الصمد
كلمة (الصمد) في اللغة صفة من الفعل (صَمَدَ يصمُدُ) والمصدر منها:...
العربية
المؤلف | خالد بن علي أبا الخيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التوحيد - أهل السنة والجماعة |
التعليق على المسائل الثلاث، تلكم الأصول الثلاثة، الجامعة المانعة الشاملة، التي حوت ما يهم المرء دينه، وما يتعبد لله -عز وجل- به، فهي أصول متينة مبنية على الكتاب والسنة. قال: "اعلم –رحمك الله- أنه يجب علينا تعلم ثلاث مسائل والعمل بهن: الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا. بل أرسل إلينا رسولًا، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرك معه في عبادته أحد. لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل. الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حادَّ الله ورسوله. ولو كان أقرب قريب..
الخطبة الأولى:
أبدأ بالحمد مستعينا | راض به مدبرًا معينا |
أحمده سبحانه وأشكره | ومن مساوي عملي أستغفره |
وأستعينه على نيل الرضا | وأستمد لطفه فيما قضى |
وبعد إني باليقين أشهد | شهادة الإخلاص ألا يُعبد |
بالحق مألوه سوى الرحمن | من جل عن عيب وعن نقصان |
وأن خير خلقه محمدا | من جاءنا بالبينات والهدى |
رسوله إلى جميع الخلق | بالنور والهدى ودين الحق |
صلى عليه ربنا ومجدا | والآل والصحب دوامًا سرمدا |
أما بعد: عباد الله: فاتقوا الله حق تقواه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18].
معاشر المسلمين: مضى معنا في جمعة ماضية، في التعليق على المسائل الأربع من الأصول الثلاثة، للإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب، أجزل الله له الأجر والثواب، وفي هذه اللحظات في التعليق على المسائل الثلاث، تلكم الأصول الثلاثة، الجامعة المانعة الشاملة، التي حوت ما يهم المرء دينه، وما يتعبد لله -عز وجل- به، فهي أصول متينة مبنية على الكتاب والسنة.
وفي المقدمة الثانية ذكر الإمام المجدد في قوله: "اعلم –رحمك الله- أنه يجب علينا تعلم ثلاث مسائل والعمل بهن:
الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا ولم يتركنا هملًا. بل أرسل إلينا رسولًا، فمن أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار، والدليل قوله تعالى: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل: 15، 16].
الثانية: أن الله لا يرضى أن يُشرك معه في عبادته أحد. لا ملك مقرب، ولا نبي مرسل، والدليل قوله تعالى: (وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18].
الثالثة: أن من أطاع الرسول ووحد الله لا يجوز له موالاة من حادَّ الله ورسوله. ولو كان أقرب قريب، والدليل قوله تعالى: (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].
أيها الإخوة المسلمون: هذه المقدمة الجميلة، التي تبنت ثلاث مسائل عظيمة:
الأولى: أن الله خلقنا ورزقنا.
وابتدأها بقوله: اعلم. فإن كلمة: اعلم، يؤتى بها للأمور المهمة، والتأصيلات العقدية، في كثير من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، (لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الطلاق: 12]، (وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [البقرة: 260]، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يأتي بها للفت الانتباه، وإيقاظ الإنسان، فكان ذات مرة يعلم عبد الله بن عباس –رضي الله عنه- العقيدة: "احفظ الله يحفظك"، ثم قال: "واعلم أن الأمة لو اجتمعوا"، وفي هذا –أيها الأحبة- رأى النبي -صلى الله عليه وسلم- ذات مرة أبا مسعود البدري يضرب غلامًا له، والنبي -صلى الله عليه وسلم- خلفه، فقال: "اعلم أبا مسعود، أن الله أقدر منك عليه"، فأسقط السوط من يده وقال: لا ضربت عبدًا، هو حر لوجه الله. فاعلم –عباد الله- للانتباه، يقولها الخطيب والمتكلم والمعلم والمذكر.
