البحث

عبارات مقترحة:

الكبير

كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

الباطن

هو اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على صفة (الباطنيَّةِ)؛ أي إنه...

لا نعارِضُ مبدأَ التسليمِ للنصِّ الشرعيِّ، وإنما نعارِضُ التسليمَ لفئةٍ معيَّنةٍ في فهمِ النصوص

العربية

المؤلف باحثو مركز أصول
القسم موسوعة الشبهات المصنفة
النوع صورة
اللغة العربية
المفردات علم أصول الفقه
الجواب المختصر:

مضمونُ السؤال: إن القولَ بإلزاميَّةِ منهجِ السلفِ هو محلُّ الرفضِ لدى صاحبِ السؤالِ، وهو لا يَرَى في رفضِهِ لمنهجِ السلفِ رفضًا للإسلام؛ لأنه فيما يزعُمُ يقدِّسُ الإسلامَ، ويعظِّمُ نصوصَهُ مِن الكتابِ والسنَّة، والشيءُ المرفوضُ - مِن وجهةِ نظرِهِ - هو جعلُ جهودِ البشَرِ في فهمِهِ معيارًا حاكمًا، وهو يريدُ الوصولَ إلى ما يُسمَّى بنظريَّةِ «النصِّ المفتوح»، أو «نسبيَّةِ الحقيقة».

مختصَرُ الإجابة:

كونُ السلفِ طائفةً مِن البشَرِ لا يُنافي حجِّيَّةَ فهمِهم للنصِّ؛ لأن الدليلَ دَلَّ على حجِّيَّةِ إجماعِهم؛ كما أن الدليلَ دَلَّ على قداسةِ النصوصِ لفظًا ومعنًى.

وإذا لم يكن النصُّ متعلِّقًا بمسألةٍ مِن مسائلِ الإجماع، فإن ذلك لا يَنْفي - أيضًا - أن معنى النصِّ مقدَّسٌ، أي: أن حصولَ الاختلافِ في الفهمِ لا يَنْفي أن يكونَ هناك فهمٌ هو الذي أراده اللهُ تعالى؛ وهو الفهمُ المعياريُّ للنصِّ، سواءٌ أصابه الناظرُ في النصِّ، أم أصابه غيرُه؛ فما دام اللهُ تعالى قد أراد ذلك المعنى، فهو مقدَّسٌ بهذا الاعتبار.

وثَمَّةَ لوازمُ باطلةٌ للقولِ بنفيِ القراءةِ المعياريَّةِ لنصوصِ الوحيِ، مما يدُلُّ على بطلانِ هذا القولِ، ومِن ذلك:

1- أن نفيَ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ يخالِفُ المقطوعَ به مِن شأنِ هذا الوحيِ وبيانِهِ ووضوحِه.

2- أن نفيَ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ ينافي استقامةَ الحياةِ في مخاطَباتِ الناسِ ومعامَلاتِهم.

3- أن مَن يَنْفي القراءةَ المعياريَّةَ للوحيِ، سيتناقَضُ عندما يتعامَلُ مع النصوصِ الوضعيَّةِ البشَريَّة.

4- أن نفيَ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ، يستلزِمُ عدمَ الاعتراضِ على أقوالِ الخوارجِ والغلاةِ في فهمِ النصوص.


الجواب التفصيلي:

الجوابُ التفصيليّ:

إن عدمَ التسليمِ بفهمِ السلفِ معناهُ: نفيُ القراءةِ المعياريَّةِ لنصوصِ الوحي، كما يتبنَّى ذلك أربابُ الفكرِ اللِّيبْرَاليِّ، فيؤصِّلون لإلغاءِ المقدَّسِ أيًّا كان، ولو كان الوحيُ المحفوظُ القرآنَ الكريمَ، والسنَّةَ الصريحةَ والصحيحةَ، فيَسعَوْنَ إلى المحافَظةِ على هَيْبةِ المقدَّسِ لفظًا، وإبطالِهِ معنًى، بحسَبِ حاجاتِهم.

وسنبيِّنُ اللوازمَ الباطلةَ للقولِ بنفيِ القراءةِ المعياريَّةِ التي تدُلُّ على بطلانِ هذا القول:

1- نفيُ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ يخالِفُ المقطوعَ به مِن شأنِ هذا الوحيِ وبيانِهِ ووضوحِه:

