البحث

عبارات مقترحة:

الغفار

كلمة (غفّار) في اللغة صيغة مبالغة من الفعل (غَفَرَ يغْفِرُ)،...

الشكور

كلمة (شكور) في اللغة صيغة مبالغة من الشُّكر، وهو الثناء، ويأتي...

القابض

كلمة (القابض) في اللغة اسم فاعل من القَبْض، وهو أخذ الشيء، وهو ضد...

حب الرئاسة والجاه

عن النبي أنه قال: "إن أخوف ما أخاف على أمتي الرياء والشهوة الخفية". وهذه الشهوة الخفية يعجز عن الوقوف على غوائلها كبار العلماء، فضلاً عن عامة العباد، وإنما يبتلى بها العلماء والعباد المشمرون عن ساق الجد لسلوك سبيل الآخرة، فإنهم لما قهروا نفوسهم وفطموها عن الشهوات، وحملوها بالقهر على أسباب العبادات، لم تطمع في المعاصي الظاهرة، الواقعة على الجوارح، فاستراحت إلى التظاهر بالعلم والعمل، ووجدت مخلصًا من شدة المجاهدة في لذة القبول عند الخلق، ونظرهم إليها بعين الوقار والتعظيم، فأصابت النفس في ذلك لذة عظيمة، فاحتقرت فيها ترك المعاصي، فأحدهم يظن أنه مخلص لله عز وجل، وقد أثبت في ديوان المنافقين، وهذه مكيدة عظيمة لا يسلم منها إلا المقربون. ولذلك قيل: آخر ما يخرج من رؤوس الصديقين حب الرياسة، وإذا كان هو الداء الدفين، الذي هو أعظم شبكة للشياطين، وجب شرح القول في سببه، وحقيقته وأقسامه. اعلم: أن أصل الجاه هو حب انتشار الصيت والاشتهار، وذلك خطر عظيم، والسلامة في الخمول. وأهل الخير لم يقصدوا الشهرة، ولم يتعرضوا لها ولا لأسبابها، فإن وقعت من قبل الله تعالى، فروا عنها، وكانوا يؤثرون الخمول، كما روى عن ابن مسعود رضى الله عنه أنه خرج من منزله، فتبعه جماعة، فالتفت إليهم وقال: علام تتبعونى؟ فوالله لو علمتم ما أغلق عليه بابي ما اتبعني منكم رجلان. وفى لفظ آخر أنه قال: ارجعوا، فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع. وكان أبو العالية رحمه الله: إذا جلس إليه أكثر من أربعة قام. وكان خالد بن معدان رحمه الله: إذا عظمت حلقته، قام وانصرف كراهة الشهرة. وقال الزهري رحمه الله: ما رأينا الزهد في شىء أقل منه في الرياسة، نرى الرجل يزهد في المطعم والمشرب والمال، فإذا نوزع الرياسة، حامى عليها وعادى. قال رجل لبشر الحافي رحمه الله: أوصني، فقال: أخمل ذكرك، وطيب مطعمك. وقال: لا يجد حلاوة الآخرة رجل يحب في الدنيا أن يعرفه الناس. وقد روى في "صحيح مسلم" أن عمر بن سعد انطلق إلى أبيه سعد وهو في غنم له خارجاً عن المدينة، فلما رآه قال: أعوذ بالله من شر هذا الراكب، فلما أتاه قال: يا ابت أنزلت في إبلك وغنمك وتركت الناس يتنازعون الملك بينهم؟ فضرب سعد في صدره وقال: اسكت، إنى سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "إن الله يحب العبد التقى الغنى الخفي". وعن أبى أمامة رضى الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن أغبط أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحاذ، ذو حظ من الصلاة، أحسن عبادة ربه، وأطاعه في السر، وكان غامضاً في الناس، لا يشار إليه بالأصابع، وكان رزقه كفافاً، فصبر على ذلك" ثم نقر بيده، فقال: "عجلت منيته، قلت بواكيه، قل تراثه" حديث حسن. وكان ابن مسعود رضى الله عنه يوصى أصحابه، فيقول: كونوا ينابيع العلم، مصابيح الهدى، أحلاس البيوت، سرج الليل، جدد القلوب، خلقان الثياب، تعرفون في السماء، وتخفون على أهل الأرض. فإن قيل: هذا فيه فضيلة الخمول، وذم الشهرة وأي شهرة أكثر من شهرة الأنبياء، وأئمة العلماء. قلنا: المذموم طلب الإنسان الشهرة، وأما وجودها من جهة الله تعالى من غير طلب الإنسان فليس بمذموم، غير أن في وجودها فتنة على الضعفاء، فإن مثل الضعيف كالغريق القليل الصنعة في السباحة، إذا