الحميد
(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...
العربية
المؤلف | علي عبد الرحمن الحذيفي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الدعوة والاحتساب - الحكمة وتعليل أفعال الله |
وأما الحُدودُ فقد شرعَها الله –تعالى- لحفظِ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العِرض، والعقل، والمال، وليست تابعةً لهوى أحد، فحدُّ الردَّة للدين، وحدُّ القِصاص لحفظِ النفس، وحدُّ الزِّنا لحفظ العِرض، وحدُّ المُسكِرات والمُخدِّرات لحفظِ العقل، وحدُّ السرقة لحفظِ المال. فهذه الضرورات الخمس تُحفظُ بالوازِع الديني الذاتي...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي رحِم العبادَ بشريعتِه، وأفاضَ عليهم من خزائِن جُودِه وكرمِه ونعمتِه، قائمٌ على كل نفسٍ بما كسبَت، يُحصِي على كلٍّ عملَه فيُثيبُ على طاعتِه، ويحلُمُ على من عمِل بمعصيتِه، فلا يُعاجِلُه بعقوبتِه، فإذا تابَ فرِحَ ربُّه بتوبتِه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في إلهيَّته وربوبيته، وأشهد أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه الذي فضَّله الله على خليقتِه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آله وصحابتِه.
أما بعد:
فاتقوا الله تعالى وتوسَّلوا إليه بتقواه؛ تنالُوا حفظَه ورحمتَه ورِضوانَه، وتنجُوا من غضبِه وعقابِه وهوانِه.
معشر المسلمين: أُذكِّرُكم برحمةِ الله تعالى التي بشَّر الله بها العبادَ في بداية كلِّ سُورةٍ من القرآن، بقولِه - سبحانه -: (بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة: 1].
ووصفَ بهذه الرحمة التامَّة نفسَه في آياتٍ كثيرة، ووصفَ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - ربَّنا - جل وعلا - بالرحمة في أحاديث كثيرة أيضًا، قال الله - سبحانه -: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ) [الأعراف: 156].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله كتبَ كتابًا قبل أن يخلُل الخلقَ: إن رحمتِي سبقَت غضَبِي، فهو مكتُوبٌ عنده فوقَ العرش» (رواه البخاري من حديث أبي هريرة).
وأعظمُ رحمةٍ رحِمَ الله بها العبادَ: بيان الأسباب التي ينالُون بها كلَّ خيرٍ وسعادة وعزَّةٍ في حياتهم وبعد مماتِهم، وهي الاستجابةُ للربِّ الرحيم، ولرسولِه الأمين - عليه الصلاة والسلام -.
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ) [الأنفال: 24]، وقال - سبحانه -: (قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ) [النور: 54].
وتشريعُ الربِّ - جل وعلا - ينالُ به المُسلمُ الحياةَ الآمنةَ المُطمئنَّة السعيدة، ويدفعُ الله بهذا التشريعِ العقوبات في الدنيا والآخرة، وما شرعَ ربُّنا - عز وجل - للمُكلَّفين فهو إما أوامر واجبةٌ أو مُستحبَّة، أو نواهِي، أو حدودٌ وزواجِر ووعيد، أو تعزيرات، وكلُّها رحمةٌ من الله - تبارك وتعالى - لعباده، وخيرٌ وبركةٌ، ويُسرٌ وعدلٌ.
قال الله تعالى: (يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ) [البقرة: 185]، وقال تعالى: (وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى) [الأعلى: 8]، وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [المائدة: 6]، وقال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ) [النحل: 90]، فشريعةُ الله تُحقِّقُ للإنسان الحياةَ الطيبةَ في دُنياه، ويحيا في آخرته في جنَّات النعيم.
ويدفعُ الله بالعقوبات الشرعيَّة وبالحُدود العقوباتِ القدرية الكونية، فإذا أقامَ الناسُ أحكامَ الشرع دفع الله عنهم عقوبات الذنوب، وصرفَ عنهم الكوارِثَ والمُهلِكات في الدنيا، وعافاهم من عذاب الآخرة.
وإذا فرَّط الناسُ في أحكام الشرع عُوقِبَ المُفرِّطون بعقابِ القدَر الذي جعلَ الله في عقوبته جزاءً وحسابًا لكل معصِية، قال الله تعالى: (لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا) [النساء: 123].
وعقوباتُ القدَر على الذنوبِ شديدةٌ أليمةٌ، قال الله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) [هود: 102].
