الشهيد
كلمة (شهيد) في اللغة صفة على وزن فعيل، وهى بمعنى (فاعل) أي: شاهد،...
العربية
المؤلف | إبراهيم بن محمد الحقيل |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات - الصيام |
يظن كثير من الناس أن التوبة لا تكون إلا للمسرفين على أنفسهم في العصيان، وأن المحافظ على الفرائض، المجتنب للنواهي لا يحتاج إلى التوبة، وهذا غرور وظن سيئ؛ إذ التوبة مطلوبة من العبد ولو كان أعبد الناس وأزهدهم، وأتقاهم وأورعهم وأعلمهم، وكلما كان العبدُ أعلم بربه كان أكثر توبة وإنابة واستغفاراً. هذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمُ الخلق بربه، وأتقاهم له، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو مع ذلك أكثرُ الناس توبة..
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
وبعد، فإن أصدق الحديث كلام الله –تعالى-، وخير الهدي هدي -محمد صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
أيها المؤمنون:
فَضْلُ الله -تعالى- على عباده المؤمنين ليس يحصيه العد، ولا يحدُه الحدّ؛ بل هو عامٌ شامل مطلق، خلقهم فأحسن خلقهم، وصورهم فأحسن صورهم، ورزقهم وأعطاهم، ثم وفقهم للحسنى فهداهم، وفتح لهم باب الرجعة إن ضلوا الطريق، أو أزاغهم الشيطان.
ولا يزال البابُ مفتوحاً ما دامت الشمس تطلع من مشرقها، ما لم يغرغر العبدُ بالموت.
والعبد يحتاج التوبة في كل وقت؛ لأنه يخطئُ في كل وقت، وقد يشعر بخطئه وقد لا يشعر، فكان لا بد أن يلازم التوبة في ساعاته وأيامه.
والتوبةُ عبادة وقُربة قبل أن تكون استعتاباً ورجعة، بل هي من أعظم العبادات وأجلها؛ إذ بها تنال محبة الله -تعالى-: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) [البقرة: 222]، قال بعض العلماء: «دعوت الله -سبحانه وتعالى- ثلاثين سنة أن يرزقني توبة نصوحاً، ثم تعجبت في نفسي وقلت: سبحان الله، حاجة دعوت الله فيها ثلاثين سنة فما قُضيت إلى الآن، فرأيت فيما يرى النائم قائلاً يقول لي: أتعجب من ذلك؟! أتدري ماذا تسأل الله –تعالى-؟ إنما تسأله –سبحانه- أن يحبك، أما سمعت قول الله تعالى: (إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ المُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222] (انظر: غذاء الألباب للسفاريني: 2/590).
والتوبة النصوح هي: ترك الذنب وعدم العودة إليه، عرّفها بذلك عمر -رضي الله عنه-. (هكذا جاء عن عمر كما في مستدرك الحاكم وصححه ووافقه الذهبي (2/495) (صحيح مسلم 121).
والمغفرة تحصل للعبد إذ حقّق التوبة (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى) [طه:82]، والفلاح معلق بالتوبة (وَتُوبُوا إِلَى اللهِ جَمِيعًا أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [النور:31]، (فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ المُفْلِحِينَ) [القصص:67] .
ومهما عمل العبد من السيئات، وارتكب من الموبقات؛ بل لو وقع في الشرك والكفر ثم تاب؛ تاب الله عليه، ذلك أن الإسلام يَجُبُّ ما كان قبله، وأن التوبة تهدم ما كان قبلها. (كما في حديث عمرو بن العاص عند مسلم: 121).
وروى أبو هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «لو أخطأتم حتى تبلغ خطاياكم السماء ثم تبتم لتاب عليكم» (أخرجه ابن ماجه: 4248، وحسنه البوصيري في الزوائد (3/307) .
ومن عظيم أثر التوبة: تبديل السيئات إلى حسنات، فتنقلب سيئات العاصي بعد التوبة النصوح إلى حسنات، وتبيض صحائفه بعد أن كانت سوداء (إِلَّا مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الفرقان:70]، عن أبي الطويل شَطْب الممدود -رضي الله عنه- «أنه أتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: أرأيت من عمل الذنوب كلها، ولم يترك منها شيئاً، وهو في ذلك لم يترك حاجَّة ولا داجَّة إلا أتاها، فهل لذلك من توبة؟ قال: «فهل أسلمت؟» قال: أما أنا فأشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله، قال: «تفعلُ الخيرات، وتترُك السيئات، فيجعلهن الله لك خيرات كلّهن» قال: وغدراتي وفجراتي؟ قال: «نعم»، قال: الله أكبر فما زال يكبر حتى توارى» (أخرجه البزار كما في كشف الأستار (3544) والطبراني في الكبير (7/314) برقم (7235)، وقال الحافظ: على شرط الصحيح (2/152).
والتوبة تشمل الإسلام كله، وهي غاية المؤمن في جميع أحواله وأوقاته، يقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: «التوبة هي دين الإسلام، والدين كله داخل في مسمى التوبة، وبهذا استحق التائب أن يكون حبيب الله؛ فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وإنما يحب الله من فعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه؛ فإذاً التوبة هي الرجوع عما يكرهه الله ظاهراً وباطناً إلى ما يحبه ظاهراً وباطناً، ويدخل في مسماها الإسلام والإيمان والإحسان، وتتناول جميع المقامات.
