البحث

عبارات مقترحة:

القدوس

كلمة (قُدُّوس) في اللغة صيغة مبالغة من القداسة، ومعناها في...

الفتاح

كلمة (الفتّاح) في اللغة صيغة مبالغة على وزن (فعّال) من الفعل...

صفة الناقد

1 _ صلاح الدين. وهذه صفة تقتضي بالضرورة أن يكون مسلماً، ولا يعرف فيمن تعرض لنقد الرواة من كان غير مسلم. والصلاح يستلزم قدراً من المحافظة والعمل الصالح، أدناه حفظ الفرائض والواجبات، وترك المحرمات. والمعتبر في الواجب والمحرم ما ليس محل خلاف. وعليه؛ فلا يقدح في أهلية الناقد أن يذهب مذهباً يحتمله الاجتهاد، سواء كان في قضية علمية أو عملية، ويكون مخطئاً في مذهبه. ونعني بالقضية العلمية الغلط في بعض فروع الاعتقاد، ولما وقع الاعتذار عنهم بالتأويل؛ لم يكن ذلك مسقطاً لاعتبار كلامهم في التجريح والتعديل: [1] عبد الرحمن بن يوسف بن سعيد المعروف بـ" ابن خراش " (المتوفى سنة: 283). كان من الحفاظ النقاد العارفين بالحديث وأهله، وكلامه في رواة الحديث يشبه كلام أقرانه الكبار، كأبي حاتم الرازي وعلي بن الحسين بن الجنيد الرازي. قال الحافظ أبو أحمد بن عدي: سمعت عبد الملك بن محمد أبا نعيم يثني على ابن خراش، وقال: " ما رأيت أحفظ منه، لا يذكر له شيء من الشيوخ والأبواب إلا مر فيه ". وقال الحافظ أبو الحسين أحمد بن جعفر ابن المنادي: " كان من المعدودين المذكورين بالحفظ والفهم بالحديث والرجال ". قلت: ولكن نقم عليه التشيع، بل رمى بكونه رافضياً. وهذا في التحقيق مما يجب أن يكون من قبيل الخطأ في التأويل، ولا يجري على الإنصاف أن يطرح علمه وصدقه ودرايته لرأي أخطأ فيه، والأئمة الذين جمعوا كلام النقاد في الرجال اعتبروا قوله وقبلوه. [2] أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد " ابن حزم " الأندلسي (المتوفى سنة: 456). الإمام الحافظ الفقيه المحقق صاحب المؤلفات الكثيرة، رأس أهل الظاهر، فضائله كثيرة، وعلمه جم. لكنه مع وقوفه عند ألفاظ النصوص في الفروع وانتصاره للنص، إلا أنه تجاوزه في أصعب الأمور، وهو باب الاعتقاد، فتكلم بكلام أهل الكلام، فوافقهم في الصفات، وخالف دلالة البرهان، حتى جاءت مقالته فيها شبيهة من بعض الوجوه مقالة جهم بن صفوان، فجرأ بعض من جاء بعده من الأئمة الأعيان لجرحه بذلك: قال الحافظ محمد بن أحمد بن عبد الهادي (المتوفى سنة: 744): " طالعت أكثر كتاب " الملل والنحل " لا بن حزم، فرأيته قد ذكر فيه عجائب كثيرة ونقولاً غريبة، وهو يدل على قوة ذكاء مؤلفه وكثرة اطلاعه، لكن تبين لي منه أنه جهمي جلد لا يثبت من معاني أسماء الله الحسنى إلا القليل، كالخالق والحق، وسائر الأسماء عنده لا تدل على معنى أصلاً " وشرح طرفاً من ذلك. وبين سببه بما يوافقه فيه الحافظ ابن كثير، حيث قال: " كان من أشد الناس تأويلاً في باب الأصول وآيات الصفات وأحاديث الصفات؛ لأنه كان أولاً قد تضلع من علم المنطق. . ففسد بذلك حاله في باب الصفات ". ومع ذلك فقد اعتد أهل العلم بذكر قوله في الرجال، على خطأ له في ذلك وأوهام. [3] أبو بكر أحمد بن الحسين البيهقي (المتوفى سنة: 458). الإمام الكبير الحافظ المحقق، صاحب التصانيف النافعة في علوم الدين، شهرته بالإمامة والمعرفة مغنية عن التفصيل. كان قد اجتهد في إصابة طريقة أهل الحديث