تعلق به أحد غرق وغرقه، فأما السابح النحرير، فإن تعلق الغرقى به سبب لنجاتهم وخلاصهم. واعلم: أن الجاه والمال هما ركنا الدنيا، ومعنى المال ملك الأعيان المنتفع بها، ومعنى الجاه ملك القلوب المطلوب تعظيمها، وطاعتها، والتصرف فيها. فالجاه هو قيام المنزلة في قلوب الناس، وهو اعتقاد القلوب نعتاً من نعوت الكمال في هذا الشخص، إما من علم أو عبادة، أو نسب أو قوة، أو حسن صورة، أو غير ذلك مما يعتقده الناس كمالاً فبقدر ما يتعقدون له من ذلك، تذعن قلوبهم لطاعته، ومدحه وخدمته، وتوقيره. فبهذا يبين أن الجاه محبوب بالطبع وأنه أبلغ من حب المال، لأن المال لا يتعلق الغرض بعينه، بل لكونه وسيلة إلى المحبوبات، فاشتراك الجاه والمال في السبب اقتضى الاشتراك في المحبة، والجاه في ذلك أرجح من المال. واعلم: أن من الجاه ما يحمد وما يذم، لأن من المعلوم أنه لابد للإنسان من مال لضرورة المطعم والملبس ونحوهما، فكذلك لابد له من جاه لضرورة المعيشة مع الخلق، لأن الإنسان لا يخلو من الحاجة إلى سلطان يحرسه، ورفيق يعينه، وخادم يخدمه، فحبه ذلك ليس بمذموم، لأن الجاه وسيلة إلى الأغراض، كالمال. والتحقيق في هذا أن لا يكون المال والجاه محبوبين لأعيانهما، ومتى طلب الإنسان قيام جاهه لأجل صفة هو متصف بها لغرض صحيح، كقول يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾ [يوسف: 55] أو قصد إخفاء عيب من عيوبه لئلا نزول منزلته، كان ذلك مباحاً، فإن طلب المنزلة باعتقادهم فيه صفة ليست فيه، كالعلم، والورع، والنسب، فذلك محظور. وكذلك لو حسن الصلاة بين أيديهم ليعتقدوا فيه الخشوع. فإنه يكون مرائياً بذلك، فلا يجوز تملك القلوب بتزوير، ولا تملك المال بتلبيس. اعلم: أن من غلب على قلبه حب الجاه، صار مقصور الهم على مراعاة الخلق، مشغوفاً بالتردد إليهم، والمرآة لهم، ولا يزال في أقواله وأفعاله ملتفتاً إلى ما يعظم منزلته عندهم، وذلك بذر النفاق، وأصل الفساد، لأن كل من طلب المنزلة في قلوب الناس اضطر أن ينافقهم بإظهار ما هو خال عنه، ويجر ذلك إلى المراءاة بالعبادات واقتحام المحظورات، والتوصل إلى اقتناص القلوب. ولذلك شبه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حب المال والشرف وإفسادهما للدين بذئبين ضاريين أرسلا في غنم. فحب الجاه إذاً من المهلكات، يجب علاجه وعلاجه مركب من علم وعمل، أما الأول، فهو أن يعلم أن السبب الذي لأجله أحب الجاه، هو كمال القدوة على أشخاص الناس وقلوبهم، وذلك إذا صفا وسلم يكون في آخره الموت فينبغي أن يتفكر في نفسه في الأخطار والآفات اللاحقة لأصحاب الجاه في الدنيا، من تطرق الحسد إليهم، وقصدهم بالإيذاء، فتراهم خائفين على الدوام من زوال جاههم، محترزين من تغيير منزلتهم في القلوب. والقلوب أشد تغيراً من القدرة في غليانها، فالاشتغال بمراعاة ذلك غموم عاجلة، مكدرة لحفظ الجاه، فلا يفي مرجو الدنيا بمخوفها، فضلاً عما يفوت في الآخرة، فهذا من حيث العلم. وأما العلاج من حيث العمل، فهو إسقاط الجاه من قلوب الخلق بأفعال توجب ذلك، كما روى أن بعض الملوك قصد زيارة رجل زاهد، فلما قرب منه، استدعى طعامه وبقلاً ولبناً وجعل يأكل بشره، ويعظم اللقمة فلما نظر إليه الملك سقط من عينه. ولما أريد إبراهيم النخعى على القضاء لبس قميصاُ أحمر وقعد في السوق. واعلم: أن انقطاع الزاهد عن الناس يوجب جاهاً له عندهم، فإذا خاف من تلك الفتنة، فليخالطهم على وجه السلامة، وليمش في الأسواق، وليشتر حاجته ويحملها، وليقطع طمعه من دنياهم، وقد تم مراده. وكان بشر الحافي يجلس إلى عطار، وكانوا يراعون نواميس المتزهدين اليوم. "مختصر منهاج القاصدين" للمقدسي.