وفي الحديث: «إن الله ليُملِي للظالِم حتى إذا أخذَه لم يُفلِتْه» (رواه البخاري ومسلمٌ من حديث أبي مُوسَى - رضي الله عنه -).
وقال تعالى: (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج: 12]، وقال - سبحانه -: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ) [الأنعام: 65].
ومن رحمةِ الله تعالى بالعباد: أنه - سبحانه - لا يُعاجِلُ الظالمين بالعقوبة، بل يُمهِلُهم إلى أجَل، قال الله تعالى: (وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا) [الكهف: 58]، وقال تعالى: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى) [فاطر: 45].
وإذا أنزلَ الله - سبحانه - العقوبات القدَريَّة والكونيَّة بمن هو أهلٌ لها، عاقبَ بعقوبةٍ تُذكِّرُ بما هو أشدُّ منها، ليرجِع الخاطِئ، ويتوبَ الواقعُ فيما يُغضِبُ الربَّ - سبحانه -، قال - تبارك وتعالى -: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]، وقال - سبحانه -: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21]،
وقال - تبارك وتعالى -: (أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].
فمن تابَ قبِلَه الله - عز وجل -، ومن تمادَى وأصرَّ وعلِم الله أنه لا يرجِع، عاقبَه الله بقضائِه وقدَره بالعقاب الأليم، وأعظمُ عقابٍ في الآخرة هو جهنم وغضبُ الله. وعقوباتُ الشرع وتنفيذُ الحُدود ليست بشيءٍ بجانبِ عقوبات القدَر الدنيوية والأُخروية.
فتفكَّر - أيها الإنسان - في سعَة رحمة الله ولُطفه كيف شرعَ لك الأوامرَ والنواهِي، والأحكام والحُدود، ليقِيَك الله من عقوبات القدَر، وليدفَع الله بها عنك العذابَ الأليمَ في حياتِك وبعد مماتِك، وليسُوقَ إليك كلَّ خيرٍ بما شرَع، ويصرِفَ عنك بالشرعِ كلَّ شرٍّ.
واعتبِر واقتدِ بحال الصحابة - رضي الله عنهم - ومن تبِعَهم بإحسانٍ لما استجابُوا لدعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأحبُّوا الشريعةَ وأقامُوها، صرفَ الله عنهم عقوبات القدَر في الدنيا والآخرة، فصرفَ عنهم ما حلَّ بالأُمم الخالِية من الخِزيِ، والنّكال، وعقوبات الغرَق، والصَّيحة، والرَّجم، والرِّيح، والخَسف، والمَسخ، والاستِئصال بالهلاك.
وأحياهم الله في الدنيا أحسنَ حياة، وأعزَّهم، ومكَّن لهم في الأرض، ونصرَهم على الأعداء، مع قلَّة عددهم، وضعف عُدَّتهم، بتوحيدهم وإخلاصهم وتوكُّلهم وطاعتهم.
قال عُمر بن الخطاب - رضي الله عنه - أمير المؤمنين لقائِده سعد بن أبي وقَّاص - رضي الله عنه - في وصيَّته: "أما بعد .. فإني أُوصِيك ومن معك من الأجناد بتقوى الله على كل حال؛ فإن تقوَى الله أفضلُ العُدَّة على العدو، وأقوَى المكيدَة في الحرب.
وأن تكون أنت ومن معَك أشدَّ احتِراسًا من المعاصِي منكم من عدوِّكم؛ فإن ذنوبَ الجيش أخوَف عليهم من عدوِّهم، ولولا ذلك لم تكُن لنا بهم قُوَّة؛ لأن عددَنا ليس كعدَدهم، ولا عُدَّتُنا كعُدَّتهم، فإن استوَينا في المعصية كان لهم الفضلُ علينا في القوة، وإلا نُنصَر عليهم بطاعتنا لم نغلِبهم بقوَّتنا".
وجزاءُ الشرعِ للصحابة ومن تبِعَهم بإحسانٍ في الآخرة ما وعدَ الله في قوله: (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
أرأيتَ كيف يُجلَبُ كلُّ خيرٍ ويُصرَفُ كلُّ شرٍّ بالتمسُّك بهذا الدين الحقِّ؟ وكيف تنزِلُ البركات وتُصرَفُ عقوبات القدَر بالشرع في الدارَين.
