الأكرم
اسمُ (الأكرم) على وزن (أفعل)، مِن الكَرَم، وهو اسمٌ من أسماء الله...
ينظر: "الإسرائيليات في التفسير والحديث" لمحمد حسين الذهبي (ص: 13)، و"تفسير القرآن بالإسرائيليات: نظرة تقويمية" لمساعد الطيار (ص: 16).
في كلام المعاصرين الذين عرَّفوا (الإسرائيليَّات) بعضُ الاضطراب والاختلاف في تحديد المصطلح، ومِن أحسن تعاريفهم: أنها «الأخبار المنقولة عن أهل الكتاب، من غيرِ طريق القرآن، والسُّنَن الثابتة عن النبيِّ ﷺ». انظر: "المقدمات الأساسية في علوم القرآن" للجديع (ص: 343).
ويؤخذ على هذا التعريفِ: أنه غيرُ جامع؛ لأن لفظ (الإسرائيليَّات) «يستعمله المفسِّرون ويُطلِقونه على ما هو أوسَعُ وأشمل من الأخبار المأخوذة عن أهل الكتاب؛ فهو في اصطلاحهم يدلُّ على كل ما تطرَّقَ إلى التفسير والحديث من أساطيرَ قديمةٍ منسوبة في أصل روايتها إلى مصدرٍ يهوديٍّ، أو نصراني، أو غيرِهما». انظر: "الإسرائيليات في التفسير والحديث" للذهبي (ص: 13).
فالأخبار التي تخُصُّ العربَ القدماء - كأخبارِ قوم صالح، وهود، وشُعَيب - لم تَرِدْ من طريق (بني إسرائيل)، ودخولُها في (الإسرائيليَّات) على سبيل التغليب. انظر: "التحرير في أصول التفسير" لمساعد الطيار (ص: 143).
تنقسم (الإسرائيليَّاتُ) الواردة في التفسير إلى عدةِ أقسام، باعتباراتٍ مختلفة، يمكن إجمالها في الآتي:
أولًا: أنواع (الإسرائيليَّات) باعتبار القَبول والردِّ:
1. إسرائيليَّات مقبولة، وهي التي عَلِمْنا صحَّتَها من أدلة شرعنا.
2. إسرائيليَّات مردودة، وهي التي عَلِمْنا كَذِبَها، وعندنا في شرعِنا ما يخالفها.
3. إسرائيليَّات مسكوتٌ عنها، وهي التي ليس في شرعنا ما يُصدِّقها أو يُكذِّبها، وهذه تجوز حكايتُها، وغالب هذا النوع ليست فيه فائدة تعود إلى أمرٍ دِينيٍّ؛ كأسماء (أصحاب الكهف)، ونحو ذلك.
ثانيًا: أنواع (الإسرائيليَّات) باعتبار الرُّواة:
1. إسرائيليَّات يَرويها الصحابة.
2. إسرائيليَّات يَرويها التابعون.
3. إسرائيليَّات يَرويها مَن بعدهم.
ثالثًا: أنواع (الإسرائيليَّات) باعتبار المضمون:
1. إسرائيليَّات تتعلق ببَدْءِ الخَلق.
2. إسرائيليَّات تتعلق بقَصص الأنبياء.
3. إسرائيليَّات تتعلق بـ(بني إسرائيل).
رابعًا: أنواعها باعتبار إيراد المفسِّرين لها:
1. إسرائيليَّات تُوجِّه الآيةَ إلى المعنى المحتمَل لها.
2. إسرائيليَّات تُبيِّن سببَ القصة الواردة في القرآن.
3. إسرائيليَّات تُعيِّن المُبهَم.
4. إسرائيليَّات تُفصِّل المُجمَل من القصص.
ينظر: بحث "الإسرائيليَّات بين المتقدمين والمتأخرين" منشور في "مراجعات في الإسرائيليَّات" الصادر عن مركز تفسير (ص: 106-109).
