الحكيم
اسمُ (الحكيم) اسمٌ جليل من أسماء الله الحسنى، وكلمةُ (الحكيم) في...
العربية
المؤلف | محمد بو سنه |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | المنجيات |
ما منا أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يُختم له بسوء الخاتمة. وما الذي أمّنه منه والخاتمة مُغيَّبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة، والنفس كما ترى، والشيطان منها وهي تدري، وهي مُصغية ومستمعة إليه...
الخطبة الأولى:
وبعد:
اعلم -رحمك الله-: أن أمر الخاتمة وما يحذر من سوئها، أمر إذا ذكرته حقّ ذكره، ازداد قلبك خوفاً، وخشية من الله، فابتعدت عن معصيته، وسارعت إلى طاعته.
ولولا أن الله -عزّ وجل- حدّد الآجال، لزهقت الأنفس عند أول ذكره، ولكنها مربوبة مُدبَّرة مأمورة مُصرَّفة تخرج إذا أُذن لها في الخروج.
وما منا أحد إلا ويخاف أن يكون ممن يُختم له بسوء الخاتمة.
وما الذي أمّنه منه والخاتمة مُغيَّبة، والعاقبة مستورة، والأقدار غالبة، والنفس كما ترى، والشيطان منها وهي تدري، وهي مُصغية ومستمعة إليه، قال تبارك وتعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ) [يوسف: 53] فهي مُلتفتةٌ نحو الشيطان، مُقبلة عليه.
وقد جاء في الخبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "إن الرجل ليَعمل عمَل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإن الرجل ليعملُ عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم".
فانظر -رحمك الله- كيف تَقَرّ عين عاقل في هذه الدار؟ وكيف يستقر له فيها قرار مع هذه الحال وتوقُّع هذا المآل، واشتغال هذا الخاطر، وتقسيم هذا البال؟
كلا، لا حلول له ولا قرار، ولا ريع ولا دار، ولا قلب إلا مُستطار، ولا نوم ينامه إلا غرار، حتى يدري أين مسقط رأسه، ومَحطُّ رحله، وموضع رجله، وما المورد والمنهل، وفي أيّ المحالّ يحل؟ وفي أي المنازل ينزل؟
وكيف تنام العين وهي قريرة | ولم تدرِ في أي المكانين تنزل |
لكنّ حجاب الغفلة الذي غطّى قلوبنا كثيف، فلا ترى ما وراءه، والوقر الذي في آذاننا عظيم، فلا نسمع من ناصح دعاءه، جاء في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنّه قال: "يُجاء بالموت يوم القيامة كأنّه كبش أملح فيُوقف بين الجنة والنار، فيقال: يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ فَيشرَئبون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، ثم يُقال: يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ فيشرئبّون وينظرون، ويقولون: نعم هذا الموت، فيُذبَح، ثم يقال: يا أهل الجنة خلود فلا موت، ويا أهل النار خلود فلا موت" ثم قرأ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ) [مريم: 39].
فانظر -رحمنا الله وإياك- إلى عظيم هذه الغفلة، وكثافة حجابها، وكيف منعت من النظر في هذا الحديث، والتفكير فيه، والعمل بمقتضاه.
وقيل: يا ابن آدم الأقلام تجري وأنت في غفلة لا تدري.
يا ابن آدم دع الغنى والأوطان والمنازل والديار والتنافس في هذه الدار، حتى ترى ما فعلتْ في أمرك الأقدار، وقد بكى أولوا الألباب على هذا، فأكثروا وسهروا من أجله الليالي الطويلة، وذلك للعلم الذي لاح لهم، والتأييد الذي شمَلهم، والتوفيق الذي قطع عنهم ما صدّهم عن طريق الله -عزّ وجل-، ثم تذكّروا ما هم مُعرَّضون له، فعادوا لما كانوا عليه من الاجتهاد، وربما زادوا عليه وأكثروا.
ومع هذا، فإنهم لشدة خوفهم من الله يظنّون كل إشارة إنما يُشار بها إليهم، كما رُوي أن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سمع قارئاً يقرأ: (إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ) [الطور: 7] فقال: هذا قسَم حق، فظن أن العذاب قد وقع به، فغُشي عليه.
