [ابن حجر في تغليق التعليق (4/419): "رَوَاهُ عبد الرَّزَّاق فِي مُصَنفه" المصنف (6/227) ح(10608)].
عَنْ سَعِيدِ بْنِ عُبَيْدِ بْنِ السَّبَّاقِ: أَنَّ رَجُلاً تَزَوَّجَ امْرَأَةً عَلَى عَهْدِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ- وَشَرَطَ لَهَا أَنْ لاَ يُخْرِجَهَا فَوَضَعَ عَنْهُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ- الشَّرْطَ، وَقَالَ: "الْمَرْأَةُ مَعَ زَوْجِهَا" وَرُوِي عَنْ عُمَرَ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهُ- بِخِلاَفِهِ [السنن الكبرى، للبيهقي (7/249)، وجوده الحافظ في الفتح (9/189 )، إرواء الغليل (6/304)].
وزوج يشكو سلاطة لسان زوجته، وسوءَ خلقِها، عَنْ عَاصِمِ بْنِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ عَنْ أَبِيهِ لَقِيطِ بْنِ صَبْرَةَ، قَالَ: قُلْتُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لِى امْرَأَةً، وَإِنَّ فِى لِسَانِهَا شَيْئًا، يَعْنِى الْبَذَاءَ" قَالَ: "فَطَلِّقْهَا إِذًا" قَالَ: "قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ لَهَا صُحْبَةً، وَلِى مِنْهَا وَلَدٌ" قَالَ: "فَمُرْهَا -يَقُولُ: عِظْهَا- فَإِنْ يَكُ فِيهَا خَيْرٌ؛ فَسَتَفْعَلُ، وَلاَ تَضْرِبْ ظَعِينَتَكَ كَضَرْبِكَ أُمَيَّتَكَ" [سنن أبي داود ح(142)].
وزوج يشكو فقدان عذرية عروسه، ليلة دخلته وزفافه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: تَزَوَّجَ رَجُلٌ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ مِنْ بَلْعَجْلانَ، فَدَخَلَ بِهَا فَبَاتَ عِنْدَهَا، فَلَمَّا أَصْبَحَ قَالَ: "مَا وَجَدْتُهَا عَذْرَاءَ" قَالَ: فَرُفِعَ شَأْنُهُمَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَدَعَا الْجَارِيَةَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَسَأَلَهَا، فَقَالَتْ: "بَلَى قَدْ كُنْتُ عَذْرَاءَ" قَالَ: "فَأَمَرَ بِهِمَا رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَتَلاعَنَا، وَأَعْطَاهَا الْمَهْرَ" [أحمد (1/261) وسنن ابن ماجة، ح(2070). والحديث ضعفه البوصيري، والألباني].
قال أبو المنذر: "الحديث ضعيف لتدليس ابن إسحاق، والمسألة مختلف فيها؛ فعن إبراهيم في الرجل يتزوج المرأة، فيقول لم أجدها عذراء، قال: لا حد عليه [مصنف ابن أبي شيبة: (ج5/ص494 ح28311)].
وقال شعبة عن الحكم في الرجل يدخل بالمرأة، فيقول: إني لم أجدها عذراء؛ قال: كان الشعبي يروى أن عليه الحد [مسند ابن الجعد (ج1/ص52 ح229)].
شكوى المجادِلة -خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ- من زوجها -أَوْسَ بْنَ الصَّامِتِ- عندما ظاهر منها وحرمها على نفس كحرمة أمه، وكان به لمم، وعنده سرعة غضب، فعن عَائِشَةَ -رَضِىَ اللَّهُ عَنْهَا- قالت: "تَبَارَكَ اللَّهُ الَّذِى وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَىْءٍ! إِنِّى لأَسْمَعُ كَلاَمَ خَوْلَةَ بِنْتِ ثَعْلَبَةَ، وَيَخْفَى عَلَىَّ بَعْضُهُ، وَهِىَ تَشْتَكِى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- زَوْجَهَا، وَهِىَ تَقُولُ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ أَكَلَ شَبَابِى، وَنَثَرْتُ لَهُ بَطْنِى، حَتَّى إِذَا كَبِرَتْ سِنِّى، وَانْقَطَعَ لَهُ وَلَدِى؛ ظَاهَرَ مِنِّى، اللَّهُمَّ إِنِّى أَشْكُو إِلَيْكَ، قَالَتْ عَائِشَةُ -رَضِي اللَّهُ عَنْهَا-: فَمَا بَرِحَتْ حَتَّى نَزَلَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلاَمُ- بِهَؤُلاَءِ الآيَاتِ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِى تُجَادِلُكَ فِى زَوْجِهَا) [المجادلة: 1] قَالَ: وَزَوْجُهَا أَوْسُ بْنُ الصَّامِتِ" [ابن ماجة، ح(2063)، انظر: الإرواء (7/175)].