وانظُر حالَ المُعرِضين عن دعوة النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمُنابِذين للشريعة، والمُحارِبين لتعاليم الإسلام، المُناوِئين لأولياء الله. انظُر كيف أحاطَت بهم عقوبات القدَر، فشقِيَت حياتُهم، وأذاقَهم الله الخزيَ والنَّكالَ والذلَّة والقلَّة والصَّغار، والهوانَ والخُسرانَ والشَّقاءَ والشُّرور والآفات في الدنيا.
قال الله تعالى: (وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) [التوبة: 40]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ) [المجادلة: 5]، وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ) [المجادلة: 20].
وقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «وجُعِلَت الذلَّةُ والصَّغارُ على من خالَفَ أمري».
وأما عقوبةُ القدَر في الآخرة للكافر فهي جهنم، قال الله تعالى: (قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 12].
فماذا تبغي - أيها المسلم - بعد هذا التكريم؟! وماذا فوقَ رحمة ربِّك الذي يأمرُك بكل خيرٍ وينهاك عن كل شرٍّ، ويرحمك، والذي فصَّل لك الأحكامَ، وسنَّ لك الحُدودَ والزواجِر.
الأوامرُ إعدادٌ لكمال الإنسان، وزكاةٌ وطهارةٌ للبدَن، وإمدادٌ للرُّوح، وقوَّةٌ لإرادة الخير، وتربيةٌ مُتكامِلة لبناء كل خُلُقٍ نبيل، وثباتٌ للقلوب، وتكريمٌ للإنسان، قال الله تعالى: (وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) [فاطر: 18]، وقال - سبحانه -: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) [الأعلى: 14، 15]، وقال تعالى: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) [الشمس: 9، 10].
وأولُ أمرٍ أمرَ الله به هو توحيدُ الله وعبادتُه، فمن حقَّق التوحيدَ ضمِنَ الله له الأمنَ في الدنيا والآخرة، وزكَّى نفسَه، قال الله تعالى: (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
وتكرَّرت الأوامِرُ بالقيام بأركان الإسلام، وهي: الشهادتان، والصلاة، والزكاة، والصيام، والحج، وبيان ما فيها من زكاةٍ وطهارة، وثوابٍ عظيم، ومنافِع وبركاتٍ للفرد والمُجتمع. ومن اطَّلع على النُّصوص تبيَّن له ذلك، فهي الأركان التي ينبني عليها كلُّ أمر، ويعودُ إليها كلُّ ترغيب.
وأما النواهِي فهي حمايةٌ للقلوب من أمراض الشُّبهات والشهوات، وحفظٌ للإنسان من الخبائِث والأضرار والمفاسِد والشُّرور؛ لأن المنهيَّات كالسُّموم للأبدان، والأوامر كالغِذاء للأبدان، قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ) [النحل: 90].
وأولُ ما نهى الله عنه الشركُ بالله - عز وجل -، لاشتِماله على المفاسِد والمضارِّ والشُّرور كلِّها، الدنيوية والأُخروية، وهو لا يُغفَر إلا بالتوبة، وما دونَه من الذنوب كلُّها تشترِكُ مع الشرك في طاعة الهوى وطاعة الشيطان، وكثيرٍ من المفاسِد، وبعضُ الذنوب أكثر من بعضٍ في المفاسِد والمضارِّ، وإن كانت غيرَ مُكفِّرةٍ لصاحبها مع عدم الشركِ بالله.
وأما الحُدودُ فقد شرعَها الله –تعالى- لحفظِ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العِرض، والعقل، والمال، وليست تابعةً لهوى أحد، فحدُّ الردَّة للدين، وحدُّ القِصاص لحفظِ النفس، وحدُّ الزِّنا لحفظ العِرض، وحدُّ المُسكِرات والمُخدِّرات لحفظِ العقل، وحدُّ السرقة لحفظِ المال. فهذه الضرورات الخمس تُحفظُ بالوازِع الديني الذاتي.
وأعظمُ ما تُحفظُ به إقامةُ الحُدود؛ لأن الله يزَعُ بالسلطان ما لا يزَعُ بالقرآن، وعلماءُ الأصول اعتنَوا بهذه الضرورات الخمس، ومن طعنَ في الحُدود وردَّها بعقلِه فقد افترَى على الله، وتجرَّأ عليه بزعمِه أنها إهدارٌ لحقوق الإنسان.
ومن أرحَمُ من الله؟ ومن أعلَمُ من الله؟ ومن أحكَمُ من الله؟ ومن أعدَلُ من الله؟ قال الله تعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة: 50].