حيثُ أثنى اللهُ على كتابِهِ ووصَفَهُ بأوصافٍ؛ منها: ﴿مُبِينٍ﴾ [الحجر: 1]، و﴿بَيَانٌ﴾ [آل عمران: 138]، و﴿تِبْيَانًا﴾ [النحل: 89]، و﴿نُورًا مُبِينًا﴾ [النساء: 174]، و﴿هُدًى﴾ [البقرة: 2]، و﴿الْفُرْقَانَ﴾ [الفرقان: 1]، و﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ﴾ [هود: 1]، ويَلزَمُ مِن نفيِ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ جعلُ الحديثِ القرآنيِّ المتكرِّرِ عن حاكميَّةِ الشريعةِ وهَيمَنتِها، والردِّ إلى نصوصِها في حالِ الاختلاف، وبيانِ الفرقِ بينها وبين حكمِ الجاهليَّة -: عبَثًا لا فائدةَ منه، وإحالةً على معدومٍ، وتكليفًا بما لا يطاقُ؛ وعليه: فلا اعتدادَ بصحَّةِ الإجماعِ، ولا قِيمةَ له، مهما نُقِلَ إجماعُ الأمَّةِ على معنًى؛ فهذا الإجماعُ غيرُ ملزِمٍ، ولا وجودَ لثوابتَ في الدِّينِ لا تتحمَّلُ التغييرَ، مع أن اللهَ تعالى يُثبِتُ للناسِ المحكَماتِ في كتابِهِ:

﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ﴾

[آل عمران:7]

وقال ^: «الحَلَالُ بَيِّنٌ، وَالحَرَامُ بَيِّنٌ»؛ رواه البخاري (52)، ومسلم (1599)؛ وهذا البيانُ والإحكامُ المذكورُ، هو المحكَمُ القطعيُّ الذي يُلْغيهِ الفكرُ اللِّيبْرَاليُّ للوصولِ إلى حرِّيَّةِ الاختيارِ، بواسطةِ تقريراتٍ وسَفسَطاتٍ لا نهايةَ لها، بما يؤدِّي إلى الانسلاخِ مِن الدِّينِ بالتدريج:

عن حُذَيفةَ بنِ اليَمَانِ رضيَ اللهُ عنه، قيل له: في يومٍ واحدٍ ترَكَتْ بنو إسرائيلَ دِينَهم؟ قال: «لا، ولكنَّهم كانوا إذا أُمِروا بشيءٍ، ترَكُوه، وإذا نُهُوا عن شيءٍ، رَكِبوه، حتى انسلَخُوا مِن دِينِهم، كما ينسلِخُ الرجُلُ مِن قميصِه»؛ رواه أبو نُعَيمٍ في «الحِلْية» (1/279).

2- نفيُ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ ينافي استقامةَ الحياةِ في مخاطَباتِ الناسِ ومعامَلاتِهم:

فهي دعوى لا تُقبَلُ في كلامِ البشَرِ؛ فكيف بالوحيِ الذي لا يأتيهِ الباطلُ مِن بينِ يدَيْهِ، ولا مِن خلفِه؟! فلو تعامَلْنا مع كلامِ البشَرِ بمثلِ هذا التعامُلِ، فجعَلْنا التوقيرَ لمجرَّدِ ألفاظِهم، وأعطَيْنا أنفُسَنا حرِّيَّةَ النظرِ في تفسيرِ كلامِهم بحسَبِ أَمزِجتِنا، وما يُمكِنُ أن نقدِّرَهُ مِن المعاني -: لما استقامَتْ حياةُ الناسِ، وكيف يزعُمُ زاعمٌ أن نصوصَ العلماءِ والفلاسفةِ، والدساتيرَ والأنظمةَ الأرضيَّةَ، وكلامَ البشَرِ عمومًا، كلُّها بيِّنةٌ واضحةٌ تُوصِلُ إلى معانٍ، بينما كلامُ اللهِ تعالى مقدَّسٌ لفظًا، لا يُدرَكُ معناهُ على القطع؟!

فيكفي في إبطالِ هذه الدعوى: أن يُعلَمَ أن النصَّ لا يُمكِنُ أن يكونَ مفتوحًا في أنظمةِ البلدانِ ودساتيرِها، فيكونُ مسوَّغًا لكلِّ أحدٍ أن يَقرَأَهُ على وجهٍ يحقِّقُ له ما يريدُ مِن مخالَفةٍ؛ فالعقوبةُ تَنزِلُ عليه، ويُعتبَرُ نظَرُهُ وقراءتُهُ لنظامِ البلدانِ والسياسةِ خطأً لا يَرفَعُ العقوبةَ عنه، وكثيرٌ مِن صراعِ السياساتِ والدُّوَلِ مع مخالفِيها والمتمرِّدينَ على قراءتِها الواضحةِ بالهَوَى مِن هذا النوع، فتُراقُ دماءٌ، وتُحبَسُ حرِّيَّاتٌ؛ لضبطِ نظامِ الحياةِ، وضبطُ الدِّينِ على أمرِ اللهِ تعالى المحكَمِ البيِّنِ، أَوْلى، وتركُ الأوامرِ الظنِّيَّةِ رحمةٌ بالناسِ وسَعَةٌ يختلِفون فيها.