وفي رواية قَالَتْ: "فَجَعَلَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَا خُوَيْلَةُ! ابْنُ عَمِّكِ؛ شَيْخٌ كَبِيرٌ، فَاتَّقِي اللَّهَ فِيهِ" قَالَتْ: "فَوَاللَّهِ مَا بَرِحْتُ حَتَّى نَزَلَ فِيَّ الْقُرْآنُ، فَتَغَشَّى رَسُول اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مَا كَانَ يَتَغَشَّاهُ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَقَالَ لِي: "يَا خُوَيْلَةُ! قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ فِيكِ وَفِي صَاحِبِكِ" ثُمَّ قَرَأَ عَلَيَّ: (قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) [المجادلة: 4] إِلَى قَوْلِهِ: (وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ) [المجادلة: 4] فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مُرِيهِ فَلْيُعْتِقْ رَقَبَةً" قَالَتْ: "فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا عِنْدَهُ مَا يُعْتِقُ" قَالَ: "فَلْيَصُمْ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ" قَالَتْ: "فَقُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّهُ شَيْخٌ كَبِيرٌ؛ مَا بِهِ مِنْ صِيَامٍ" قَالَ: "فَلْيُطْعِمْ سِتِّينَ مِسْكِينًا؛ وَسْقًا مِنْ تَمْرٍ" قَالَتْ: "قُلْتُ: وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! مَا ذَاكَ عِنْدَهُ!" قَالَتْ: "فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَإِنَّا سَنُعِينُهُ بِعَرَقٍ مِنْ تَمْرٍ" قَالَتْ: "فَقُلْتُ: وَأَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ سَأُعِينُهُ بِعَرَقٍ آخَرَ" قَالَ: "قَدْ أَصَبْتِ وَأَحْسَنْتِ، فَاذْهَبِي فَتَصَدَّقِي عَنْهُ، ثُمَّ اسْتَوْصِي بِابْنِ عَمِّكِ خَيْرًا" قَالَتْ: "فَفَعَلْتُ" [أحمد (6/410)].
وهذا من صفات المرأة الطيبة تصبر على سوء خلق زوجها، وتعينه وتتحمل معه ما يلحق به من كفارات، ونحو ذلك.
فهذه شكت من ظهار زوجها، وأخريات يشكين من الضرب والتعذيب، الذي يقوم بعض الأزواج، الذين خالفوا هدي النبوة في معاملة زوجاتهم وأهليهم، ففي مسند أحمد (1/152): عن علي -رضي الله تعالى عنه-: "أن امرأة الوليد بن عقبة جاءت إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تشتكى الوليد؛ أنه يضربها".
فمن هدي النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أنه قَالَ: "لا يَجْلِدُ أَحَدُكُمْ امْرَأَتَهُ جَلْدَ الْعَبْدِ، ثُمَّ يُجَامِعُهَا فِي آخِرِ الْيَوْمِ" [البخاري].
فالتزم ذلك الصحابة -رضي الله تعالى عنهم-، فاجترأ نساؤهم عليهم، فعَنْ إِيَاسِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِى ذُبَابٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لاَ تَضْرِبُوا إِمَاءَ اللَّهِ" قَالَ: فَجَاءَ عُمَرُ إلى رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "يَا رَسُولَ اللَّهِ! قَدْ ذَئِرَ -أي تجرّأ- النِّسَاءُ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ مُنْذُ نَهَيْتَ عَنْ ضَرْبِهِنَّ" فَأَذِنَ لَهُمْ فَضَرَبُوا؛ فَأَطَافَ بِآلِ مُحَمَّدٍ نِسَاءٌ كَثِيرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لَقَدْ أَطَافَ اللَّيْلَةَ بِآلِ مُحَمَّدٍ سَبْعُونَ امْرَأَةً كُلُّهُنَّ تَشْكِى زَوْجَهَا، وَلاَ تَجِدُونَ أُولَئِكَ خِيَارَكُمْ" [ابن ماجة، ح(1985)، ونحوه في صحيح أبي داود ح(1863)].
