البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

المليك

كلمة (المَليك) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فَعيل) بمعنى (فاعل)...

المجيد

كلمة (المجيد) في اللغة صيغة مبالغة من المجد، ومعناه لغةً: كرم...

مشروعية نقد الرواة

معنى النقد: قال ابن فارس: " النون والقاف والدال أصل صحيح، يدل على إبراز شيء وبروزه " قال: " ومن الباب (نقد الدرهم) وذلك أن يكشف عن حاله في جودته أو غير ذلك ". و (نقد الراوي) من هذا، فإنه يكشف عن حاله في أهليته للرواية أو عدم ذلك. كما سمي من يقوم بعملية الكشف هذه بـ (الناقد) لهذا الاعتبار. وقد اصطلح علماء الحديث على تسمية النقد هذه بـ (الجرح والتعديل)، بناء على ما ينتج عنها من ثبوت أهلية الراوي أو عدمها. وهذان الوصفان يشعران بثنائية القسمة عندهم، فالناقد إما أن يصير إلى (جرح) الرواي، وإما إلى (تعديله)، ولا يفيد مرتبة متوسطة. وتحقيق ذلك: أن النظر في أحوال الرواة لا يسفر دائماً عن نتيجة (الجرح) أو (التعديل) لذلك الراوي، وإنما قد تخفى حاله ولا يسعف النظر في التوصل إلى شيء في أمره، فيصير الناقد إلى مرتبة ليست تعديلاً ولا تجرحاً صريحاً، وهي الحكم بـ (جهالة) الراوي. لكن، حين كان المقصود التوصل إلى كون الراوي مقبول الرواية أو مردودها، فالعبارة إذاً بالقبول أو الرد؛ وعليه فيصح أن تكون القسمة ثنائية، على اعتبار المصير بالمرتبة المتوسطة إلى (الجرح) على مذهب الأكثر، أو (التعديل) على مذهب الأقل، على ما سيأتي تفصيله. و (نقد الراوي) هي المرحلة الثانية من النظر في الأسانيد، فقد تقدم في الباب الأول تبيين طرق الكشف عن شخصية الراوي، وحيث تميز لنا فيتلو ذلك تمييز حاله من جهة صلاحيته لقبول حديثه أو رده. وهذا المبحث من أهم مباحث (علوم الحديث) وأصعبها، فأما أهميته فمن جهة كونه (القاعدة العظمى) التي ينبني عليها تصحيح نسبة السنن إلى رسول الله ، أو نفي ذلك، وأما صعوبته فمن جهتين: الأولى: ما يدخل على الناقد من الحرج من الكلام في المسلم بالقدح في حال ثبوت ذلك عليه؛ لأنه كلام في عرضه الذي جاءت شريعة الإسلام بحفظه. والثانية: فهم قوانينه وقواعده ومنهجية تطبيقه. فأما ما يتصل بالجهة الثانية فهذا الفصل أكثره معقود لهذا الغرض، وأما الجهة الأولى فإنها تستلزم بيان حكم الشريعة في ذلك. حكم الكلام في النقلة: حفظ عرض المسلم من المسلمات في دين الإسلام، وحرمته معلومة بالضرورة، والنقاد يقولون: (فلان ضعيف) أو (سيئ الحفظ) أو (كثير الغلط) أو (ليس بشيء) أو (ليس بثقة) أو (متروك) أو (كذاب) أو غير ذلك من صيغ قدح تقال في الراوي، ولو علم بها لما رضيها، فكيف يصح مثل هذا القدح مع تلك الضرورة المسلَّمة في تحريم عرض المسلم؟ وإذا تأملت ذلك من جهة أخرى وجدت أحوال نقاد المحدثين محل القدوة في الصلاح والدين، ومع ذلك فهم من كان يقوم بهذه الوظيفة (جرح الرواة وتعديلهم)، فكيف كانوا يرون ذلك؟ وما عذرهم فيه؟ جواب ذلك من وجوه، منها: 1 _ حرمة العرض كحرمة الدم والمال، وحرمة الدين أعظم منها جميعاً، فإنه تسترخص له الأنفس والأموال، وهذا أيضاً معلوم من الدين بالضرورة. والحديث عن رسول الله دين، كما قال محمد بن سيرين رحمه الله: " إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم " (1)، وهو بيان الكتاب العزيز , وفيه تفصيل الأحكام والأوامر والنواهي، فالمتعرض له إنما يضيف شيئاً إلى الدين، فإما أن يكون أهلاً له صادقاً أميناً حافظاً أو ليس كذلك، ولا طريق إلى معرفة ذلك إلا بـ (الجرح والتعديل). فهو واجب ألزمت به ضرورة حفظ الدين. وقد قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ [الحجرات: 6]، فأوجب الله تعالى التبين في خبر الفاسق قبل قبوله فيما ينبئ به عن قوم آخرين، فكيف الطريق إلى معرفة فسقه إن لم يكن بعلامة علمناها منه دلت على فسقه؟ ولو ثبت فسقه لأحد ما جاز له كتمانه على من يتضرر بخبره من الناس، فإذا كان هذا التثبت في الإخبار عن شخص أو قوم من سائر الناس ممن لا يلزم بخبرهم تحليل ولا تحريم ولا أمر ولا نهي، فكيف يجوز السكوت والإقرار لخبر من يحدث عن رسول الله من غير دراية بأهليته أو عدمها؟ وقد تواتر عن رسول الله قوله: " من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار " في لفظ: " إن كذباً علي ليس ككذب على أحد، من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار "، كما ثبت عنه قوله: " يا أيها الناس، إياكم وكثرة الحديث عني، من قال علي فلا يقولون إلا حقاً أو صدقاً، فمن قال علي ما لم أقل فليتبوأ مقعده من النار "، وصح عنه قوله: " من حدث بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين ". قال الدارمي: " معنى هذا الحديث: إذا روى الرجل حديثاً، ولا يعرف لذلك الحديث عن النبي أصل، فحدث به، فأخاف أن يكون قد دخل في هذا الحديث ". فهذا حكم من رسول الله بتكذيب من حدث عنه بما لم يقل ناسباً ذلك إليه، وسبب تغليظ حكم الكذب عليه ؛ أن من كذب عليه فقد زاد في دين الله، فكأنما كذب على الله عزوجل. ومن وقع في الكذب على التوهم لا القصد فربما يعذر، لكن لا يعذر من علم غلطه ولم يبين. فبيان أحوال النقلة يوجبه نفي الكذب عن رسول الله ودين الإسلام، الذي يرجح حفظ ضرورته على ضرورة حفظ الأنفس والأموال والأعراض. 2 _ تأملنا فوجدنا التعرض للمسلم إنما يحرم بغير سبب شرعي، أما إن كان بسبب معتبر صحيح في الشرع فإن ذلك يتردد بين إباحة وندب ووجوب، ولا يمتنع، وذلك بنفس أدلة الشرع، فمن اعتدى على غيره وجب منعه، وكان للمعتدي عليه الحق في الانتصار لنفسه، كما قال تعالى: ﴿وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا﴾ [الشورى: 40]، وقال: ﴿لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنْ الْقَوْلِ إِلَاّ مَنْ ظُلِمَ﴾ [النساء: 148]، وقال النبي : " لي الواجد يحل عرضه عرضه وعقوبته "، والواجد: هو الغني يكون عليه الدين يحل أجله فلا يقضيه. والتعدي على الدين أخطر من التعدي على الأنفس والأعراض والأموال، فكيف يصح أن تأذن الشريعة في الرد عن النفس بما هو ممتنع في الأصل إن لم يكن له سبب، وتمنع الذَّب عن الدين بتخليصه من عدوان الكذابين والمتهمين والغالطين عليه؟ 3 _ اعتبرت الشريعة العدالة في الشهود، فقال تعالى: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ﴾ [الطلاق: 2]، والعدالة لا سبيل إلى معرفتها في أعيان الشهود إلا بنقدهم ثم الحكم عليهم بمقتضى ذلك النقد من عدالة أو جرح، فإذا صح أن يطلب هذا فيمن يشهد على متاع وشيء ليس له كبير قدر، فصحته ووجوب تحققه فيمن يشهد في دين الله، فينسب شيئاً إلى الله تعالى، أو رسوله . قال الثقة محمد بن عمرو الرازي المعروف بـ (زنيج): سمعت بهز بن أسد يقول إذا ذكر له الإسناد الصحيح: " هذه شهادات العدول المرضيين بعضعم على بعض " وإذا ذكر له الإسناد فيه شيء قال: " هذا فيه عهدة "، ويقول: " لو أن لرجل على رجل عشرة دراهم ثم جحده، لم يستطع أخذها منه إلا بشادين عدلين، فدين الله عزوجل أحق أن يؤخذ فيه بالعدول ". 