والحُدود زواجِرُ عن فعلِ ما يُوجِبُ الحدَّ، وكفَّارةٌ للذنب، وحمايةٌ للحياة من العبَث والعُدوان، وفي الحديث: «إقامةُ حدٍّ في الأرض خيرٌ لأهلِها من أن يُمطَروا أربعين صباحًا» (رواه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه -).
والحدُّ كفَّارةٌ للمُسلم، لقول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأسلميِّ الذي رجَمَه: «والذي نفسي بيدِه؛ إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمِسُ فيها» (رواه أبو داود).
وصلَّى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على من أقامَ عليه حدًّا.
والدماءُ المعصُومة، والأموالُ المعصُومة من الضرورات الخمس التي عظَّمَتها كلُّ شريعة، وخاتمتُها شريعةُ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - سيِّد البشر.
وقد استُخِفَّ بهذه النفوس المُحرَّم قتلُها، واعتُدِي عليها بسَفك دمائِها، واعتُدِي على الأموال بإتلافِها، وعلى المساجِد والمُؤسَّسات من خوارِج العصر.
والإرهابُ من فتن هذا الزمان المُدمِّرة، قامَ به بعضُ غير المُسلمين، وبعضُ المُنتسِبين إلى الإسلام، والإسلام بريءٌ من عُدوانهم وظُلمهم وإجرامِهم، فأصبحَ الإرهابُ مكرُوهًا وشرًّا على الناس، وتضرَّر منه الناسُ في أماكن كثيرة، وأكثرُ البُلدان تضرُّرًا منه دولةُ الحرمين.
وإنشاءُ هذا الحِلف الإسلاميِّ العسكريِّ بقيادة دولة الحرمين لصدِّ الإرهاب عن الناس، واستبشرَ الناسُ خيرًا بهذا الحِلف الإسلاميِّ، ورأَوا بوادِر ثماره، ومن حقِّ الدول الإسلامية المُتحالِفة حمايةُ مُجتمعاتها، وتحصينُ شبابها، والحفاظُ على عقيدتهم من الانحِراف، ورعايةُ مصالحِها، وترسيخُ الأمن والاستِقرار، ودراسةُ السُّبُل التي تعودُ بكل خيرٍ ونفعٍ للعباد والبلاد.
والواجبُ أولاً وآخرًا على المُسلمين، دُولاً وشعوبًا أن ينصُروا قضايا المُسلمين، وأن يُحصِّنوا شبابَهم من غزو العقائِد المُنحرِفة التي تُخالِفُ عقيدةَ الإسلام، عقيدةَ الصحابة والتابعين، عقيدةَ الوسطية والاعتدال، وأن يُحصِّنُوا شعوبَهم من التفلُّت من تعاليم الإسلام، والمَيل إلى الشهوات والمُحرَّمات.
ونسألُ الله –تعالى- أن ينفعَ بهذا التحالُف الإسلاميِّ البلادَ والعبادَ، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ * وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران: 102، 103].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفَعَني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، ونفعَنا بهديِ سيِّد المرسلين وقوله القويم، أقولُ قولي هذا وأستغفِرُ الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفِروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله رب العالمين الذي جعلَ العاقبةَ للمُتقين، وسُوءَ المُنقلَب للظالمين، أحمدُ ربي وأشكرُه، وأتوبُ إليه وأستغفرُه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له القويُّ المتين، وأشهدُ أن نبيَّنا وسيِّدَنا محمدًا عبدُه ورسولُه سيِّدُ الأولين والآخرين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدِك ورسولِك محمدٍ، وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين.
أما بعد:
فاتَّقُوا الله واعبُدوه، فهو الذي ربَّاكم بالنِّعم، وصرفَ عنكم الشرَّ والنِّقَم.
أيها المُسلمون:
تفكَّروا في معاني قوله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].
فبالتعاوُن يجمعُ الله كلّ خيرٍ، ويندفعُ كلُّ شرٍّ، وبترك التعاوُن يفوتُ خيرٌ كثير، ويقعُ شرٌّ كثير.
معشر الشباب:
أقبِلوا على العلمِ النافِع، والعملِ الصالِح، واجتهِدوا لإصلاح دُنياكم وآخرتكم بأنواع العلوم، وبالعمل النافع المُفيد، واحذروا مزالِق الإرهاب ومسلكَ الخوارِج.