وَقَدْ أَخْرَجَ مسلم (2328) حَدِيث عَائِشَة -رضي الله تعالى عنها- قَالَتْ: "مَا ضَرَبَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- شَيْئًا قَطُّ بِيَدِهِ؛ وَلاَ امْرَأَةً وَلاَ خَادِمًا، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدَ فِى سَبِيلِ اللَّهِ، وَمَا نِيلَ مِنْهُ شَيْءٌ قَطُّ فَيَنْتَقِمَ مِنْ صَاحِبِهِ إِلاَّ أَنْ يُنْتَهَكَ شَيْءٌ مِنْ مَحَارِمِ اللَّهِ؛ فَيَنْتَقِمَ لِلَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ-".
قال ابن جرير في "تهذيب الآثار": "فأفضل الأخلاق التي يتخلق بها الرجل في أهله، الصبر عليهم، والصفح عنهم، على ما تتابعت به عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأخبار الصحاح الأسانيد".
ولا مانع: "أن يضرب الرجل امرأته إذا رأى منها ما يكره، فيما يجب عليها في طاعته، ... عن أم موسى، قالت: "كانت ابنة علي بن أبي طالب -رحمه الله- تحت عبد الله بن أبي سفيان بن الحارث بن عبد المطلب، فربما ضربها، فتجيء إلى الحسن بن علي فتشتكي، وقد لزق درع من حديد بجسدها من الضرب، فيقسم عليها لترجعن إلى بيت زوجها".
وعن أبي أمامة الباهلي، قال: "نزلت عليه بحمص، فقال: إني لأبغض الرجل أن يكون ضيفا على أهل بيته، قال: فقيل: وما الضيف على أهل البيت؟ قال: الرجل الشديد الخلق -أو السيئ الخلق- في أهله، إذا دخل هابته المرأة والشاة، والخادم والهر، كلُّهم يخاف أن يصيبهم بشر قبل أن يخرج، فذلك كأنه ضيف على أهله".
وقد حرَّم الله -تعالى- ذكره أذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فقال جل ثناؤه: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58].
وإذ كان الله -تعالى- ذكره قد حرم أذاهن بغير ما استحققن به الأذى؛ فضربهن بغير ما اكتسبن أحرم وأبعد من الجواز، والصواب من القول في ذلك عندنا؛ أنه غير جائز لأحد ضرب أحد من الناس، ولا أذاه إلا بالحقِّ؛ لقول الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا) [الأحزاب: 58].
سواء كان المضروبُ امرأةً وضاربها زوجُها، أو كان مملوكا أو مملوكة وضاربه مولاه، أو كان صغيرا وضاربه والده، أو وصيَّ والده وصاه عليه. غير أن الله -تعالى- ذكره أباح لهؤلاء الذين سمينا -من ضرب من ذكرنا بالمعروف فيما فيه صلاحهم على وجه الأدب- ما حظر على غيرهم، إلا لذي سلطان وقيم للمسلمين، أو من أقامه مقام نفسه في ذلك.
ومن ذلك ما أباحه جل جلاله: "لزوج المرأة -عند نشوزها عليه، وامتناعها من أداء حقه الذي فرض جل ثناؤه عليها له- ضربها بالمعروف، إذ كان قيما عليها، فقال: (وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا) [النساء: 34]. أ. هـ [تهذيب الآثار].
فالضرب المباح ضربُ التأديب، لا ضربَ التعذيب والتكسير، فإما أن تصبر المرأةُ على ذلك أو تفارق، عن عائشة -رضي الله عنها-: أنَّ حَبيبَةَ بِنْتَ سهل كانت عند ثَابتِ بنِ قيسِ بن شَماسٍ، فَضَرَبَهَا فَكسَر نُغْضَها -النغض: أعلى الكتف، وقيل: هو العظم العريض الذي يسمى اللوح- فَأَتَتْ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- بَعْدَ الصبحِ، فَاشْتَكَتْهُ إِليهِ، فَدَعَا النَّبيُّ ثَابتا فقال: "خُذ بعضَ مَالِهَا وفَارِقْها" قال: وَيصْلُحُ ذلك يا رسولَ الله؟ قال: "نعم" قال: فإني قَدْ أصدَقْتُها حَدِيقَتَيْنِ، وهما بِيدِها، فقال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "خُذهُما وفَارِقْها" فَفَعَل [أخرجه أبو داود ح(2228)].