4 _ أوجب الله تعالى ورسوله النصيحة، فعن تميم الداري رضي الله عنه، أن النبي قال: " الدين النصيحة " قلنا: لمن؟ قال: " لله، ولكتابه ولرسوله، ولأئمة المسلمين، وعامتهم ". والكشف عن أمر الراوي بقصد التحذير من غلطه أو كذبه لئلا يغتر به من لا يعلم حاله من النصيحة لله ولكتابه بنفي نسبة ما لا تصح إضافته إليه، ولرسوله بنفي نسبة ما لم يتفوه به من القول إليه، ولعموم المسلمين بوقايتهم من التدين بما ليس من دين الإسلام. وهذه علة كافية للفصل بين (نقد الرواة) لهذا المقصد، وبين (الغيبة) التي حرمها الله تعالى ورسوله . ويشهد له ما جاء من حديث عائشة رضي الله عنها: أن رجلاً استأذن على النبي ، فقال: " ائذنوا له، فلبئس ابن العشيرة " أو: " بئس رجل العشيرة "، فلما دخل عليه ألان له القول، قالت عائشة: فقلت: يا رسول الله، قلت له الذي قلت، ثم ألنت له القول؟ قال: " يا عائشة، إن شر الناس منزلة عند الله يوم القيامة: من ودعه _ أو: تركه _ الناس اتقاء فحشه ". قال الخطيب: " ففي قول النبي : " بئس رجل العشيرة " دليل على أن إخبار المخبر بما يكون في الرجل من العيب على ما يوجب العلم والدين من النصيحة للسائل ليس بغيية، إذا لو كان ذلك غيبة لما أطلقه النبي ، وإنما أراد عليه السلام بما ذكر فيه والله أعلم أن بئس للناس الحالة المذمومة منه، وهي الفحش فيجتنبوها، لا أنه أراد الطعن عليه والثلب له، وكذلك أئمتنا في العلم بهذه الصناعة؛ إنما أطلقوا الجرح فيمن ليس بعدل لئلا يتغطى أمره على من لا يخبره، فيظنه من أهل العدالة فيحتج بخبره، والإخبار عن حقيقة الأمر إذا كان على الوجه الذي ذكرناه لا يكون غيبة ". قال: " وأما الغيبة التي نهى الله تعالى عنها فهي ذكر الرجل عيوب أخيه يقصد بها الوضع منه والتنقيص له والإزراء به، فيما لا يعود إلى حكم النصيحة وإيجاب الديانة، من التحذير عن ائتمان الخائن، وقبول خبر الفاسق، واستماع شهادة الكاذب ". قال مسلم بن الحجاج يصف صنيع نقاد المحدثين: " وإنما ألزموا أنفسهم الكشف عن معايب رواة الحديث وناقلي الأخبار، وأفتوا بذلك حين سئلوا، لما فيه من عظيم الخطر، إذ الأخبار في أمر الدين إنما تأتي بتحليل أو تحريم أو أمر أو نهي أو ترغيب أو ترهيب، فإذا كان الراوي لها ليس بمعدن للصدق والأمانة، ثم أقدم على الرواية عنه من قد عرفه، ولم يبين ما فيه لغيره ممن جهل معرفته كان آثماً بفعله ذلك، غاشاً لعوام المسلمين، إذ لا يؤمن على بعض من سمع تلك الأخبار أن يستعملها أو يستعمل بعضها، ولعلها أو أكثرها أكاذيب لا أصل لها، مع أن الأخبار الصحاح من رواية الثقات وأهل القناعة أكثر من أن يضطر إلى نقل من ليس بثقة ولا مقنع ". وقال الترمذي: " وقد عاب بعض من لا يفهم على أهل الحديث الكلام في الرجال، وقد وجدنا غير واحد من الأئمة من التابعين قد تكلموا في الرجال، منهم الحسن البصري وطاوُس تكلما في معبد الجهني، وتكلم سعيد بن جبير في طلق بن حبيب، وتكلم إبراهيم النخعي وعامر الشعبي في الحارث الأعور، وهكذا روي عن أيوب السختياني وعبد الله. فحاصل ما تقدم في بيان حكم (نقد الرواة) أنه: واجب لحفظ الدين، وليس هو من قبيل الغيبة التي حرمها الله ورسوله . "تحرير علوم الحديث" للجديع.