الوهاب
كلمة (الوهاب) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) مشتق من الفعل...
العربية
المؤلف | مراد كرامة سعيد باخريصة |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أركان الإيمان - أهل السنة والجماعة |
لقد عُبدت مع الله -سبحانه وتعالى- آلهة شتى وأرباب مختلفة؛ فمنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد البشر.. نريد اليوم في هذه الخطبة أن نتحدث عن نوع معين من عبادة البشر؛ إنه عبادة الصالحين من البشر. لقد عُبد الصالحون مع الله -سبحانه وتعالى- قديماً وحديثاً.. واليوم يتكرر نفس المشهد فقد عَبدت طوائف من هذه الأمة الصالحين، وجعلوهم شركاء مع الله في العبادة، وقدَّسوهم تقديساً زائداً عن الحد، ودعوهم من دون الله؛ بحجة أنهم صالحون وأولياء لله ومقربون عند الله، فجعلوهم وسائط بينهم وبين الله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله...
لقد عُبدت مع الله -سبحانه وتعالى- آلهة شتى وأرباب مختلفة؛ فمنهم من عبد الشمس، ومنهم من عبد القمر، ومنهم من عبد البشر..
نريد اليوم في هذه الخطبة أن نتحدث عن نوع معين من عبادة البشر؛ إنه عبادة الصالحين من البشر.
لقد عُبد الصالحون مع الله -سبحانه وتعالى- قديماً وحديثاً، فالنصارى عبدوا عيسى -عليه السلام-، وعبد الناس بعد عهد سيدنا نوح -عليه السلام- يغوث ويعوق ونسرًا، وكانوا رجالاً صالحين من قوم نوح.
واليوم يتكرر نفس المشهد فقد عَبدت طوائف من هذه الأمة الصالحين، وجعلوهم شركاء مع الله في العبادة، وقدَّسوهم تقديساً زائداً عن الحد، ودعوهم من دون الله؛ بحجة أنهم صالحون وأولياء لله ومقربون عند الله، فجعلوهم وسائط بينهم وبين الله.
لقد عبد الروافض علياً، والحسين بن علي، والأئمة الاثنا عشر، وصرفوا لهم أنواعاً من العبادات التي لا يجوز أن تُصرف إلا لله -سبحانه وتعالى-.
وحاكاهم في ذلك المتصوفة، فعبدوا بعض صالحيهم وزهادهم وعبادهم وعلمائهم، وجعلوهم شركاء مع الله يدعونهم ويستغيثون بهم فيما لا يقدر عليه إلا الله، ويتعللون في ذلك بنفس الحجج التي كان يتعلل بها من يعبد الصالحين في قديم الزمان.
إن عبادة الصالحين مع الله شرك أكبر -والعياذ بالله-، وقد خاف سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام- من الشرك فدعا الله -جل وعلا- أن يجنِّبه وبنيه الشرك: (وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم: 35- 36].
فإذا كان سيدنا إبراهيم -عليه السلام- وهو خليل الرحمن وسول من أولي العزم من الرسل يخاف على نفسه من الشرك، فماذا نقول نحن عن أنفسنا؟ ومن أولى بالخوف من الوقوع في الشرك نحن أو خليل الله الذي قال: (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ)؟!
إن الصنم ما عُبد مع الله -سبحانه وتعالى- سواء كان شمساً أو قمراً، أو حجراً أو شجراً أو قبراً، أو بشراً حياً كان أو ميتاً؛ كله شرك مع الله يجب أن نخاف على أنفسنا منه، ونحذّر أبنائنا من الوقوع فيه، ونتواصى بذلك حتى لا نقع في الشرك من حيث نعلم أو لا نعلم، ولهذا لم يكتفِ سيدنا إبراهيم -عليه السلام- بدعاء الله بالنجاة من الشرك لنفسه فقط وإنما أيضا قال (وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ) [إبراهيم: 35- 36].
