الأول
(الأوَّل) كلمةٌ تدل على الترتيب، وهو اسمٌ من أسماء الله الحسنى،...
الرئاسة العامة على المسلمين في شؤون الدين، والدنيا .يشهد له قول أبي يعلى : "وظاهر كلامه (أي الإمام أحمد ): أنه جعل القضاء، والشهادة من فروض الكفايات، مع ما قد جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذم القضاء، فأولى أن تكون الإمامة الكبرى كذلك، إذ ليس طلبها، ولا الدخول فيها مكروها ".
الرئاسة العامة على المسلمين في شؤون الدين، والدنيا.
التَّعْرِيفُ:
1 - (الإِْمَامَةُ) : مَصْدَرُ أَمَّ الْقَوْمَ وَأَمَّ بِهِمْ. إِذَا تَقَدَّمَهُمْ وَصَارَ لَهُمْ إِمَامًا (1) . وَالإِْمَامُ - وَجَمْعُهُ أَئِمَّةٌ -: كُل مَنِ ائْتَمَّ بِهِ قَوْمٌ سَوَاءٌ أَكَانُوا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ: كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} (2) أَمْ كَانُوا ضَالِّينَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ} (3) .
ثُمَّ تَوَسَّعُوا فِي اسْتِعْمَالِهِ، حَتَّى شَمَل كُل مَنْ صَارَ قُدْوَةً فِي فَنٍّ مِنْ فُنُونِ الْعِلْمِ. فَالإِْمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ قُدْوَةٌ فِي الْفِقْهِ، وَالإِْمَامُ الْبُخَارِيُّ قُدْوَةٌ فِي الْحَدِيثِ. . . إِلَخْ، غَيْرَ أَنَّهُ إِذَا أُطْلِقَ لاَ يَنْصَرِفُ إِلاَّ إِلَى صَاحِبِ الإِْمَامَةِ الْعُظْمَى، وَلاَ يُطْلَقُ عَلَى الْبَاقِي إِلاَّ بِالإِْضَافَةِ، لِذَلِكَ عَرَّفَ الرَّازِيَّ الإِْمَامَ بِأَنَّهُ: كُل شَخْصٍ يُقْتَدَى بِهِ فِي الدِّينِ. (4)
وَالإِْمَامَةُ الْكُبْرَى فِي الاِصْطِلاَحِ: رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي الدِّينِ وَالدُّنْيَا خِلاَفَةً عَنِ النَّبِيِّ ﷺ وَسُمِّيَتْ كُبْرَى تَمْيِيزًا لَهَا عَنِ الإِْمَامَةِ الصُّغْرَى، وَهِيَ إِمَامَةُ الصَّلاَةِ وَتُنْظَرُ فِي مَوْضِعِهَا (5) .
الأَْلْفَاظُ ذَاتُ الصِّلَةِ:
أ - الْخِلاَفَةُ:
2 - الْخِلاَفَةُ فِي اللُّغَةِ: مَصْدَرُ خَلَفَ يَخْلُفُ خِلاَفَةً: أَيْ: بَقِيَ بَعْدَهُ أَوْ قَامَ مَقَامَهُ، وَكُل مَنْ يَخْلُفُ شَخْصًا آخَرَ يُسَمَّى خَلِيفَةً، لِذَلِكَ سُمِّيَ مَنْ يَخْلُفُ الرَّسُول ﷺ فِي إِجْرَاءِ الأَْحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَرِئَاسَةِ الْمُسْلِمِينَ فِي أُمُورِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا خَلِيفَةً، وَيُسَمَّى الْمَنْصِبُ خِلاَفَةً وَإِمَامَةً. (6) أَمَّا فِي الاِصْطِلاَحِ الشَّرْعِيِّ: فَهِيَ تُرَادِفُ الإِْمَامَةَ، وَقَدْ عَرَّفَهَا ابْنُ خَلْدُونٍ بِقَوْلِهِ: هِيَ حَمْل الْكَافَّةِ عَلَى مُقْتَضَى النَّظَرِ الشَّرْعِيِّ، فِي مَصَالِحِهِمُ الأُْخْرَوِيَّةِ، وَالدُّنْيَوِيَّةِ الرَّاجِعَةِ إِلَيْهَا، ثُمَّ فَسَّرَ هَذَا التَّعْرِيفَ بِقَوْلِهِ: فَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلاَفَةٌ عَنْ صَاحِبِ الشَّرْعِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا (7) .