هذه الشكاوى الزوجية من الضرب ونحوه، وهناك شكاوى من هجر الزوج لزوجته، وعدمِ قربانها، فهي في بيته معلقة، لا ذات زوج يصلها ويعفها ويحصنها، ولا مطلقة ترجو خطبة ونكاحا، وأكثر ما يحدث من هذا النوع من المشاكل إذا تزوج زوجة أخرى فيترك الأولى، ويهجرها، ويعتبرها كأنها من محارمه، وكأنَّ حقَّها في المبيت عندها؛ جريمةٌ من الجرائم التي يعاقب عليها القانون، وتؤثمه الشريعة، فإذا كان هناك بقية حبٍّ ومودةٍ لزوجته؛ يتسلَّلُ إليها لِواذا في جنح الظلام، حتى لا يراه أحد، وهذا من الظلم، فالمرأة تحبُّ العدل، وتشتاق للعفَّة، وتحصينِ الفرج من الوقوع في ارتكاب الحرام، أو تموتُ حسرة ولوعة وأسى، عَنْ عُبيدِ الله، أَوِ الْفَضْلِ بْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الْغُمَيْصَاءَ أَوِ الرُّمَيْصَاءَ جَاءَتْ تَشْكُو زَوْجَهَا إِلَى رَسُولِ الله -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-، قَالَتْ: إِنَّهُ لاَ يَصِلُ إِلَيْهَا، قَالَ: فَقَالَ: "كَذَبَتْ يَا رَسُولَ الله! إِنِّي لأَفْعَلُ، وَلَكِنَّهَا تُرِيدُ أَنْ تَرْجِعَ إِلَى زَوْجِهَا الأَوَّلِ" قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ الله -صَلَّى الله عَلَيه وسَلَّم-: "لاَ يَحِلُّ، حَتَّى تَذُوقَ عُسَيْلَتَهَا" [قال في إرواء الغليل (6/300): "أخرجه النسائي (2/97) وأحمد (1/214)].
والعسيلة، كناية عن لذة الجماع.
وعن الشعبى قال: جاءت امرأة إلى عمر بن الخطاب، فقالت: أشكو إليك خير أهل الدنيا؛ إلا رجلا سبقه بعمل أو عمل مثل عمله، يقوم الليل حتى يصبح، ويصوم النهار حتى يمسى، ثم تجلاها الحياء، فقالت: أقلني يا أمير المؤمنين، فقال: "جزاك الله خيرا فقد أحسنت الثناء، قد أقلتك" فلما ولَّت؛ قال كعب بن سُور: "يا أمير المؤمنين! لقد أبلغت إليك في الشكوى" فقال: "ما اشتكت؟!" قال: "زوجها" قال: "عليَّ المرأة" فقال لكعب: "اقض بينهما" قال: "أقضى وأنت شاهد؟" قال: "إنك قد فطنت إلى ما لم أفطن" قال: "فإن الله يقول: (فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاء مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ ) [النساء: 3] صم ثلاثة أيام، وأفطر عندها يوما، وقم ثلاث ليال وبت عندها ليلة" فقال عمر: "لهذا أعجب إلىَّ من الأوّل" فبعثه قاضيا لأهل البصرة" [ابن سعد (7/92)].
وتابعه قتادة قال: "جاءت امرأة إلى عمر" فذكر نحوه [أخرجه عبد الرزاق (7/149، رقم 12588)].