وإذا دُعيتَ إلى ذلك فانظُر إلى حالِ دُعاتهم في سيرتهم تعلَم بأنهم أصحابُ دُنيا وفتنة، وأن هرمَهم ووسائطَهم إليك مجهُولون يُريدون كلَّ شرٍّ بالأمة، يُريدون منك أن تُحارِبَ مُجتمعَك وأن تُحارِبَ رجالَ الأمن بالسلاح الذين هم في خدمة الأمة، يُريدون أن يخطِفوك من أحضان والدَيك، وأن يُلبِسُوك ثوبَ الخوف والهلاك والذلِّ والتشريد.
عباد الله:
(إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56]، وقد قال - صلى الله عليه وسلم -: «من صلَّى عليَّ صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا». فصلُّوا وسلِّموا على سيِّد الأولين والآخرين، وإمام المرسلين.
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما صلَّيتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيدٌ، اللهم بارِك على محمدٍ وعلى آل محمدٍ، كما بارَكتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميدٌ مجيد، وسلِّم تسليمًا كثيرًا.
اللهم وارضَ عن الصحابةِ أجمعين، اللهم وارضَ عن الخلفاء الراشدين، الأئمة المهديين، الذين قضَوا بالحقِّ وبه كانُوا يعدِلون: أبي بكرٍ، وعُمر، وعُثمان، وعليٍّ، وعن سائر الصحابة أجمعين، وعن التابعين ومن تبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، اللهم وارضَ عنَّا معهم بمنِّك وكرمِك ورحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، اللهم أعزَّ الإسلام والمُسلمين، وأذلَ الكفر والكافرين يا رب العالمين والمنافقين، إنك على كل شيءٍ قدير.
اللهم إنا نسألُك أن تخذل البدعَ كلَّها يا رب العالمين، اللهم أمِت البدعَ التي تُضادُّ دينَك الذي رحِمتَ به العالمين يا رب العالمين.
اللهم إنا نسألُك أن تنصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك يا قوي يا عزيز، يا رب العالمين.
اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا يا أرحم الراحمين، اللهم أغِثنا غيثًا مُغيثًا هنيئًا مريئًا، اللهم أغِثنا وارحَمنا رحمةً، وأنزِل علينا الغيثَ ولا تجعَلنا من القانِطين، اللهم سُقيا رحمةٍ، لا سُقيا عذابٍ ولا هدمٍ ولا بلاءٍ ولا غرقٍ يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر للمُسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لموتانا وموتى المُسلمين برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعِذنا من شُرور أنفسنا، اللهم أعِذنا من شُرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا.
اللهم أعِذنا وأعِذ ذريَّاتنا من إبليس وشياطينه وجنوده يا رب العالمين، وشَرَكه يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعِذ المُسلمين من الشيطان الرجيم وذريَّته وشَرَكه، إنك على كل شيءٍ قدير، اللهم أعِذنا من شرِّ كل ذي شرٍّ برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم عافِنا، اللهم إنا نسألُك العافيةَ في ديننا، اللهم عافِنا في ديننا، وعافِنا في دُنيانا يا أرحم الراحمين، اللهم أعِذنا والمُسلمين من مُضلَّات الفتن، اللهم أعِذنا وذريَّاتنا والمُسلمين من مُضلَّات الفتن ما ظهر منها وما بطَن، برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم لا تكِلنا إلى أنفُسنا طرفةَ عينٍ، وأصلِح لنا شأنَنا كلَّه، اللهم أصلِح لنا شأنَنا كلَّه، وأصلِح لنا دينَنا ودُنيانا برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أحسِن عاقبَتنا في الأمور كلِّها، وأجِرنا من خِزي الدنيا وعذابِ الآخرة يا ذا الجلال والإكرام، وثبِّتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
اللهم آمنَّا في دُورنا، وأصلِح اللهم وُلاةَ أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادمَ الحرمين الشريفين لما تحبُّ وترضَى، اللهم وفِّقه لهُداك، واجعل عملَه في رِضاك، اللهم انصُر به دينَك، وأعلِ به كلمتَك يا رب العالمين، اللهم وارزُقه الصحةَ والعافية يا رب العالمين، اللهم وفِّقه للرأي السديد، والعمل الرشيد يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّق نائبَيه لما تُحبُّ وترضَى، ولما فيه الخيرُ للمُسلمين يا رب العالمين، إنك على كل شيء قدير.
ربَّنا اغفر لنا ما قدَّمنا وما أخَّرنا، وما أسرَرنا وما أعلنَّا، وما أنت أعلمُ به منَّا، أنت المُقدِّم وأنت المُؤخِّرُ، لا إله إلا أنت.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].
عباد الله:
(إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) [النحل: 90- 91].