للعلماء مذهبانِ في حُكْمِ إيراد (الإسرائيليَّات)، والاستفادةِ منها في تفسير القرآن الكريم:
المذهب الأول: يرى جوازَ التحدُّث بـ(الإسرائيليَّات)، والاستفادة منها في التفسير؛ وهذا مذهبُ جمهور المفسِّرين من الصحابة والتابعين وأتباعهم، والمَرْويُّ عنهم من ذلك شاهدٌ بهذا؛ ويستدل لهم بما يأتي:
أولًا: أدلة المجيزين من القرآن:
إذا رجَعْنا إلى القرآن، وجدنا أدلةً تشير في عمومها إلى جواز الرجوع إلى (بني إسرائيل)؛ مثل قوله تعالى: ﴿سَلْ بَنِيٓ إِسْرَٰٓءِيلَ كَمْ ءَاتَيْنَٰهُم مِّنْ ءَايَةِۭ بَيِّنَةٖۗ وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اْللَّهِ مِنۢ بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ اْللَّهَ شَدِيدُ اْلْعِقَابِ﴾ [البقرة: 211]، وقوله تعالى: ﴿فَإِن كُنتَ فِي شَكّٖ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَسْـَٔلِ اْلَّذِينَ يَقْرَءُونَ اْلْكِتَٰبَ مِن قَبْلِكَۚ﴾ [يونس: 94]، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ تِسْعَ ءَايَٰتِۭ بَيِّنَٰتٖۖ فَسْـَٔلْ بَنِيٓ إِسْرَٰٓءِيلَ إِذْ جَآءَهُمْ فَقَالَ لَهُۥ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَٰمُوسَىٰ مَسْحُورٗا﴾ [الإسراء: 101].
فهذه الآياتُ موجَّهةٌ إلى النبي ﷺ، وهو في غِنًى عن ذلك؛ لِما يأتيه من الوحيِ الصادق، ومع ذلك أرشده اللهُ إلى سؤال (بني إسرائيل) عن بعضِ أخبارهم وأحوالهم، ولو كان في سؤالهم محذورٌ، لوقَعَ التنبيه عليه.
وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيْهِمْۖ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ اْلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [النحل: 43]، وقال تعالى: ﴿وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالٗا نُّوحِيٓ إِلَيْهِمْۖ فَسْـَٔلُوٓاْ أَهْلَ اْلذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [الأنبياء: 7].
فهاتان الآياتانِ خطابٌ للمشركين أن يَسألوا أهلَ الذِّكر؛ وهم (أهلُ الكتاب)؛ كما رُوِيَ عن ابن عباس ومجاهد، ولو لم يكُنْ عندهم حقٌّ، وفيهم مِن أهل الصِّدق؛ لَمَا جاز أن يُرشِدَ إليهم في السؤال.
ثانيًا: أدلة المجيزين من السُّنة:
وردت نصوصٌ في السُّنة تشير إلى جواز الرجوع إلى (أهل الكتاب)؛ ومن ذلك ما يأتي:
* عن عبدِ اللهِ بن عمرِو بن العاصِ رضي الله عنهما: أنَّ النبيَّ ﷺ قال: «بَلِّغوا عنِّي ولو آيةً، وحَدِّثوا عن بني إسرائيلَ ولا حرَجَ، ومَن كذَّبَ عليَّ متعمِّدًا، فَلْيَتبوَّأْ مَقعَدَه مِن النارِ». أخرجه البخاري (3461).
* عن ابنِ أبي نَمْلةَ، أنَّ أبا نَمْلةَ الأنصاريَّ رضي الله عنه أخبَرَه أنَّه: «بَيْنا هو جالسٌ عند رسولِ اللهِ ﷺ، جاءَه رجُلٌ مِن اليهودِ، فقال: يا مُحمَّدُ، هل تَتكلَّمُ هذه الجِنازةُ؟ قال رسولُ اللهِ ﷺ: «اللهُ أعلَمُ»، قال اليهوديُّ: أنا أشهَدُ أنَّها تَتكلَّمُ، فقال رسولُ اللهِ ﷺ: «إذا حدَّثَكم أهلُ الكتابِ، فلا تُصدِّقوهم، ولا تُكذِّبوهم، وقولوا: آمَنَّا باللهِ، وكُتُبِه، ورُسُلِه؛ فإن كان حقًّا لم تُكذِّبوهم، وإن كان باطلًا لم تُصدِّقوهم»». أخرجه أحمد (17225).