وبعض النساء تشكو زوجها وهي له ظالمة، عَنْ كَهْمَس قَالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ عمر بن الخطاب -رضي الله تعالى عنه- إِذْ جَاءَتِ امْرَأَةٌ فَجَلَسَتْ إِلَيْهِ، فَقَالَتْ: "يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّ زَوْجِي قَدْ كَثُرَ شَرُّهُ وَقَلَّ خَيْرُهُ، فَقَالَ لَهَا: "مَنْ زَوْجُكِ؟" قَالَتْ: أَبُو سَلَمَةَ، فَقَالَ: "إِنَّ ذَلِكَ لَرَجُلٌ لَهُ صُحْبَةٌ، وَإِنَّهُ لَرَجُلُ صِدْقٍ" ثُمَّ قَالَ عُمَرُ -رَضِيَ الله عَنْهُ-، لِرَجُلٍ عِنْدُهِ جَالِسٍ: "أَلَيْسَ كَذَلِكَ؟" فَقَالَ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لاَ نَعْرِفُهُ إِلاَّ بِمَا قُلْتَ، فَقَالَ عُمَرُ لِرَجُلٍ: "قُمْ فَادْعُهُ إِلَيَّ" وَقَامَتِ الْمَرْأَةُ حِينَ أَرْسَلَ إِلَى زَوْجِهَا فقعدت خَلْفَ عُمَرَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَا مَعًا، حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ، فَقَالَ عُمَرُ: "مَا تَقُولُ هَذِهِ الْجَالِسَةُ خَلْفِي؟" قَالَ: "وَمَنْ هَذِهِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟" قَالَ: "هَذِهِ امْرَأَتُكَ" قَالَ: "وَتَقُولُ مَاذَا؟" قَالَ: "تَزْعُمُ أَنَّكَ قَدْ قَلَّ خَيْرُكَ وَكَثُرَ شَرُّكَ" قَالَ: "بِئْسَ مَا قَالَتْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! إِنَّهَا لَمِنْ صَالِحِي نِسَائِهَا؛ أَكْثَرُهُنَّ كِسْوَةً، وَأَكْثَرُهُنَّ رَفَاهِيَةَ بَيْتٍ، وَلَكِنْ فَحْلُهَا بَكِيٌّ".
بَكِيّ، بكأت الناقة والشاة: قلَّ لبنها، وقيل: انقطع، وبكأ الرجل: قل كلامه خِلْقَة [ابن منظور في لسان العرب].
ولعل المراد به في الأثر هو ضعفه عن الجماع -والله أعلم-.
فَقَالَ عُمَرُ -رَضِيَ الله عَنْهُ- لِلْمَرْأَةِ: "مَا تَقُولِينَ؟" قَالَتْ: صَدَقَ، فَقَامَ إِلَيْهَا عُمَرُ بِالدِّرَّةِ فَتَنَاوَلَهَا بِهَا، ثُمَّ قَالَ: "أَيْ عَدُوَّةَ نَفْسِهَا! أَكَلْتِ مَالَهُ، وَأَفْنَيْتِ شَبَابَهُ، ثُمَّ أَنْشَأْتِ تُخْبِرِينَ بِمَا لَيْسَ فِيهِ؟" فَقَالَتْ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ! لاَ تُعْجَلْ فَوَاللهِ لاَ أَجْلِسُ هَذَا الْمَجْلِسَ أَبَدًا، ثُمَّ أَمَرَ لَهَا بِثَلاَثَةِ أَثْوَابٍ، فَقَالَ: "خُذِي لِمَا صَنَعْتُ بِكِ، وَإِيَّاكِ أَنْ تَشْتَكِي هَذَا الشَّيْخَ" فَكَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَيْهَا قَامَتْ وَمَعَهَا الثِّيَابُ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَى زَوْجِهَا، فَقَالَ: "لاَ يَحْمِلَكَ مَا رَأَيْتَنِي صَنَعْتُ بِهَا أَنْ تسِيءَ إِلَيْهَا! انْصَرِفَا" فَقَالَ الرَّجُلُ: "مَا كُنْتُ لأَفْعَلَ" [لفظه من إتحاف الخيرة المهرة، ورواه الطيالسي، والبخارى فى تاريخه، والحاكم فى الكنى ، قال ابن حجر: "إسناده قوي"، كنز العمال 45860)].