ثم إن المصنّف –رحمه الله- دعا لك بالرحمة، والرحمة هي مغفرة ما مضى من الذنوب، والعصمة فيما بقي من العمر من الذنوب، وإذا اجتمعت الرحمة والمغفرة في سياق واحد، فالمغفرة لما مضى، والرحمة لما يُستقبل.
والثالثة: دعوة المصنف –رحمه الله-. حيث كان الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب كثيرًا ما يدعو للقارئ وللمستمع وللطالب، اعلم –رحمك الله-، اعلم –أرشدك الله-، اعلم –أحاطك الله-، وهذا إن دل على شيء دل على سلامة سريرته، وحسن مقصده، وفعلًا أعطاه الناس ما تمنى، فانتفع الناس بكتبه وبكلامه، رحمه الله رحمة الله واسعة.
ومن هذا يؤخذ: أنه ينبغي للعالم والمعلم أن يدعو لطلابه، لا سيما بالرحمة، فإنه افتتحها بالرحمة؛ لأنه إذا فتح على العبد من رحماته وهباته، نال ما تمنى، (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا) [فاطر: 2].
والرابع –أيها الأحبة- من العناصر: أن الله خلقنا ورزقنا. وفي هذا توحيد الربوبية، وهو توحيد الله بأفعاله، الإقرار بأن الله هو الخالق الرازق المالك المدبر المعطي المانع، الخافض الرافع، المعز المذل، سبحانه وبحمده.
والإقرار بهذا النوع وحده لا يكفي، ولا يُدخل العبد في الإسلام، فربنا يقول عن أهل الشرك والأصنام: (وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ) [لقمان: 25، الزمر: 38]، فتوحيد الربوبية وحده لا يكفي، ولا يُدخل العبد في الإسلام، لا بد له من صونه وأخيه، وهو توحيد الألوهية.
ولهذا: قال: إن الله خلقنا. والخلق هو الإيجاد، فالله خالق كل شيء سبحانه، والعباد والخلق لا يستطيعون خلق شعرة واحدة، ولهذا يحتج الله على المشركين الذين يعبدون غيره، بأن يخلقوا شيئًا، كما قال سبحانه: (أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ) [الأعراف: 191]، (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ) [الطور: 35]، إذن هم مخلوقون، الله خالقهم، فكيف تعبدونهم وتسألونهم، وتستغيثون بهم، وتطلبون منهم الشفاعة والوساطة؟
ولهذا –عباد الله-: بيّن في هذا أن الله هو الخالق وحده، وكذا الرازق وحده، والرزق –أيها الأحبة- هو من عند الله، (فَابْتَغُوا عِندَ اللَّهِ الرِّزْقَ) [العنكبوت: 17]، والرزق مقيد ومطلق:
مقيد: من الحلال وما ينفع الأبدان.
ومطلق: من حلال أو حرام، فكله يسمى رزقًا، ولهذا –أيها الأحبة- الله خالق هذا الخلق، وليس مخلوق بغير رزق، فالله خلق خلقه ورزقهم، (وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا) [هود: 6]، (وَكَأَيِّن مِن دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا) [العنكبوت: 60]، سبحانه وبحمده.
وكيف أخاف الفقر والله رازقي | ورازق هذا الخلق في العسر واليسر |
تكفل بالأرزاق للخلق كلهم | وللضب في البيداء والحوت في البحر |
وما أجمل قول الشافعي:
توكلت في رزقي على الله خالقي | وأيقنت بأن الله لا شك رازقي |
فما كان من رزق فليس يفوتني | ولو كان في قاع البحار العوامق |
سيأتي به الله الكريم بفضله | ولو لم يكن مني اللسان بناطق |
فكيف لأي شيء تذهب النفس حسرة | وقد قسم الرحمن رزق الخلائق |
والرزق –أيها الإخوة- باعتبار آخر ينقسم إلى قسمين:
رزق الأبدان، ورزق القلوب:
رزق الأبدان: الطعام والشراب.