ب - الإِْمَارَةُ:
3 - الإِْمَارَةُ لُغَةً: الْوِلاَيَةُ، وَالْوِلاَيَةُ إِمَّا أَنْ تَكُونَ عَامَّةً، فَهِيَ الْخِلاَفَةُ أَوِ الإِْمَامَةُ الْعُظْمَى، وَإِمَّا أَنْ تَكُونَ خَاصَّةً عَلَى نَاحِيَةٍ كَأَنْ يَنَال أَمْرَ مِصْرٍ وَنَحْوِهِ، أَوْ عَلَى عَمَلٍ خَاصٍّ مِنْ شُئُونِ الدَّوْلَةِ كَإِمَارَةِ الْجَيْشِ وَإِمَارَةِ الصَّدَقَاتِ، وَتُطْلَقُ عَلَى مَنْصِبِ أَمِيرٍ (8) .
ج - السُّلْطَةُ:
4 - السُّلْطَةُ هِيَ: السَّيْطَرَةُ وَالتَّمَكُّنُ وَالْقَهْرُ وَالتَّحَكُّمُ وَمِنْهُ السُّلْطَانُ وَهُوَ مَنْ لَهُ وِلاَيَةُ التَّحَكُّمِ وَالسَّيْطَرَةِ فِي الدَّوْلَةِ، فَإِنْ كَانَتْ سُلْطَتُهُ قَاصِرَةً عَلَى نَاحِيَةٍ خَاصَّةٍ فَلَيْسَ بِخَلِيفَةٍ، وَإِنْ كَانَتْ عَامَّةً فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، وَقَدْ وُجِدَتْ فِي الْعُصُورِ الإِْسْلاَمِيَّةِ الْمُخْتَلِفَةِ خِلاَفَةٌ بِلاَ سُلْطَةٍ، كَمَا وَقَعَ فِي أَوَاخِرِ الْعَبَّاسِيِّينَ، وَسُلْطَةٌ بِلاَ خِلاَفَةٍ كَمَا كَانَ الْحَال فِي عَهْدِ الْمَمَالِيكِ (9) د - الْحُكْمُ:
5 - الْحُكْمُ هُوَ فِي اللُّغَةِ: الْقَضَاءُ، يُقَال: حَكَمَ لَهُ وَعَلَيْهِ وَحَكَمَ بَيْنَهُمَا، فَالْحَاكِمُ هُوَ الْقَاضِي فِي عُرْفِ اللُّغَةِ وَالشَّرْعِ.
وَقَدْ تَعَارَفَ النَّاسُ فِي الْعَصْرِ الْحَاضِرِ عَلَى إِطْلاَقِهِ عَلَى مَنْ يَتَوَلَّى السُّلْطَةَ الْعَامَّةَ.
الْحُكْمُ التَّكْلِيفِيُّ:
6 - أَجْمَعَتِ الأُْمَّةُ عَلَى وُجُوبِ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، وَعَلَى أَنَّ الأُْمَّةَ يَجِبُ عَلَيْهَا الاِنْقِيَادُ لإِِمَامٍ عَادِلٍ، يُقِيمُ فِيهِمْ أَحْكَامَ اللَّهِ، وَيَسُوسُهُمْ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ الَّتِي أَتَى بِهَا رَسُول اللَّهِ ﷺ وَلَمْ يَخْرُجْ عَنْ هَذَا الإِْجْمَاعِ مَنْ يُعْتَدُّ بِخِلاَفِهِ. (10)
وَاسْتَدَلُّوا لِذَلِكَ، بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ الصَّحَابَةَ ﵃، بِمُجَرَّدِ أَنْ بَلَغَهُمْ نَبَأُ وَفَاةِ رَسُول اللَّهِ ﷺ بَادَرُوا إِلَى عَقْدِ اجْتِمَاعٍ فِي سَقِيفَةِ بَنِي سَاعِدَةَ، وَاشْتَرَكَ فِي الاِجْتِمَاعِ كِبَارُ الصَّحَابَةِ، وَتَرَكُوا أَهَمَّ الأُْمُورِ لَدَيْهِمْ فِي تَجْهِيزِ رَسُول اللَّهِ ﷺ وَتَشْيِيعِ جُثْمَانِهِ الشَّرِيفِ، وَتَدَاوَلُوا فِي أَمْرِ خِلاَفَتِهِ.