وهناك شكوى من وجود لقيط غير معروف الأب ولا الأم، ومعه نفقته، عن الشعبي قال: جاءت امرأة إلى عمر، فقالت: "يا أمير المؤمنين! إني وجدت صبيا، ووجدت قُبطية فيها مائة دينار، فأخذته واستأجرت له ظئرا -أي مرضعا- وإن أربع نسوة يأتينه ويقبلنه، لا أدرى أيتهن أمّه، فقال لها: "إذا هنَّ أتينك فأعلميني" ففعلت، فقال لامرأة منهن: "أيتكن أمُّ هذا الصبي؟" فقالت: والله ما أحسنت ولا أجملت يا عمر! تعمد إلى امرأة ستر الله عليها؛ فتريد أن تهتك سترها؟ قال: صدقت، ثم قال للمرأة: إذا أتينك فلا تسأليهن عن شىء، وأحسنى إلى صبيهن، ثم انصرف" [أخرجه البيهقي في شعب الإيمان (7/108، رقم 9662)].
وزوجة الابن تشكو زوجها إلى أبيه، عن أسلم قال: جاءت امرأة عبد الله بن عمر بن الخطاب، فقالت: يا أمير المؤمنين! اعذرني من أبى عيسى، قال: "ومن أبو عيسى؟" قالت: ابنك عبد الله، قال: "قد يكنى بأبي عيسى؟!" قالت: نعم، قال: "يا أسلم! اذهب فادعه ولا تخبره لأي شيء أدعوه" فجئت فقلت له: أجب أباك، فسألني لأيِّ شيء دعاه، فأبيت أن أخبره، فرشاني بيضة دجاجة بحرية فأخبرته، فجاء وقد حذر، فقال لي: "أخبرته وكان لا يكذب" فقلت: نعم! فضربني، ثم قال له: "تكنيت أبا عيسى؟! وهل لعيسى أب؟! ليس هذا الكنى من كنى العرب، إنما كنى العرب أبو شجرة، وأبو سلمة، وأبو قتادة" لأسماء عدها [أخرجه ابن عساكر (38/59)].
وامرأة مطلقة تشكو من زوجها يريد أخذ ولدها منها، عَنْ عَبْدِ اَللَّهِ بْنِ عَمْرِوٍ -رَضِيَ اَللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّ اِمْرَأَةً قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اَللَّهِ! إِنَّ اِبْنِي هَذَا كَانَ بَطْنِي لَهُ وِعَاءً, وَثَدْيِي لَهُ سِقَاءً, وَحِجْرِي لَهُ حِوَاءً, وَإِنَّ أَبَاهُ طَلَّقَنِي, وَأَرَادَ أَنْ يَنْتَزِعَهُ مِنِّي" فَقَالَ لَهَا رَسُولُ اَللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ, مَا لَمْ تَنْكِحِي" [رَوَاهُ أَحْمَدُ (2/182), وَأَبُو دَاوُدَ ح (2276), وحسنه في الصحيحة ح(368)].
والفتاة تشكو أباها الذي أجبرها على الزواج ممن لا ترغب فيه، فأكرهها عليه، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ خِذَامًا أَبَا وَدِيعَةَ أَنْكَحَ ابْنَتَهُ رَجُلاً، فَأَتَتْ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَاشْتَكَتْ إِلَيْهِ؛ أَنَّهَا أُنْكِحَتْ وَهِيَ كَارِهَةٌ، فَانْتَزَعَهَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ زَوْجِهَا، وَقَالَ: "لاَ تُكْرِهُوهُنَّ" قَالَ: فَنَكَحَتْ بَعْدَ ذَلِكَ أَبَا لُبَابَةَ الأَنْصَارِيَّ، وَكَانَتْ ثَيِّبًا" [أحمد (1/364)].
أم الزوجة تشكو زوج ابنتها، وهو يلح عليها أن تصلح شعر ابنتها الذي تساقط، فتصله بمثله، عَنْ صَفِيَّةَ بِنْتِ شَيْبَةَ عَنْ عَائِشَةَ: أَنَّ امْرَأَةً مِنْ الأَنْصَارِ جَاءَتْ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِنَّ ابْنَتِي اشْتَكَتْ فَسَقَطَ شَعَرُ رَأْسِهَا، وَإِنَّ زَوْجَهَا قَدْ أَشْقَانِي، أَفَتَرَى أَنْ أَصِلَ بِرَأْسِهَا، فَقَالَ: "لا فَإِنَّهُ لُعِنَ الْمَوْصُولاتُ" [أحمد (6/116)].