والثبات عليها في العقائد، إلا أنه تأثر بشيخه أبي بكر بن فورك من رءوس أتباع أبي الحسن الأشعري، فوافق أهل الكلام في بعض فروع المسائل الاعتقادية، كمسألة القرآن وغيرها. ومع ذلك فهو ناقد معتبر القول في الجرح والتعديل وتمييز الرواة. فهؤلاء الأئمة مثال لكون الخطأ في بعض فروع الاعتقاد بالتأويل لا يؤثر في أهلية الناقد واعتبار قوله. نعم، يوجب احتياطاً في قبول جرحه أو تعديله عند المعارضة، أي عند اختلاف نقاد المحدثين في راو جرحاً وتعديلاً، لكن ليس هذا من باب كونه معتبر القول جملة أو لا، وهذا الباب هو المقصود هنا بالتقرير. وأما المخالف تأويلاً في بعض الفروع العملية؛ فهذا أولى بأن يقبل قوله إذا وجدت سائر الصفات الناقد. قال الإمام الشافعي: " والمستحل لنكاح المتعة والمفتي بها والعامل بها؛ ممن لا ترد شهادته، وكذلك لو كان موسراً فنكح أمة مستحلاً لنكاحها مسلمة أو مشركة؛ لأنا نجد من مفتي الناس وأعلامهم من يستحل هذا، وهكذا المستحل الدينار بالدينارين والدرهم بالدرهمين يداً بيد، والعامل به؛ لأنا نجد من أعلام الناس من يفتي به ويعمل به ويرويه، وكذلك المستحل لإتيان النساء في أدبارهن، فهذا كله عندنا مكروه محرم وإن خالفنا الناس فيه، فرغبنا عن قولهم، ولم يدعنا هذا إلى أن نجرحهم ونقول لهم: إنكم حلَّلتم ماحرم الله وأخطأتم؛ لأنهم يدعون علينا الخطأ كما ندعيه عليهم، وينسبون من قال قولنا إلى أنه حرم ما أحل الله عز وجل ". وهذا الذي قاله الشافعي يتنزل على مزكي الشهود وعلى الشهود أنفسم، ولما كانت الرواية أولى من الشهادة في هذا الباب، فهذا الكلام متنزل كذلك على رواة العلم وعلى الذين تعرضوا لنقدهم من الحفاظ، لا يُقْدح على أحد منهم بشيء ذهب إليه بتأويل وشبهة. 2 _ حفظ الحديث والمعرفة به وبأهله. وهذان في التحقيق وصفان من باب واحد، فالناقد يحتاج إلى خبرة ودراية بالمروي ليقايس به ويبني على وفقه موافقة ومخالفة تمييز حال الراوي، ولا تتهيأ له تلك المعرفة دون سعة حفظ واطلاع على الأسانيد والمتون، إضافة إلى دراية بمواضع الاتفاق منها والافتراق، وهذا يستلزم معرفة بجانب من فقهها معانيها، على ما ستعلمه من الفصول التالية في شرح منهج النقد. ووقع من جرى أهل العلم على اعتماد قوله في (الجرح والتعديل) شاهد على مراعاة هذه الصفة في الناقد. يصدق ذلك: أن الناقد يسعى إلى إثبات عدالة الراوي وضبطه، فإن كان فاقداً للعدالة أو الضبط في نفسه فكيف يقدر على الحكم على غيره، فأما عدالته فكما مر في بيان الصفة الأولى، وأما الضبط فمن كان كثير الخطأ في نقله وعلمه، أو ضعيفاً، أو متهماً بكذب، فهذا قد سقط بسقوط درايته بحديث نفسه، فكيف يدري حديث غيره فيتمكن على وفق درايته من نقده؟! قال أبو داود السجستاني: قلت لأحمد (يعني ابن حنبل): عمير بن سعيد؟ قال: " لا أعلم به بأساً "، قلت له: فإن أبا مريم قال تسلني عن عمير الكذاب؟ قال: وكان عالماً بالمشايخ، فقال أحمد: " حتى يكون أبو مريم ثقة " ؟. يقول أحمد: إنما يعتد بكلامه لو كان ثقة , أما وهو رجل مجروح ساقط، فلا. وأبو مريم هذا هو عبد الغفار بن القاسم الأنصاري، أحد من ذكروا بمعرفة الحديث، لكنه كان يضع الحديث. وإليك ثلاثة من هؤلاء الذين لهم قول مذكور في كتب الجرح والتعديل، تحتاج إلى التوقي من نقدهم وكلامهم في الرواة؛ لأن الكلام فيهم أسقط اعتمادهم في الجرح والتعديل: [1] محمد بن عمر بن واقدٍ الواقدي الأسلمي (المتوفى سنة: 207). كان واسع المعرفة، كثير الأخبار، رواية للسير والمغازي، ومن أكثر الناس كلاماً فيها، وله كلام كثير في وفيات الشيوخ، لكن الأئمة النقاد الكبار مثل: الشافعي وعبد الله بن المبارك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن معين والبخاري وسائر من بعدهم من أمثالهم قد اتفقوا على وهائه وسقوطه، بل منهم من قضى بأنه كان كذاباً، وإنما خالفهم من هو دونهم في المعرفة بالنقلة بدرجات. فإذا وجدت عبارة نقد معزوة إلى الواقدي فاعلم أنها ليست موضعاً للقبول، علماً بأن ما له في ذلك قليل. [2] محمد بن الحسين بن أحمد أبو الفتح الأزدي (المتوفى سنة: 374). أحد العلماء المذكورين بالحفظ، لكن ضعفه الحافظ أبو بكر البرقاني، وقال الخطيب البغدادي: " في حديثه غرائب ومناكير، وكان حافظاً، صنف كتباً في علم الحديث ". وحول كلامه في الرواة قال الذهبي: " له كتاباً كبير في الجرح والضعفاء عليه فيه مؤاخذات ". ولو تتبعت غلطه في ذلك وجدته كثيراً، منه ما أنكره عليه الذهبي في ترجمة (أبان بن إسحاق) حيث قال: " أبو الفتح يسرف في الجرح، وله مصنف كبير إلى الغاية في المجروحين، جمع فأوعى، وجرح خلقاً بنفسه لم يسبقه أحد إلى التكلم فيهم، وهو المتكلم فيه ". وقال الحافظ ابن حجر في ترجمته (خثيم بن عراك بن مالك): " وشذَّ الأزدي فقال: منكر الحديث، وغفل أبو محمد بن حزم فاتبع الأزدي، وأفرط فقال: لا تجوز الرواية عنه، وما درى أن الأزدي ضعيف، فكيف يقبل منه تضعيف الثقات؟ ". [3] مسلمة بن القاسم الأندلسي (المتوفى سنة: 353). كان محدثاً واسع الرحلة كثير السماع من الشيوخ، له مصنفات في تواريخ المحدثين، وكلام كثير في الجرح والتعديل، لكنه لم يكن مرضياً عند الأندلسيين، قال ابن الفرضي: " سمعت من ينسبه إلى الكذب، وسألت محمد بن أحمد بن يحيى القاضي عنه فقال: لم يكن كذاباً، ولكن كان ضعيف العقل "، وقال الذهبي: " لم يكن بثقة ". فهؤلاء وأمثلهم ممن لهم كلام محفوظ عنهم في كتب الجرح والتعديل، لا يعتمد على جرحهم أو تعديلهم منفردين، فإن جاءت أقوالهم موافقة لأقوال من يعتبر قوله فلا بأس بحكايتها، وإن جاءت مخالفة فمطروحة، وإن لم يوجد لها الموافق أو المخالف فالتعديل منهم غير كاف، والجرح يفيد التوقف في قبول رواية الراوي، لا لأجل اعتمادنا على جرح الواحد منهم، وإنما لمجيء جرحه موافقاً للجهالة بأمر ذلك الراوي، وهي قادحة لذاتها في قبول حديثه. 3 _ الورع، والحذر، والمبالغة في الاحتياط والتيقظ. قال الذهبي: " الكلام في الرواة يحتاج إلى ورع تام، وبراءة من الهوى والميل، وخبرة كاملة بالحديث وعلله ورجاله ". قلت: وهذا يستلزم مراقبة الله تعالى في حرمة دينه من جهة، وحرمة أعراض الرواة من جهة أخرى، ويوجب مبالغة في الاحتياط في التحقق قبل إرسال العبارات بالتعديل أو التجريح. كما يوجب ترك العصبية لأحد أو على أحد، والنظر بعين الإنصاف والعدل، وإن كان ذلك صعباً شديداً. قال ابن حبان: سئل علي بن المديني عن أبيه؟ فقال: " اسألوا غيري " فقالوا: سألناك، فأطرق، ثم رفع رأسه وقال: " هذا الدين، أبي ضعيف ". وهذا يحيى بن معين يتكلم في صاحب له ممن كان يحبه، فنقل عنه الحسين بن حبان قوله في (محمد بن سليم القاضي): " هو _ والله _ صاحبنا، وهو لنا محب، ولكن ليس فيه حيلة البتة، وما رأيت أحداً قط يشير بالكتاب عنه ولا يرشد إليه "، وقال: " قد _ والله _ سمع سماعاً كثيراً، وهو معروف، ولكنه لا يقصر على ما سمع، يتناول ما لم يسمع "، قلت له: يكتب عنه؟ قال: " لا ". وفي رواية ابن أبي خيثمة، قال: سمعت يحيى بن معين يقول: " ليس بثقة "، قلت: لم صار ليس بثقة؟ قال: " لأنه يكذب في الحديث ". والقاعدة في أئمة هذا الشأن الشهرة بالدين والصلاح والورع، لكن العصمة غير ثابتة لهم، فقد يتأثر الناقد ببعض العوارض فيصدر حكمه على غير سنن العدل، فيجب التفطن إلى ذلك، كما وقع من جماعة من النقاد في حق بعض النقلة وعلمنا بالقرائن أن أحكامهم تلك لم تكن منصفة. وعليك أن تتفطن إلى أمرين هنا: الأول: لا يجوز اعتماد قول ذلك الناقد في حق من دلت القرائن أنه على خلاف حكمه فيه، وإنما تلك زلة توجب الاستغفار له. والثاني: لا يجوز إهدار سائر أحكام ذلك الناقد على غير ذلك الراوي بسبب زلته تلك، وإنما هي باقية على الاعتبار كأقوال غيره من الأئمة. لكن اعلم أنه لا يجوز الإقدام على رد كلام الناقد وادعاء كونه خرج على غير مخرج الإنصاف إلا بعد ثبوت المعارض الراجح. وتفسير ذلك: لو أن زيداً من النقاد قال: (فلان كذاب)، ووجدنا عامة النقاد على موافقته في جرح ذلك الراوي بالتكذيب أو ما يقرب منه، فلا يصح رد كلام ذلك الناقد، ولو وجدناهم اختلفوا فمنهم من وافقه ومنهم من خالفه، لم نقدر أن نقول: (قوله غير منصف)، وإنما نبحث عن طريق آخر للترجيح، ولو وجدناه انفرد بما خالفوه فيه، فإن كان فسر قوله وبين حجة مقنعة قبلناه، وإلا رددنا، وإن كان المنتقد ممن ثبت عدالته واشتهر صدقه فهذا لا يلتفت معه إلى قول الجارح ويحمل على الغلط أو عدم الإنصاف. ومن أكثر ما وقعت به مجاوزة الإنصاف: الكلام بسبب اختلاف العقائد والمذاهب، وقليل بسبب الغضب، ونادر منه ما قد يحمل على الحسد، فتفطن لذلك. وهذه أمثلة منقسمة على هذه الوجوه المختلفة: [1] الحافظ إبراهيم بن يعقوب الجوزاجاني (المتوفى سنة: 259)، له مصنف في جرح الرواة تحامل فيه على طائفة من ثقات الكوفيين واصفاً لهم بالزيغ والانحراف وغير ذلك، بسبب ما كان يميل إليه الكوفيون من التشيع، والجوزجاني كان قد سكن الشام، وكان أهلها يميلون إلى النصب، وهو الانحراف عن أهل البيت، فصدرت عباراته في الجرح واضحة التأثر بذلك؛ لذا فإنه لا يقبل كلامه في كوفي إلا أن يوافق من ناقد لم يوصم بذلك. قال ابن عدي: " كان مقيماً بدمشق، يحدث على المنبر، ويكاتبه أحمد بن حنبل فيتقوى بكتابه ويقرأه على المنبر، وكان شديد الميل إلى مذهب أهل دمشق في التحامل على علي رضي الله عنه ". وقال ابن حبان كان حريزيَّ المذهب، ولم يكن بداعية إليه، وكان صلباً في السنة حافظاً للحديث، إلا أنه من صلابته كان يتعدى طوره ". و (حريزي) نسبة إلى حريز بن عثمان، وقد اتهم بالنصب، فصار طائفة ينسبون إليه لقولهم بهذا المذهب. وقال الدارقطني: " كان فيه انحراف عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ". ونقول: يصح ما يذكره الجوزجاني من البدعة