وَهُمْ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي بَادِئِ الأَْمْرِ حَوْل الشَّخْصِ الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُبَايَعَ، أَوْ عَلَى الصِّفَاتِ الَّتِي يَنْبَغِي أَنْ تَتَوَفَّرَ فِيمَنْ يَخْتَارُونَهُ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي وُجُوبِ نَصْبِ إِمَامٍ لِلْمُسْلِمِينَ، وَلَمْ يَقُل أَحَدٌ مُطْلَقًا إِنَّهُ لاَ حَاجَةَ إِلَى ذَلِكَ، وَبَايَعُوا أَبَا بَكْرٍ ﵁، وَوَافَقَ بَقِيَّةُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ لَمْ يَكُونُوا حَاضِرِينَ فِي السَّقِيفَةِ، وَبَقِيَتْ هَذِهِ السُّنَّةُ فِي كُل الْعُصُورِ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا عَلَى وُجُوبِ نَصْبِ الإِْمَامِ. (11)
وَهَذَا الْوُجُوبُ وُجُوبُ كِفَايَةٍ، كَالْجِهَادِ وَنَحْوِهِ، فَإِذَا قَامَ بِهَا مَنْ هُوَ أَهْلٌ لَهَا سَقَطَ الْحَرَجُ عَنِ الْكَافَّةِ، وَإِنْ لَمْ يَقُمْ بِهَا أَحَدٌ، أَثِمَ مِنَ الأُْمَّةِ فَرِيقَانِ:
أ - أَهْل الاِخْتِيَارِ وَهُمْ: أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ مِنَ الْعُلَمَاءِ وَوُجُوهِ النَّاسِ، حَتَّى يَخْتَارُوا إِمَامًا لِلأُْمَّةِ.
ب - أَهْل الإِْمَامَةِ وَهُمْ: مَنْ تَتَوَفَّرُ فِيهِمْ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ، إِلَى أَنْ يُنْصَبَ أَحَدُهُمْ إِمَامًا (12) .
مَا يَجُوزُ تَسْمِيَةُ الإِْمَامِ بِهِ:
7 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى جَوَازِ تَسْمِيَةِ الإِْمَامِ: خَلِيفَةً، وَإِمَامًا، وَأَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ.
فَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ إِمَامًا فَتَشْبِيهًا بِإِمَامِ الصَّلاَةِ فِي وُجُوبِ الاِتِّبَاعِ وَالاِقْتِدَاءِ بِهِ فِيمَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَلِهَذَا سُمِّيَ مَنْصِبُهُ بِالإِْمَامَةِ الْكُبْرَى.
وَأَمَّا تَسْمِيَتُهُ خَلِيفَةً فَلِكَوْنِهِ يَخْلُفُ النَّبِيَّ ﷺ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا فِي الأُْمَّةِ، فَيُقَال خَلِيفَةٌ بِإِطْلاَقٍ، وَخَلِيفَةُ رَسُول اللَّهِ ﷺ.
وَاخْتَلَفُوا فِي جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ خَلِيفَةَ اللَّهِ، فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى عَدَمِ جَوَازِ تَسْمِيَتِهِ بِخَلِيفَةِ اللَّهِ، لأَِنَّ أَبَا بَكْرٍ ﵁ نَهَى عَنْ ذَلِكَ لَمَّا دُعِيَ بِهِ، وَقَال: لَسْتُ خَلِيفَةَ اللَّهِ، وَلَكِنِّي خَلِيفَةُ رَسُول اللَّهِ ﷺ (13) . وَلأَِنَّ الاِسْتِخْلاَفَ إِنَّمَا هُوَ فِي حَقِّ الْغَائِبِ، وَاَللَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ ذَلِكَ (14) . وَأَجَازَهُ بَعْضُهُمُ اقْتِبَاسًا مِنَ الْخِلاَفَةِ الْعَامَّةِ لِلآْدَمِيِّينَ فِي قَوْله تَعَالَى: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَْرْضِ خَلِيفَةً} (15) وَقَوْلِهِ: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَْرْضِ} (16) .
مَعْرِفَةُ الإِْمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ:
8 - لاَ تَجِبُ مَعْرِفَةُ الإِْمَامِ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ عَلَى كَافَّةِ الأُْمَّةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا أَنَّ الْخِلاَفَةَ أَفْضَتْ إِلَى أَهْلِهَا، لِمَا فِي إِيجَابِ مَعْرِفَتِهِ عَلَيْهِمْ بِاسْمِهِ وَعَيْنِهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ وَالْحَرَجِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ ذَلِكَ عَلَى أَهْل الاِخْتِيَارِ الَّذِينَ تَنْعَقِدُ بِبَيْعَتِهِمُ الْخِلاَفَةُ، وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ. . (17)
حُكْمُ طَلَبِ الإِْمَامَةِ:
9 - يَخْتَلِفُ الْحُكْمُ بِاخْتِلاَفِ حَال الطَّالِبِ، فَإِنْ كَانَ لاَ يَصْلُحُ لَهَا إِلاَّ شَخْصٌ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَطْلُبَهَا، وَوَجَبَ عَلَى أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ أَنْ يُبَايِعُوهُ.