وسمع آخرُ قارئاً يقرأ قوله تعالى: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ) [الحاقة: 30] أو آية نحوها، فغُشي عليه.
فاسلك -يا أخي- على منهاج هؤلاء العقلاء، والتمس على آثار هؤلاء الفُضلاء، وأَدِم حسرتك، وصِل البكاء بالبكاء، والأسى بالأسى، حتى تنكشف لك هذه الغشاوة، وتنجلي عنك هذه العماية.
بكى سفيان الثوري ليلة إلى الصباح، فقيل له: أتبكي على الذنوب؟ فأخذ تِبْنةً من الأرض وقال: الذنوب أهون من هذه، إنما أبكي خوفاً سوء الخاتمة.
وما ذلك إلا لأن سوء الخاتمة أمر صعب ينبغي أن يهتمّ له كل عبد.
ولذلك قيل: لا تكفّ دمعك حتى ترى في المعاد مكانك، ولا تُكحّل عينك بنوم حتى ترى ما لك بعد اليوم، ولا تبِت وأنت مسرور حتى تعلم عاقبة الأمور.
وقد علمتَ -أخي- أن الناس صنفان: صِنف مُقرّبٌ مُصان، وصنف مُبعد مُهان.
صنف نُصِبت له الأسِرّة والأرائك، وجُمعت له الآمال والرغائب.
وصنف أُعدت له المقامع والأغلال، وأنواع الأهوال والسلاسل والغِسلين والزّقوم والضّريع والحميم، وأنت لا تعلم من أي الصنفين أنت، ولا في أي الفريقين كُتبت.
إخواني: إنّكم في دار هي محل العبر والآفات، وأنتم على سفر، والطريق كثيرة المخالفات، فتزودوا من دنياكم قبل الممات، وتداركوا هفواتكم قبل الفَوات، وحاسبوا أنفسكم وراقبوا الله في الخلوات، وتفكّروا فيما أراكم من الآيات.
وبادروا بالأعمال الصالحات، واستكثروا في أعماركم القصيرة من الحسنات قبل أن ينادي بكم منادي الشّتات، قبل أن يُفاجئكم هادم اللذات قبل أن يتصاعد منكم الأنين والزَفًرات، قبل أن تنقطع قلوبكم عند فراقكم حسرات، قبل أن يغشاكم من غمّ الموت والغمرات، قبل أن تزعجوا من القصور إلى بطون الخلوات، قبل أن يُحال بينكم وبين ما تشتهون من هذه الحياة، قبل أن تتمنوا رجوعكم إلى الدنيا وهيهات.
فاللهم اختم بالأعمال الصالحات أعمارنا، وحقق بفضلك آمالنا، وحسّن في جميع الأحوال أعمالنا، والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
ثم اعلم أن لسوء الخاتمة -أعاذنا الله منها- أسباباً، وأن لها طُرقاً وأبواباً؛ أعظمها: الإقبال على الدنيا، والحرص عليها، والإعراض عن الآخرة، والانغماس في المعصية.
وربما غلب على الإنسان ضرب من الخطيئة ونوع من المعصية، وجانب من الإعراض عن الله والدار الآخرة، فملك قلبه، وسبى عقله، وأطفأ نوره، فلم تنفع فيه تذكرة، ولا نجعت فيه موعظة، فربما جاء الموت على ذلك فسمع النداء من مكان بعيد، فلم يتبيّن المراد ولا علم ما أراد، وإن أعاد عليه وأعاد.
ويُروى أن رجلاً نزل به الموت، فجعل ابنه يقول له: قل "لا إله إلا الله" فقال: الدار الفلانية أصلحوا فيها كذا وكذا، والجنان الفلانية افعلوا فيها كذا وكذا.
ونُقِل عن تاجر أنه كان يُلقَّن عند الموت كلمتي الشهادتين فيقول: خمسة، ستة، أربعة، فكان مشغولاً بالحساب الذي طال له إلفه، فغلب على لسانه، ولم يُوفَّق للشهادتين.