ففي الحديثِ الأول: رفَعَ النبيُّ ﷺ الحرَجَ عمَّن حدَّث عن (بني إسرائيل)، وفي الحديث الثاني: بيانٌ للمنهج الحقِّ في التعامل مع ما لا يُمكِن تصديقُه أو تكذيبه؛ وهو التوقُّف.
المذهب الثاني: يرى عدمَ جواز الاستفادة من (الإسرائيليَّات) في التفسير؛ ويُستدل له بما يأتي:
* عن جابرِ بن عبدِ اللهِ رضي الله عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ ﷺ: «لا تَسألوا أهلَ الكتابِ عن شيءٍ؛ فإنَّهم لن يَهدُوكم وقد ضَلُّوا؛ فإنَّكم إمَّا أن تُصدِّقوا بباطلٍ، أو تُكذِّبوا بحقٍّ؛ فإنَّه لو كان موسى حيًّا بَيْنَ أظهُرِكم، ما حَلَّ له إلا أن يتَّبِعَني». أخرجه أحمد (14631).
وبعِدَّةِ آثار رُويت عن الصحابة والتابعين؛ منها:
* عن ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه، قال: «لا تَسألوا أهلَ الكتابِ عن شيءٍ؛ فإنَّهم لن يَهدوكم وقد أضَلُّوا أنفسَهم، فتُكذِّبون بحقٍّ، أو تُصدِّقون بباطلٍ، وإنَّه ليس أحدٌ مِن أهلِ الكتابِ إلا في قلبِه تاليةٌ تَدْعوه إلى اللهِ وكتابِه». أخرجه عبد الرزَّاق في "مصنفه" (20113).
* عن عبدِ اللهِ بن عباسٍ رضي الله عنهما، قال: «يا معشرَ المسلمين، كيف تَسألون أهلَ الكتابِ وكتابُكم الذي أُنزِلَ على نبيِّه ﷺ أحدَثُ الأخبارِ باللهِ، تَقرَؤونه لم يُشَبْ، وقد حدَّثَكم اللهُ أنَّ أهلَ الكتابِ بدَّلوا ما كتَبَ اللهُ، وغيَّروا بأيديهم الكتابَ؟!. ..». أخرجه البخاري (2685).
* قال أبو بكرِ بنُ عيَّاشٍ: «قلتُ للأعمشِ: ما لهم يَتَّقُون تفسيرَ مجاهِدٍ؟ قال: كانوا يَرون أنَّه يَسألُ أهلَ الكتابِ». "طبقات ابن سعد" (5 /467).
وقبل ذِكْرِ الراجح من المذهبَينِ، لا بد من تحرير مَحَلِّ النزاع في هذه المسألة، وذلك يقتضي التفريقَ بين أمرينِ:
الأول: التحديث عن (بني إسرائيل)؛ وهذا جائزٌ دُونَ أيِّ حرج؛ كما قال النبيُّ ﷺ؛ ففي أيِّ موضوع كان هذا التحديثُ - في تفسير آية، أو في شرح حديث - فإنه جائزٌ بنصِّ هذا الحديث المطلَق غيرِ المقيَّد؛ ومن ثَمَّ فلا يصحُّ تغليطُ المفسرين إذا روَوُا (الإسرائيليَّات)، وكانت من باب التحديث عن (بني إسرائيل)؛ لأن النبيَّ ﷺ أباحه، وهو أعلَمُ بما يضرُّ الأمَّةَ في دِينها.
ثانيًا: الاستفادةُ منهم في بيان معنى الآية، أو شيءٍ من مستتبعاته؛ وهذا هو الذي قد يقع فيه الإشكال، وهو محَلُّ النزاع هنا، خصوصًا إذا وقع في الرِّواية ما يُستنكر، وقد قسَّم بعضُ العلماء (الإسرائيليَّات) ثلاثةَ أقسام؛ قال ابن تيميَّةَ: «أحدها: ما عَلِمْنا صحَّتَه مما بأيدينا مما يَشهَد له بالصِّدق، فذاك صحيح. والثاني: ما عَلِمْنا كَذِبَه بما عندنا مما يخالِفه. والثالث: ما هو مسكوت عنه، لا من هذا القبيل، ولا من هذا القبيل؛ فلا نؤمن به، ولا نُكذِّبه، وتجوز حكايتُه».