ولهذا كانت غاية كلِ مؤمن، وبداية الأمر وخاتمته، وهي الغايةُ التي وُجد لأجلها الخلق، والأمر بالتوحيد جزءٌ منها؛ بل هو جزؤها الأعظم الذي عليه بناؤها، وأكثر الناس لا يعرفون قدر التوبة ولا حقيقتها، فضلاً عن القيام بها علماً وعملاً وحالاً، ولم يجعل الله -تعالى- محبته للتوابين إلا وهم خواص الخلق لديه، ولولا أن التوبة اسمٌ جامع لشرائع الإسلام، وحقائقِ الإيمان، لم يكن الربُ -تعالى- يفرح بتوبة عبده ذلك الفرح العظيم، فجميع ما يتكلم فيه الناسُ من المقاماتِ والأحوال هو تفاصيلها وآثارها» اهـ. (انظر: مدارج السالكين (1/306-307).
أيها الإخوة:
ومن رحمة الله -تعالى- أنه يقبل توبة عبده في أي وقت من ليل أو نهار، ويفرح بها أشدَّ الفرح مع أنه -تعالى- لا تنفعه طاعة الطائعين، ولا تضره معصية العاصين، روى أبو موسى الأشعريُ -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «إن الله عز وجل يبسط يده بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها». (أخرجه مسلم 2759).
ومن رأفة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقومه ورحمته لهم أن اختار لهم المهلة على العذاب، رغم ما لحقه منهم من صدود وأذى شديد، وما ذاك إلا رجاء أن يتوبوا، عن ابن عباس -رضي الله عنه-ما قال: قالت قريش للنبي -صلى الله عليه وسلم-: «ادعُ ربك يجعلْ لنا الصفا ذهباً؛ فإن أصبح ذهباً اتبعناك، فدعا ربه فأتاه جبريل -عليه السلام- فقال: «إن ربك يُقرئك السلام ويقول لك: إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً فمن كفر منهم عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين، وإن شئتَ فتحتُ لهم باب التوبة والرحمة، قال: بل بابُ التوبة والرحمة» (أخرجه أحمد (1/345) والحاكم وصححه ووافقه الذهبي: 4/240).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ * وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ العَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ) [الزُّمر: 53- 55].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فاتقوا الله -تعالى- وتوبوا إليه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ) [التَّحريم: 8].
أيها المؤمنون:
يظن كثير من الناس أن التوبة لا تكون إلا للمسرفين على أنفسهم في العصيان، وأن المحافظ على الفرائض، المجتنب للنواهي لا يحتاج إلى التوبة، وهذا غرور وظن سيئ؛ إذ التوبة مطلوبة من العبد ولو كان أعبد الناس وأزهدهم، وأتقاهم وأورعهم وأعلمهم، وكلما كان العبدُ أعلم بربه كان أكثر توبة وإنابة واستغفاراً.
هذا رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- أعلمُ الخلق بربه، وأتقاهم له، وقد غُفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، وهو مع ذلك أكثرُ الناس توبة يقول -عليه الصلاة والسلام- «والله إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة» (أخرجه البخاري: 6307).
وقال ابن عمر -رضي الله عنهما-: "إن كنا لنعد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- في المجلس الواحد مئة مرة من قبل أن يقوم: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الرحيم» (أخرجه أبو داود: 1516، والترمذي: 3430، وابن ماجه: 3814).
وأكثر شيء يردُّ الناس عن التوبة أو يجعلهم يسوّفون فيها: طولُ الأمل في الدنيا، وما يتقلبون فيه من نعيم. وإلا فإن المصائب إذا نزلت بالعبد أسرع للتوبة، وإذا نزل بلاء عام على العباد رأيت كثرة التائبين.
فحذارِ -أيها الإخوة- أن ينسينا طولُ الأمل المبادرة إلى التوبة، قال يحيى بن معاذ: «الذي حجب الناس عن التوبة طولُ الأمل، وعلامةُ التائب إسبالُ الدمعة، وحبُّ الخلوة، والمحاسبةُ للنفس عند كل همّه». (انظر: ذم الهوى لابن الجوزي: 174).
أيها الإخوة:
وها هو ذا رمضان قد أقبل بخيره وإحسانه، فلا أجمل من أن نشكر الله -تعالى- على نعمته بتجديد التوبة، وكثرة الاستغفار، والمحافظةِ على الطاعة، واجتنابِ المعصية، ومن يدري لعل منا من لا يدركُ آخره، أو يصومُ بعضه، ولا يدركُ أكثره، بل لعل منا من لا يدرك منه شيئاً.
فاتقوا الله ربكم، والزموا التوبة في أحيانكم كلها؛ فإن العمر مهما طال قليل، والموعد مهما استبطأه الناس قريب، وسوف يجد كل عبد ما عمل من خير وشر (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَءُوفٌ بِالعِبَادِ) [آل عمران:30].
ألا وصلوا وسلموا على نبيكم كما أمركم بذلك ربكم...