وقيل لآخَر قل "لا إله إلا الله" فجعل يهذي بالغناء، وقال: ما ينفعني ما تقول ولم أدَع معصية إلا ارتكبتها ثم مات.
وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله" فقال: وما يغني عنّي وما أعلم أني صليّت لله صلاة ثم مات ولم يَقلها.
وقيل لآخر: قل "لا إله إلا الله" فقال: أنا كافر بما تقول ثم مات.
وقيل لآخر" قل "لا إله إلا الله" فقال: كلما أردت أن أقولها فلساني يُمسك عنها.
قال ابن القيم -رحمه الله-: أخبرني من حضَر بعض التّجار عند الموت فجعلوا يُلقِّنونه "لا إله إلا الله" وهو يقول: هذه القطعة رخيصة، هذا المبيع جيد.
وسبحان الله كم شاهد الناس من هذا عِبَراً، والذي يخفى عليهم من أحوال المحتضرين أعظم.
فإذا كان العبد في حال حضور ذهنه وقوّته قد تمكّن منه الشيطان واستعمله بما يُريده من المعاصي، وقد أغفل قلبه عن ذكر الله، وعطّل لسانه عن ذكره وجوارحه عن طاعته، فكيف الظنّ به عند ضعفه واشتغال قلبه، وجمع الشيطان له كل قوته وهمّته لينال منه غرضَه، فأقوى ما يكون عليه الشيطان ذلك الوقت، وأضعف ما يكون هو في تلك الحالة: أي حالة نزع الروح فمن ترى يسلم على ذلك، فهنالك: (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاء) [إبراهيم: 27].
فكيف يُوفّق لحسن الخاتمة من أغفلَ الله قلبه عن ذكره، واتّبع هواه، وكان أمره فُرُطا؟
فمن كان قلبه غافلاً عن الله، عبداً لِهواه مُقيّداً بشهواته، ولسانه يابس من ذكره، وجوارحه معطّلة من طاعته مُشتغلة بمعصيته، فبعيد أن يُوفّق لحُسن الخاتمة.
إنه ليُخشى على صاحب المعاصي والمنكرات والذين اتخذوا آلات اللهو، يُخشى عليهم أن يكونوا مشغولين بها في آخر لحظة من حياتهم، فيكون خِتام صحيفتهم -والعياذ بالله- ما نطقت به ألسنتهم مما اعتادوه من المنكرات.
ثم اعلموا -عباد الله- أن سوء الخاتمة لا تكون لمن استقام ظاهره، وصلُح باطنه، وإنما تكون لمن كان له فساد وإصرار على الكبائر، وإقدام على العظائم.
فربما غلَب ذلك عليه حتى ينزل به الموت قبل التوبة، ويَثِب عليه قبل الإنابة، ويأخذه الموت قبل إصلاح نفسه، فيتخطّفه الشيطان عند تلك الدهشة.
فبادروا -رحمكم الله- بالأعمال الصالحة، فبين أيديكم أهوال من سكرات الموت صِعاب، وحشر وصراط وحساب، ويوم ياله من يوم، تنقطع فيه الأرحام والأنساب، ولا ينفع فيه الأهل والأموال والأصحاب، وما هو والله إلا نعيم في الجنان أو تقلّبٌ في العذاب.
انتبه يا من قادته الشهوات إلى الحفائر، ويا من دنّس الحرامُ منه الظاهر والباطن، انتبه يا من سبَقه القوم، وتخلّف في الشهَوات، وقسا قلبه بالمعاصي، وشاب رأسه وهو مُقيم على الزلاّت، إلى متى وأنت تُبارز بالمعاصي من يَعلَم الظواهر والخفِيّات، تيَقّظ يا مسكين فإنّك عن قريب ستندم على ما فاتك من اكتساب الباقيات الصالحات.
فاللهم إنا نسألك أن تعصِمنا من سوء الخاتمة، وأن تختِم أعمارنا بالصالحات، وأن تُثَبّت قلوبنا على دينك، وتصرفها إلى طاعتك إلى أن نلقاك وأنت راضٍ عنّا، يا رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.