شكوى الجار جاره خذ متاعك إلى الطريق، عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ قَالَ جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِىِّ -صلى الله عليه وسلم- يَشْكُو جَارَهُ، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاصْبِرْ" فَأَتَاهُ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، فَقَالَ: "اذْهَبْ فَاطْرَحْ مَتَاعَكَ فِى الطَّرِيقِ" فَطَرَحَ مَتَاعَهُ فِى الطَّرِيقِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَسْأَلُونَهُ فَيُخْبِرُهُمْ خَبَرَهُ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَلْعَنُونَهُ: فَعَلَ اللَّهُ بِهِ وَفَعَلَ وَفَعَلَ، فَجَاءَ إِلَيْهِ جَارُهُ؛ فَقَالَ لَهُ: ارْجِعْ لاَ تَرَى مِنِّى شَيْئًا تَكْرَهُهُ" [سنن أبى داود ح(5153) وانظر: صحيح الترغيب والترهيب ح(2558)].
شكوى بلال من أبي ذر بأنه عيَّره بأمه، عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: عَيَّرَ أَبُو ذَرٍّ بِلالاً بِأُمِّهِ، فَقَالَ: "يَا ابْنَ السَّوْدَاءِ!" وَإِنَّ بِلالاً أَتَى رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَأَخْبَرَهُ فَغَضِبَ، فَجَاءَ أَبُو ذَرٍّ وَلَمْ يَشْعُرْ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، فَقَالَ: "مَا أَعْرَضَكَ عَنِّي إِلاَّ شَيْءٌ بَلَغَكَ يَا رَسُولَ اللهِ!" قَالَ: "أَنْتَ الَّذِي تُعَيِّرُ بِلالاً بِأُمِّهِ؟!" قَالَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَالَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُحَمَّدٍ -أَوْ مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَحْلِفَ- مَا لأَحَدٍ عَلَيَّ فَضْلٌ إِلاَّ بِعَمَلٍ، إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ كَطَفِّ الصَّاعِ".
قال في شرح مشكل الآثار (9/81): "لأَنَّ طَفَّ الصَّاعُ الْمُرَادُ بِهِ التَّقْصِيرُ عَنْ مِلْءِ الصَّاعِ, وَالتَّسَاوِي فِيهِ" [أخرجه البيهقى في شعب الإيمان (7/131)].
وفي رواية في تاريخ دمشق (10/464): "ما لأحد على أحد فضل إلا بعمل".
حتى الحيوانات تشكو ظلم الإنسان، فمن يقوم برحمتها والتنبيه على حقوقها، وعدم ظلمها، فقد ثبت أنها شكت إلى من يسمع شكواها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- خَلْفَهُ ذَاتَ يَوْمٍ، فَأَسَرَّ إِلَىَّ حَدِيثًا لاَ أُحَدِّثُ بِهِ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ أَحَبُّ مَا اسْتَتَرَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- لِحَاجَتِهِ؛ هَدَفًا أَوْ حَائِشَ نَخْلٍ. قَالَ: فَدَخَلَ حَائِطًا لِرَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَإِذَا جَمَلٌ؛ فَلَمَّا رَأَى النَّبِىَّ -صلى الله عليه وسلم- حَنَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، فَأَتَاهُ النَّبِىُّ -صلى الله عليه وسلم- فَمَسَحَ ذِفْرَاهُ فَسَكَتَ، فَقَالَ: "مَنْ رَبُّ هَذَا الْجَمَلِ؟ لِمَنْ هَذَا الْجَمَلُ؟" فَجَاءَ فَتًى مِنَ الأَنْصَارِ، فَقَالَ: "لِى يَا رَسُولَ اللَّهِ" فَقَالَ: "أَفَلاَ تَتَّقِى اللَّهَ فِى هَذِهِ الْبَهِيمَةِ الَّتِى مَلَّكَكَ اللَّهُ إِيَّاهَا! فَإِنَّهُ شَكَى إِلَىَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ" [رواه أحمد (1/204) وأبو داود ح(2549) صحيح الترغيب والترهيب ح(2269)].
عباد الله: ارحموا أنفسكم من تعريضها لما يغضب الله -تعالى-، من الظلم والعدوان على الآخرين، فكم ممن ظلمتهم ولم يأخذوا حتى الآن حقوقهم منك؟ وكم ممن ينتظر هلاكك وبعدك أو حتى موتك؟