ورزق القلوب: العلم والإيمان، والهدى والصلاح، كما قال ابن القيم –رحمه الله-:
وكذلك الرزاق من أوصافه | والرزق في أفعاله نوعان |
رزق القلوب العلم والإيمان | والرزق المعد لهذه الأبدان |
والرزق –أيها الأحبة- لا يُطلب إلا من الله، ورزقك مكتوب وأنت في بطن أمك، ولهذا: في القرآن كثير ما يقرن ربنا سبحانه وبحمده خلقه برزقه، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً) [البقرة: 21، 22]، وكما قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) [فاطر: 3].
وفي هذا لفتة مباركة، وإشارة جميلة: وهي أن الذي خلقك وأوجدك، هو الذي تولى رزقك، فاللهم: أوسع لنا من الرزق الحلال، واصرف عنا فسقة الإنس والجان.
ومن العناصر –أيها الأحبة-: توحيد الرسالة. بل أرسل إلينا رسولًا، وهو محمد بن عبد الله، صلوات الله وسلامه عليه، أرسله الله إلى هذه الأمة، (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ) [الأعراف: 158]، فمن فضل الله وكرمه وإحسانه، أن الله أرسله إلى هذه الأمة، (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [آل عمران: 164]، هذا الرسول الكريم الذي هو بالمؤمنين رؤوف رحيم، صلوات الله وسلامه عليه.
يا رب إن ذنوبي في الورى كثرت | وليس لي عمل في الحشر ينجيني |
وقد أتيتك بالتوحيد يصحبه | حب الرسول وهذا القدر يكفيني |
ومن العناصر –أيها الأحبة-: الطاعة لرسول الأمة -صلوات الله وسلامه عليه- كما أخبر الله في كتابه، في غير ما موضع من بيانه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ) [النساء: 59، وغيرها]، ولهذا: ما أرسل الله الرسل إلا لأجل الطاعة، (وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ) [النساء: 64].
إذن –أيها الأحبة-: من أطاع رسوله دخل جنته، ومن عصى رسوله دخل ناره، كما قال الله -عز وجل-: (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [النساء: 13، 14].
ولهذا –أيها الأحبة-: في البخاري عن الرسول الهادي: "كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى"، قالوا: ومن يأبى يا رسول الله؟. قال: "من أطاعني دخل الجنة، ومن عصاني فقد أبى"، وفي مسلم –أيها الأخ المسلم-: "ومن يطع الله ورسوله فقد رشد"، ولهذا كانت طاعته سببًا لمرافقته، (وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً) [النساء: 69].
ولهذا: قال المؤلف محمد بن عبد الوهاب: بل أرسل إلينا رسولًا، من أطاعه دخل الجنة، ومن عصاه دخل النار. ثم استدل بقوله: (إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل: 15، 16].
ووجه الدلالة –أيها الإخوة-: أن من خلاف أمر الله وأمر رسوله فقد تولى، فقد تسبب لنفسه في الهلاك والدمار، قال تعالى: (فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً) [المزمل: 16]، أي: شديدًا مهلكًا، فالمعنى: احذروا أنتم أيها الأمة أن تعصوا رسولكم، فيحل بكم ما حل بهم، ويحصل لكم ما حصل لهم، من النكال والوبال، "وجُعل الذل والصغار على من خالف أمري".
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه وتوفيقه، والشكر له على فضله وامتنانه.
ومن العناصر –أيها الأحبة-: المسألة الثانية: وهي مسألة الألوهية، وهي لُبّ الموضوع، وهي التي وقع فيها الخصام بين الأنبياء وأممهم، وهي أن الله لا يرضى أن يُشرك معه في عبادته أحد، أن يُجعل معه إله آخر، لا صنم، ولا وثن، ولا جن، ولا شيطان، ولا دنيا، ولا هوى، ولا غير ذلك، لا يرضى أن يُشرك معه في عبادته أحد، حتى ولا ملك مقرب، قريب من ربه، لا يعصى الله -عز وجل-، لا يجوز دعاؤه، ولا نبي مرسل، فضله واختصه الله برسالته، فإذا كان لا يصح دعاؤه وسؤال الملائكة، ولا الأنبياء، فكيف بغيرهم؟ فغيرهم من باب أولى.