ويدخُلُ في محَلِّ النزاع - من حيث التطبيقُ والمناقشة - القسمُ الثاني والثالث؛ لأنه قد يَدَّعي أحدُهم أن قصةً إسرائيلية ما تدخل في القسم الثاني (ما عَلِمْنا كَذِبَه)، ويَدَّعي آخَرُ دخولَها في النوع الثالث؛ أي إنها ليست مما عَلِمْنا صِدْقَه وكَذِبَه.
والراجح من الخلاف السابق في حُكْمِ الاستفادة من (الإسرائيليَّات) في التفسير: هو الجواز والله أعلم؛ وذلك لِما يأتي من الأدلة:
1. صراحةُ الآيات في طلب الرجوع إليهم في بعض أخبارهم، ولم يَرِدْ ما يَنسَخ ذلك.
2. أن النبيَّ ﷺ قد أباح التحديثَ بعد النهيِ عنه، وما استدَلَّ به المانعون من نَهْيِهِ ﷺ فإنه منسوخٌ بإباحته ﷺ؛ قال العَيْنيُّ: «... وكان النهيُ قبل استقرار الأحكام الشرعية والقواعد الدِّينية خشيةَ الفتنة، ثم لمَّا زال المحذور، وقَع الإذنُ في ذلك؛ لِما في ذلك من الاعتبار عند سماع الأخبار التي وقَعتْ في زمانهم». انظر: "عمدة القاري" للعيني (16 /45).
3. أن الحديثَ الوارد في النهي وكذا الآثار المَرْوية عن الصحابة إنما هي في طلبِ الاهتداء بما عند (بني إسرائيل)، وطلبُ الاهتداء مَنْهيٌّ عنه في كلِّ حين؛ لأن اللهَ قد أكمل الدِّين، وأما الرجوع إلى أخبارِهم، وحكايتُها، والاستفادة منها: فهي بمَعزِلٍ عن ذلك النهيِ.
4. أن جمهورَ المفسِّرين من الصحابة والتابعين وأتباعِهم قد رجَعوا إليهم، واستفادوا منهم، ولم يَرَوْا في ذلك غضاضةً، مع العلم بما في بعضها من اختلاف، أو من قضايا مشكِلةٍ في منطوق الرِّواية، وقد سار كثيرٌ من علماء التفسير على نقل (الإسرائيليَّات)، وتداوَلَها من غيرِ نكيرٍ لكثير منها، ولم يقعِ النكيرُ المطلَق إلا عند بعض المفسِّرين؛ كالرازي وأبي حيَّان، ثم استقر الأمرُ على هذا الإنكارِ عند كثيرٍ من المعاصرين.
ينظر: "التحرير في أصول التفسير" لمساعد الطيار (ص: 153-159)، و"تفسير القرآن بالإسرائيليات" له أيضًا (ص: 30-37).
تنقسم (الإسرائيليَّات) إلى عدَّة أنواع باعتبارات مختلفة - كما تقدم -، وأمثلة جُلِّ تلك الأنواع واضحة؛ ولذا سنقتصر على التمثيل لأنواعها باعتبار إيراد المفسِّرين لها؛ لأنه أهمُّ تلك الأنواع.