حقاً والله! لقد أضللن كثيراً من الناس على مر الأزمان والعصور، وغاب عن كثير من الناس معنى التوحيد وحقيقته، ووقعوا في نواقض لا إله إلا الله، وخالفوها، وظنوا أن الشرك فقط أن يعبد الإنسان صنماً أو وثناً مصنوعاً من خشب أو من طين أو من تمر، ونسوا أن الصنم كل ما عُبد من دون الله سواء كان حجراً أو بشراً.
أيها المسلمون: اعلموا أن الأصنام التي عبدها الأوائل كانوا يعلمون أنها مجرد رموز وتماثيل ترمز لأولئك الصالحين الذين يعبدونهم مع الله، ويعرفون أنها مجرد تماثيل تمثل أولئك الصالحين وصور تُعبر عنهم.
فما كانوا في الحقيقة يعبدون الصنم نفسه، وإنما يعبدون الشخص الصالح الذي يرمز له الصنم والذي يمثله هذا التمثال، ولهذا إذا جاع أحدهم أكل هذا الرمز، أو استخدم خشبه؛ لأنه لا يعبد هذا الصنم نفسه، وإنما يعلم أن هذا الصنم إنما هو فقط مجرد رمز أو صورة أو تمثال لذلك الرجل الصالح الذي يعبده.
بمعنى أنه إذا أكل هذا الرمز أو تصرف فيه فليس معنى هذا عنده أن ربه انتهى وإنما عبادته للصنم باقية وإن ذهب الرمز لأنه سيتخذ له رمزاً أو صورة أخرى ترمز لهذا الشخص الصالح وتمثله.
اليوم انتشر هذا الشرك بين المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها في عصرنا هذا وعُبد الصالحون مع الله، ولكن الرمز اختلف حيث جعلوا لهم رموزاً أخرى على شكل قباب أو مشاهد أو حسينيات، أو أضرحة أو غيرها، وعبدوها مع الله؛ مع أنهم يعلمون أنه مجرد ضريح أو قبة فهم لا يدعون الضريح أو القبة أو المشهد، وإنما يعبدون ويدعون الرجل الصالح الذي دُفن في هذا الضريح أو تحت هذه القبة ليقربهم من الله زلفى.
ومن العجائب والغرائب أنهم سموا هذا الشرك بدعاء الأولياء؛ لأن هؤلاء الذي يدعونهم مع الله ويخشونهم كخشية الله هم صالحون وأولياء، ونسوا أو تناسوا أن الله -سبحانه وتعالى- أخبر في كتابه العظيم أن من عبَد الصالحين في قديم الزمان سموهم بنفس هذا المسمى – مسمى الأولياء – واحتجوا بنفس هذه الحجة حجة أنهم صالحين وأولياء.
تأملوا في قول الله -سبحانه وتعالى- (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى) [الزمر : 3]، ويقول: (مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [العنكبوت : 41]، وقال: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا) [الرعد: 16]، (أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) [الشورى: 9]، (اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [الأعراف: 3]، (وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ) [الشورى: 6]، (مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [الجاثية: 10].
روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قول الله تعالى (وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدّاً وَلا سُوَاعاً وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً) قال: "هذه أسماء رجال صالحين من قوم نوح، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصابا، وسموها بأسمائهم، ففعلوا ولم تُعبد حتى إذا هلك أولئك ونُسي العلم عُبدت".
إن هذا الحديث الشريف يبيِّن أن من أنواع الشرك والتنديد مع الله عبادة الصالحين، وأن سبب الشرك قديماً هو عبادة الأولياء والصالحين والغلو فيهم والمبالغة في تعظيمهم حتى جعلوهم أنداداً مع الله وآلهة من دون الله، وهذا هو نفسه الحاصل اليوم.
وروى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها: "أن أم سلمة ذكرت لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- كنيسة رأتها بأرض الحبشة وما فيها من الصور، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أولئك إذا مات فيهم الرجل الصالح أو العبد الصالح بنوا على قبره مسجدا، وصوروا فيه تلك الصور؛ أولئك شرار الخلق عند الله".