عن كثيرين من أهل الكوفة، ولكنه تجاوز في الجرح وبالغ في الحط، ولم يفرق بين تشيع غال وغير غالٍ. [2] الحافظ أبو بشر محمد بن أحمد الدولابي (المتوفى سنة: 310). صاحب كتاب " الكنى والأسماء " وغيره، له كلام في الرجال ونقل كثير، لكنه كان حنفياً متعصباً، وحمله ذلك على المبالغة في الجرح للمخالف لمذهبه، كما حمله على الانتصار للمذهب في موضع الغلط. ومن الدليل عليه ما يأتي: نقل عنه ابن عدي _ وهو تلميذه _ شدة طعنه على نعيم بن حماد الخزاعي الذي كان من أشد الناس خلافاً لأهل الرأي الحنفية، ثم قال ابن عدي: " وابن حماد متهم فيما يقوله لصلابته في أهل الرأي. وكان حدث برواية أبي حنيفة عن منصور بن زاذان عن الحسن عن معبد بحديث إعادة الوضوء والصلاة من القهقهة، ثم قال: " هو معبد بن هوذة الذي ذكره البخاري في كتابه في تسمية أصحاب النبي "، فتعقبه ابن عدي فقال: " وهذا الذي ذكره ابن حماد غلط، وذلك أنه قيل: معبد الجهني، فكيف يكون جهنياً أنصارياً؟ ومعبد بن هوذة أنصاري، وله حديث عن النبي في الكحل، إلا أن ابن حماد اعتذر لأبي حنيفة فقال: هو معبد بن هوذة؛ لميله إلى أبي حنيفة، ولم يقله أحد (عن معبد) في هذا الإسناد إلا أبو حنيفة ". فأقول: من كان هذا وصفه فيخشى من جرحه لمخالفه أن لا يكون صدر منه ذلك على وجه الإنصاف، كما يخشى من تعديله لموافقه لنفس المعنى، فلا يجوز أن يقبل منه هذا ولا ذاك في راو علمنا كونه على مذهبه أو على خصام لمذهبه. ويجب أن لا تغفل ما للخلاف في المذهب من التأثير في المتكلمين في الرجال، فراقب ذلك، خصوصاً في حال تعارض الجرح والتعديل. وأكثر ما كان شائعاً من العصبية للمذهب في القرون الأولى ما كان بين أهل الحديث وأهل الرأي، فلا يقبل كلام بعضهم في بعض إلا من أهل وبحجة. واعلم أن المثالين المتقدمين (الجوزجاني والدولابي) قد اختلت فيهما صفة الناقد، فنزل عن كونه أهلاً للاعتماد عليه بيناً انحرافه فيه، لا مطلقاً. [3] وهناك أمثلة عديدة لوقوع الغلط من الناقد على سبيل الندرة، قامت الحجة على عدم الاعتماد بها، مع بقاء ذلك الإمام مقبول الجرح والتعديل في سائر الأحوال، منها: جرح مالك بن أنس لمحمد بن إسحاق صاحب " السيرة "، وتكذيب أبي داود السجستاني لابنه أبي بكر. ومنه كذلك (جرح الأقران لبعضهم) ككلام النسائي في أحمد بن صالح المصري، وكلام محمد بن إسحاق بن منده في أبي نعيم الأصبهاني، وأبي نعيم فيه. [4] ما وقع من ترك رواية أبي زرعة وأبي حاتم الرازيين عن الإمام أبي عبد الله البخاري، اعتمدا فيه على ما كتب لهما به محمد بن يحيى الذهلي الحافظ من أن البخاري يقول: (لفظي بالقرآن مخلوق). وهذه المسألة نسبت إلى البخاري وهو منها بريء، حكى محمد بن شادل (وكان محدثاً ثبتاً) قال: لما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري دخلت على البخاري فقلت: يا أبا عبد الله، أيش الحلية لنا فيما بينك وبين محمد بن يحيى، كل من يختلف إليك يطرد؟ فقال: " كم يعتري محمد بن يحيى الحسد في العلم، والعلم رزق الله يعطيه من يشاء " فقلت: هذه المسألة التي تحكى عنك؟ قال: " يا بني، هذه مسألة مشؤومة، رأيت أحمد بن حنبل وما ناله في هذه المسألة، وجعلت على نفسي أن لا أتكلم فيها ". أقول: محمد بن يحيى من بحور الأئمة ومن نقادهم، وجائز أن تكون زورت له المقالة على البخاري، فكان ذلك الموقف منه، وجائز غير ذلك من طباع البشر التي لا يعصمون منها، كالذي أشار إليه البخاري نفسه، غفر الله للجميع، فلا يجوز أن يستعمل ذلك سبباً للنيل من البخاري بوجه، فضلاً عن ترك حديثه كما صنع أبو زرعة وأبو حاتم، غفر الله لهما. 4 _ المعرفة بأسباب الجرح والتعديل. هذه الخصلة من أهم ما يجب ملاحظته في الناقد، فلا يقبل جرح أو تعديل إلا من عارف بما يكون جرحاً وما يكون عدالة. والكلام في الرواة يأتي عادة من أئمة قد عرفوا به وعدوا من أهله وأصحاب الدراية به، لكنك تجد بعد الشيء من ألفاظ الجرح والتعديل يقع من بعض الرواة الثقات في بعض الرواة الآخرين من شيوخهم أو غيرهم، فهؤلاء يجب أن تحتاط في قبول أقوالهم على معانيها المستعملة في هذا العلم؛ لجواز صدورها على غير مراد أهل المعرفة. ومن هذا ما صدر من جماعة من التابعين في بعضهم، كتكذيب سعيد بن المسيب لعكرمة مولى ابن عباس، وتكذيب سالم بن عبد الله بن عمر لنافع مولى ابن عمر، فإنهم كانوا يطلقون على الخطأ لفظ الكذب، بخلاف ما جرى عليه نقاد المحدثين من بعد فإن الكذب عندهم هو تعمد وضع الحديث عن رسول الله . ومن هذا ما قد تراه في سياق إسناد من قول الراوي الثقة: (حدثنا فلان وكان ثقة) أو شبه ذلك، فإن لم يكن ذلك الراوي معروفاً في أئمة الجرح والتعديل فلا تكفي مجرد ثقته في نفسه لاعتماد قوله والتعويل عليه، إلا أن يوافق من عارف، ومن أمثلته: [1] قال محمد بن إسحاق صاحب " السيرة ": " حدثني محمد بن يحيى بن حبان، ومحمد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي صعصعة وكانا ثقة " كما قال ابن إسحاق: " حدثني أبو سفيان الحرشي وكان ثقة فيما ذكر أهل بلاده ". وقال: " حدثني عياض بن دينار وكان ثقة ". وقال: " حدثني عمران بن أبي أنس أخو بني عامر بن لؤي وكان ثقة ". [2] وقال يزيد بن عبد الصمد الدمشقي: " حدثنا عبد الرزاق بن مسلم الدمشقي وكان من ثقات المسلمين من المتعبدين، قال حدثنا مدرك بن سعد " قال يزيد: " شيخ ثقة ". [3] وقال سريج بن يونس: " حدثنا محبوب بن محرز بياع القوارير كوفي ثقة ". فهؤلاء الرواة: محمد بن إسحاق ويزيد بن عبد الصمد وسريج ثقات، وأرفعهم يزيد وهو ابن محمد بن عبد الصمد، لكن ليسوا ممن عرف بالخبرة في الرواة ودرجاتهم في النقل، وذلك علامة على كون التعديل قد لا يصدر من أحدهم على المعنى الذي يقرر عليه نقاد المحدثين، وجائز أن يكون بني على ما رأوا عليه ذلك الراوي من ستر وسلامة في نفسه، أو ذكر له بالخير عند الناس، وهذا غير كاف لتوثيقه حتى ينضم إليه الدراية بحديثه والخبرة به. لكن لا بأس باعتبار ذلك إذا وافق شهادات النقاد العارفين. 5 _ الاعتدال والتوسط في الجرح والتعديل. وهذا شرط يوجبه ما تقدم من الشروط، والثالث منها خاصة، في الورع والتيقظ والتحفظ توجب أن يراعي في حكمه أن يكون سديداً، يوافق حقيقة الموصوف. لكن التنبيه عليه على التعيين؛ من أجل اعتبار هذا المعنى الخاص مؤثراً في نقدكثير من الرواة، خصوصاً الجرح، فإن من الأئمة النقاد من اجتمعت فيه جميع الشروط المتقدمة، لكنه كان يبالغ في التحفظ، حتى يقدح في الراوي بالغلطة والغلطتين. "تحرير علوم الحديث" للجديع.