أولًا: إسرائيليَّات تُوجِّه الآيةَ إلى المعنى المحتمَل لها؛ ومن أمثلتها:
* ما ورد من إجمالٍ في فتنةِ سليمان بـ(الجسد)، في قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَٰنَ وَأَلْقَيْنَا عَلَىٰ كُرْسِيِّهِۦ جَسَدٗا ثُمَّ أَنَابَ﴾ [ص: 34]؛ فـ(الجسدُ) - على قول المتقدِّمين من المفسرين -: (شيطان)؛ وهذا ما ورد في أخبار (بني إسرائيل)، ثم ظهر قولٌ آخر؛ وهو أن (الجسد) يُفسَّر بما رواه البخاري في "صحيحه" (3424): عن أبي هُرَيرةَ رضي الله عنه، عن النبيِّ ﷺ، قال: «قال سُلَيمانُ بنُ داودَ: لأطُوفَنَّ الليلةَ على سَبْعينَ امرأةً، تَحمِلُ كلُّ امرأةٍ فارسًا يُجاهِدُ في سبيلِ اللهِ، فقال له صاحبُه: إن شاءَ اللهُ، فلم يقُلْ، ولم تَحمِلْ شيئًا إلا واحدًا، ساقطًا أحدُ شِقَّيْهِ»، فقال النبيُّ ﷺ: «لو قالها، لجاهَدوا في سبيلِ اللهِ»، وهذه القصةُ التي رواها البخاري لم يُورِدْها تفسيرًا للآية، بل ذهب إلى أن (الجسد): شيطانٌ؛ قال في "صحيحه": «﴿جَسَدٗا﴾: شيطانًا»، والحديث أورده في أحاديثِ الأنبياء، عند ذكرِه لأخبار سليمان، ولم يورده في تفسير سورة (ص) من كتاب التفسير؛ مما يؤنِسُ بأن هذا الحديثَ ليس تفسيرًا للآية فيما يراه، وكذلك مع شهرةِ قصة هذا الحديث لم يَحمِلْها أحدٌ من السلف على الآية، وإنما حملوها على القصةِ الإسرائيلية؛ وبهذا يظهر توجيهُ الآية إلى محتمَلٍ دُونَ آخر.
ثانيًا: إسرائيليَّات تُبيِّن سببَ القصة الواردة في القرآن؛ ومن أمثلة هذا النوع:
* ما رواه ابنُ جرير في "تفسيره": عن ابنِ عباسٍ رضي الله عنهما في قوله عز وجل: ﴿وَهَلْ أَتَىٰكَ نَبَؤُاْ اْلْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ اْلْمِحْرَابَ﴾ [ص: 21]، قال: «إنَّ داودَ قال: يا ربِّ، قد أعطَيْتَ إبراهيمَ وإسحاقَ ويعقوبَ مِن الذِّكْرِ ما لَوَدِدتُّ أنَّك أعطَيْتَني مثلَه، قال اللهُ: إنِّي ابتلَيْتُهم بما لم أَبْتَلِكَ به، فإن شئتَ ابتلَيْتُك بمثلِ ما ابتلَيْتُهم به، وأعطَيْتُك كما أعطَيْتُهم، قال: نَعم، قال له: فاعمَلْ حتى أرى بلاءَك، فكان ما شاء اللهُ أن يكونَ، وطالَ ذلك عليه، فكادَ أن ينساه، فبَيْنا هو في مِحْرابِه، إذ وقَعتْ عليه حمامةٌ مِن ذهَبٍ، فأرادَ أن يأخُذَها، فطارت إلى كُوَّةِ المِحْرابِ، فذهَبَ ليأخُذَها، فطارت، فاطَّلَعَ مِن الكُوَّةِ، فرأى امرأةً تغتسِلُ، فنزَلَ نبيُّ اللهِ ﷺ المِحْرابَ، فأرسَلَ إليها فجاءته، فسألَها عن زوجِها وعن شأنِها، فأخبَرتْهُ أنَّ زوجَها غائبٌ، فكتَبَ إلى أميرِ تلك السَّرِيَّةِ أن يُؤمِّرَه على السَّرايا ليَهلِكَ زوجُها، ففعَلَ، فكان يصابُ أصحابُه وينجو، وربَّما نُصِروا، وإنَّ اللهَ عز وجل لمَّا رأى الذي وقَعَ فيه داودُ، أرادَ أن يستنقِذَه، فبَيْنما داودُ ذاتَ يومٍ في مِحْرابِه، إذ تسوَّرَ عليه الخَصْمانِ مِن قِبَلِ وجهِه. ..». انظر: "تفسير ابن جرير" (21 /182).
فهذه القصةُ تُبيِّنُ سببَ فتنة داود عليه السلام؛ وهو أنه طلَب من الله تعالى أن يبتليَه؛ ليُعطيَه كما أعطى الأنبياءَ الذين ابتُلُوا قبله.