ولهما، عنها رضي الله عنها، قالت: "لما نزل برسول الله -صلى الله عليه وسلم-، طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها فقال -: وهو كذلك- لعنة الله على اليهود والنصارى، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا، ولولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجدا".
وقال مجاهد بن جبر -رحمه الله- في تفسير قول الله (أَفَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَالْعُزَّى) قال: “كان يلت لهم السويق – أي: كان اللات يصنع للحجاج نوعًا من أنواع الطعام يسمى السويق – فمات، فعكفوا على قبره"، وسبب عكوفهم على قبره لأنه رجل صالح.
فالحذر الحذر –يا عباد الله- من عبادة الصالحين فإنه شرك بالله والعياذ بالله، ولنعلم جميعاً هذه المسألة المهمة في التوحيد، وهي أن الشرك قديما وحديثاً كان سببه عبادة الصالحين، والغلو فيهم، ودعاؤهم مع الله.
قلت ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
ومن أنواع عبادة البشر المنتشرة اليوم: عبادة الأمراء والحكام وطاعتهم في تحليل الحرام وتحريم الحلال.
إن حق التحليل والتحريم حق اختص الله به؛ فمن نازع الله في هذا الحق فقد جعل نفسه رباً مع الله يقرر ويشرِّع مثل ما يقرر الله ويشرع يقول الله: (أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ) [الشورى: 21].
إن كثيراً من الحكام والأمراء والطواغيت اليوم جعلوا أنفسهم آلهة مع الله، فأحلوا الحرام المجمع على تحريمه، وحرموا الحلال المجمع على حله.
فالربا في قوانينهم الطاغوتية الشركية حلال؛ يشرِّعون له القوانين، ويفتحون له المصارف والبنوك على مصراعيها، مع أن أقل الربا جرماً مثل أن يزني الرجل بأمه.
وحرَّموا الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع أنه حلال مجمع على حله، وجعلوا ذلك إرهاباً ومخالفة للحريات؛ فليحذر كل مسلم من اتباعهم في ذلك وتقليدهم فيه؛ فإن الأمر جلل وخطير ويمس توحيد المسلم وعقيدته؛ لأن من اعتقد تحليل الحرام وتحريم الحلال فقد وقع في الشرك وعبادة البشر مع الله -سبحانه وتعالى-.
روى الترمذي وأحمد عن عدي بن حاتم: أنه سمع النبي -صلى الله عليه وسلم- يقرأ هذه الآية: (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ) فقلت له: إنا لسنا نعبدهم قال: "أليس يحرمون ما أحل الله فتحرمونه، ويحلّون ما حرم الله، فتحلونه؟" فقلت: بلى. قال: "فتلك: عبادتهم".
فأوصي نفسي وإياكم بتحقيق التوحيد لله واجتناب الشرك بكل أنواعه وألوانه وأشكاله؛ فإن الشرك ظلم عظيم، ولهذا مكث النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاثة عشر سنة كاملة في مكة يربِّي الناس على التوحيد، ويحذرهم من الشرك ووسائله وأسبابه وأنواعه حتى عرفوا لا إله إلا الله حق المعرفة، وتبين لهم الرشد من الغي، وعرفوا حقيقة التوحيد وحقيقة الشرك وتبين لهم ذلك بياناً شافياً كافياً وافياً واضحاً (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) [البقرة: 256].
روى البخاري ومسلم عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- قال: كنت رديف النبي -صلى الله عليه وسلم- على حمار فقال لي: "يا معاذ أتدري ما حق الله على العباد، وما حق العباد على الله؟" فقلت: الله ورسوله أعلم. قال: "حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً، وحق العباد على الله أن لا يعذب من لا يشرك به شيئاً"، فقلت: يا رسول الله أفلا أبشر الناس؟ قال: "لا تبشرهم فيتكلوا".
صلوا وسلموا …