3- مَن يَنْفي القراءةَ المعياريَّةَ للوحيِ، سيتناقَضُ عندما يتعامَلُ مع النصوصِ الوضعيَّةِ البشَريَّة:

فإن مَن يتعامَلُ مع النصِّ بهذه الطريقةِ، لا يلتزِمُ المنطقَ ذاتَهُ عند محاكَمةِ الفكرةِ التي ينطلِقُ منها؛ فالاختلافُ الواقعُ في تفسيرِ النصِّ الدينيِّ وقَعَ مِثلُهُ في المذاهبِ الوضعيَّةِ الحديثةِ؛ فاللِّيبْرَاليَّةُ مثلًا ليست شيئًا واحدًا؛ بل ثَمَّ لِيبْرَاليَّاتٌ متعدِّدةٌ في الواقع، وكذا المارْكِسيَّةُ والاشتراكيَّةُ والرأسماليَّةُ والشيوعيَّةُ والدِّيمُقْراطيَّةُ وغيرُها؛ كلُّها ليست في الواقعِ شيئًا واحدًا، وإنما ثَمَّ تطبيقاتٌ وتنظيراتٌ مختلِفةٌ؛ فهل يلتزِمون مع هذا التبايُنِ والاختلافِ أن تكونَ القداسةُ لألفاظِ هذه المفاهيمِ وعباراتِها، ويكونُ مِن حقِّ كلِّ أحدٍ أن يفسِّرَ أيَّ مصطلَحٍ بأيِّ معنًى يريدُ، حتى لو اجتمَعَتْ فيه التناقُضات؟!

ليس القصدُ هنا: أننا نُقِرُّ بأن هذه الأفكارَ والتيَّاراتِ هُلاميَّةٌ في الغالب، لا تَحمِلُ تصوُّراتٍ وأصولًا كلِّيَّةً مشترَكةً، وإنما المقصدُ: تَجْليَةُ الخلَلِ في سياسةِ الكَيْلِ بمِكْيالَيْنِ عند محاكَمةِ التشريعِ الإسلاميِّ مقارَنةً بغيرِه، فيركِّزُ على الاختلافِ داخِلَ النصِّ الدينيِّ؛ لإلغاءِ قُدْسيَّةِ الفهمِ مطلَقًا، وكأنَّ بقيَّةَ الأفكارِ تَخْلو مِن تعدُّدِ التطبيقات، وتبايُنِ النظريَّات!

4- نفيُ القراءةِ المعياريَّةِ للوحيِ، يستلزِمُ عدمَ الاعتراضِ على أقوالِ الخوارجِ والغلاةِ في فهمِ النصوص:

فحقيقةُ نفيِ المعنى مِن النصِّ المقدَّسِ ستؤُولُ إلى نتيجةٍ لا يتفطَّنُ لها كثيرٌ ممن يُطلِقُ مِثلَ هذه العبارةِ، وهي أنه لن يستطيعَ أن يرُدَّ أيَّ قولٍ أو فعلٍ فيه غلُوٌّ في الدِّينِ وهو مستنِدٌ إلى النصِّ؛ إذِ الجوابُ عن سؤالِ الغلُوِّ يستدعي قراءةً معياريَّةً للوحيِ، يَصِحُّ مِن خلالِها تصنيفُ الآخَرين إلى أهلِ غُلُوٍّ، وأهلِ جَفَاءٍ، فإذا أطلَقْتَ القولَ بنسبيَّةِ الحقِّ في الفهم، وزَعَمْتَ انعدامَ مثلِ هذه القراءةِ المعياريَّةِ الثابتة -: فليس لك سبيلٌ إلى تخطِئةِ مخالِفٍ لك في الفهم، مهما كان المخالِفُ غاليًا أو جافيًا. فالخوارجُ في القديمِ والحديثِ لهم قراءتُهم للنصِّ الدينيِّ؛ فهل يقولُ أولئك: «إن قراءتَهم للوحيِقراءةٌ اجتهاديَّةٌ مقبولةٌ، لا يَصِحُّ لأحدٍ أن يبادِرَ إلى تخطِئتِهم بإطلاقٍ، أو أن يُنكِرَ عليهم»؟! وهذه إشكاليَّةٌ معرفيَّةٌ تدُلُّ على قِصَرِ نَظَرِ كثيرٍ ممن يريدُ أن يُبيحَ لنفسِهِ حقَّ تفسيرِ القرآنِ بغيرِ أدواتِه، دون أن يتنبَّهَ أنه سيُعْطي هذا الحقَّ أيضًا لمن يَقِفُ في الضِّفَّةِ المقابِلةِ له تمامًا.