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) [الجن: 18]؛ هذه المساجد المبنية للصلوات الخمس، وللجمع والجماعة، أو المساجد هي أعضاء الإنسان في سجوده، "أُمرت أن أسجد على سبعة أعظم"، أو المساجد الصلاة، (خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ) [الأعراف: 31]: أي عند كل صلاة، أو المقصود بالمساجد الأرض كلها، "جُعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا"، فأين كان فالمعنى واحد، لا يجوز دعاء غير الله، لا في المساجد، ولا فوق الأرض، وفي أعضاء الإنسان.
(وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ) تشريفًا وتكريمًا، (فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً) [الجن: 18]؛ أي: فلا تعبدوا مع الله أحدًا. و(أَحَداً): نكرة في سياق النهي تعم جميع الأشياء، والنكرات في سياق النهي تعطي العموم، أو سياق النفي، فلا تدعوا مع الله أحدًا كائنًا من كان، لا ملك، ولا نبي، ولا ولي، ولا صالح، ولا طالح، ولا جماد، ولا رطب، ولا كائن من كان.
إذن: في هذه المسألة إفراد الله بالعبادة، (أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ) [المؤمنون: 32]: هو توحيد الألوهية، الذي أنزل الله لأجله الكتب، وشرع الشرائع، وفرض الجهاد، وجعل المنزلة إلى جنة أو نار، لأجل عبادته وحده لا شريك له، ولهذا لا يرضى الله أن يُدعى معه إله آخر، (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً) [المائدة: 3]، (وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ) [الزمر: 7]، وفي صحيح مسلم: "إن الله يرضى لكم ثلاثًا: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا".
إذن: توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية متلازمان، لا ينفك أحدهما عن الآخر:
الأول: توحيد الله بأفعاله.
والثاني: توحيد الله بأفعال عباده.
وكثيرًا ما كان يقرر الإمام محمد بن عبد الوهاب مقالة جميلة: إذا كان الله واحدًا في أفعاله، فاجعله واحدًا في أفعالك. وتلكم توحيد الربوبية والألوهية.
والمسألة الثالثة –أيها الأحبة-: توحيد الولاء والبراء. والولاء والبراء أوثق عرى الإسلام، "أن تُحب في الله، وأن تُبغض في الله، وأن توالي في الله، وأن تُعادي في الله"، فالمؤمن والمسلم أخوك ولو كان بعيد الدار، والكافر والمشرك عدوك ولو كان قريب الدار، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ) [التوبة: 23]، (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة: 24]، فالولاء والبراء من أوثق عرى الإيمان.
أتحب عدوي ثم تزعم أنني | حبيبك؟! إن الود عنك لعازب |
فلهذا: جاء في صحيح مسلم: لما قيل للنبي -صلى الله عليه وسلم-: إن آل أبي فلان. فقال: "إن آل أبي فلان ليسوا لي بأولياء، إنما وليي الله ورسوله وصالح المؤمنين".
أتحب عدوي ثم تزعم أنني | حبيبك؟! إن الود عنك لعازب |
ولهذا: يقول شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله-: "من كان مؤمنًا وجبت محبته من أي صنف كان، ومن كان كافرًا وجبت عداوته من أي صنف كان".
فلهذا –أيها الإخوة-: نال الخصال الجميلة، والأجور العظيمة، لمن عادى في الله، وأبغض في الله، (لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ) [المجادلة: 22]: أي يحبون ويناصرون، (مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ) [المجادلة: 22]: وهم الكفار، ولو كان أقرب قريب، (وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) [المجادلة: 22]: ابتدأ من الأعلى إلى الأدنى، (أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ) [المجادلة: 22]: هذه الخصلة الأولى، ثبته الله وجمعه، (وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ) [المجادلة: 22]: بنور وهدى من الله، (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا) [الشورى: 52]، (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا) [المجادلة: 22]، ورضي الله عنهم ورضوا عنه، وجعلهم من حزبه، والسابعة: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22]، والفلاح هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.
إذن –أحبتي في الله-: تأملوا هذه المسائل الثلاثة: وهي توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتجريد الولاءة والبراء لله -عز وجل-.
والله أعلم.