ثالثًا: إسرائيليَّات تُعيِّن المُبهَم؛ ومن أمثلة هذا النوع:
* تعيين القرية الواردة في قول الله عز وجل: ﴿وَسْـَٔلْهُمْ عَنِ اْلْقَرْيَةِ اْلَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ اْلْبَحْرِ﴾ [الأعراف: 163]؛ فقد ورد في تعيينها أقوالٌ؛ قال ابن جرير: «والصوابُ من القول في ذلك: أن يقال: هي قريةٌ حاضرةُ البحر، وجائز أن تكونَ (أَيْلَةَ)، وجائز أن تكونَ (مَدْيَنَ)، وجائز أن تكونَ (مَقْنَا)؛ لأن كلَّ ذلك حاضرةُ البحر، ولا خبَرَ عن رسول الله ﷺ يَقطَع العُذْرَ بأيِّ ذلك من أيٍّ، والاختلاف فيه على ما وصفتُ، ولا يوصَلُ إلى علمِ ما قد كان فمضى مما لم نعايِنْهُ إلا بخبَرٍ يوجب العلمَ، ولا خبَرَ كذلك في ذلك». انظر: "تفسير ابن جرير" (13 /182).
رابعًا: إسرائيليَّات تُفصِّل المُجمَل في القصص؛ ومن أمثلة ذلك:
* ما ورد في قصةِ أيُّوبَ، في قوله تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ اْلضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ اْلرَّٰحِمِينَ﴾ [الأنبياء: 83]، وقوله تعالى: ﴿وَاْذْكُرْ عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُۥٓ أَنِّي مَسَّنِيَ اْلشَّيْطَٰنُ بِنُصْبٖ وَعَذَابٍ﴾ [ص: 41]؛ فقد ورَدتْ رواياتٌ تُفسِّر (الضُّرَّ) الذي أصاب أيُّوبَ، وتُفصِّل الإجمالَ الحاصل في القصة؛ ومن تلك الرِّوايات: ما جاء عن قتادةَ، قال: «﴿بِنُصْبٖ وَعَذَابٍ﴾: ذَهابُ المال والأهل، والضُّرُّ الذي أصابه في جسده، قال: ابتُلي سَبْعَ سنين وأشهُرًا، مُلقًى على كُناسةٍ لبني إسرائيل، تختلف الدَّوابُّ في جسده، ففرَّج اللهُ عنه، وعظَّم له الأجرَ، وأحسَن عليه الثناء». انظر: "تفسير ابن جرير" (20 /106).
وبغيرِ هذه الروايات لا يَظهَر نوعُ النُّصْبِ ولا العذاب الذي لَقِيَه أيُّوبُ عليه السلام؛ بل يبقى مُجمَلًا كما هو في ظاهر القرآن.
* تفسير يحيى بن سلام البَصْري القَيْرواني (ت: 200هـ).
* تفسير ابن جرير الطَّبري (ت: 310هـ).
* تفسير ابن أبي حاتم (ت: 327هـ).
* تفسير الماتُرِيدي (ت: 333هـ).
* تفسير الثَّعْلبي (ت: 427هـ).
إلى آخرِ التفاسير التي جاءت بعدهم.
وهم في هذا ناقلون لهذه المَرْويَّات بأسانيدها إلى مَن قَبْلَهم، ولم يقع منهم نكيرٌ لهذا المنهج الذي سار عليه سلَفُ الأمَّة؛ لذا بقيت هذه الرواياتُ في كتبهم إلى يومنا هذا. انظر: "تفسير القرآن بالإسرائيليات" لمساعد الطيار (ص: 37).
ذكَر الطَّبريُّ جملةً من الضوابط المهمة في قَبوله الرواياتِ الإسرائيليَّةَ، ويمكن استخلاصُ الضوابط التي ذكرها على النحو الآتي:
1. أن تكونَ موافِقةً لكتاب الله.
2. ألا يَدفَعَ الخبَرُ الإسرائيلي خبَرًا عن المعصوم ﷺ.
3. أن يكون تفسيرُها موافِقًا لِلُغة العرب.
4. أن يَتتابعَ عليها قولُ الصحابة والتابعين.
5. أن تكون من الأمور الممكِنة، وليس المستحيلة.
انظر: "التحرير في أصول التفسير" لمساعد الطيار (ص: 159-160).