وَإِنْ كَانَ يَصْلُحُ لَهَا جَمَاعَةٌ صَحَّ أَنْ يَطْلُبَهَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ، وَوَجَبَ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمْ، وَإِلاَّ أُجْبِرَ أَحَدُهُمْ عَلَى قَبُولِهَا جَمْعًا لِكَلِمَةِ الأُْمَّةِ. وَإِنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ هُوَ أَوْلَى مِنْهُ كُرِهَ لَهُ طَلَبُهَا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ صَالِحٍ لَهَا حَرُمَ عَلَيْهِ طَلَبُهَا. (18)
شُرُوطُ الإِْمَامَةِ:
10 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لِلإِْمَامِ شُرُوطًا، مِنْهَا مَا هُوَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ وَمِنْهَا مَا هُوَ مُخْتَلَفٌ فِيهِ.
فَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ مِنْ شُرُوطِ الإِْمَامَةِ:
أ - الإِْسْلاَمُ، لأَِنَّهُ شَرْطٌ فِي جَوَازِ الشَّهَادَةِ. وَصِحَّةُ الْوِلاَيَةِ عَلَى مَا هُوَ دُونَ الإِْمَامَةِ فِي الأَْهَمِّيَّةِ. قَال تَعَالَى: {وَلَنْ يَجْعَل اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً} (19) وَالإِْمَامَةُ كَمَا قَال ابْنُ حَزْمٍ: أَعْظَمُ (السَّبِيل) ، وَلِيُرَاعَى مَصْلَحَةُ الْمُسْلِمِينَ.
ب - التَّكْلِيفُ: وَيَشْمَل الْعَقْل، وَالْبُلُوغَ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ، لأَِنَّهُمَا فِي وِلاَيَةِ غَيْرِهِمَا، فَلاَ يَلِيَانِ أَمْرَ الْمُسْلِمِينَ، وَجَاءَ فِي الأَْثَرِ تَعَوَّذُوا بِاَللَّهِ مِنْ رَأْسِ السَّبْعِينَ، وَإِمَارَةِ الصِّبْيَانِ (20)
ج - الذُّكُورَةُ: فَلاَ تَصِحُّ إِمَارَةُ النِّسَاءِ، لِخَبَرِ: لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمُ امْرَأَةً (21) وَلأَِنَّ هَذَا الْمَنْصِبَ تُنَاطُ بِهِ أَعْمَالٌ خَطِيرَةٌ وَأَعْبَاءٌ جَسِيمَةٌ تَتَنَافَى مَعَ طَبِيعَةِ الْمَرْأَةِ، وَفَوْقَ طَاقَتِهَا. فَيَتَوَلَّى الإِْمَامُ قِيَادَةَ الْجُيُوشِ وَيَشْتَرِكُ فِي الْقِتَال بِنَفْسِهِ أَحْيَانًا. د - الْكِفَايَةُ وَلَوْ بِغَيْرِهِ، وَالْكِفَايَةُ هِيَ الْجُرْأَةُ وَالشَّجَاعَةُ وَالنَّجْدَةُ، بِحَيْثُ يَكُونُ قَيِّمًا بِأَمْرِ الْحَرْبِ وَالسِّيَاسَةِ وَإِقَامَةِ الْحُدُودِ وَالذَّبِّ عَنِ الأُْمَّةِ.
هـ - الْحُرِّيَّةُ: فَلاَ يَصِحُّ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لِمَنْ فِيهِ رِقٌّ، لأَِنَّهُ مَشْغُولٌ فِي خِدْمَةِ سَيِّدِهِ.
و سَلاَمَةُ الْحَوَاسِّ وَالأَْعْضَاءِ مِمَّا يَمْنَعُ اسْتِيفَاءَ الْحَرَكَةِ لِلنُّهُوضِ بِمَهَامِّ الإِْمَامَةِ. وَهَذَا الْقَدْرُ مِنَ الشُّرُوطِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ. (22)
11 - أَمَّا الْمُخْتَلَفُ فِيهِ مِنَ الشُّرُوطِ فَهُوَ:
أ - الْعَدَالَةُ وَالاِجْتِهَادُ. ذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالشَّافِعِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّ الْعَدَالَةَ وَالاِجْتِهَادَ شَرْطَا صِحَّةٍ، فَلاَ يَجُوزُ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ أَوِ الْمُقَلِّدِ إِلاَّ عِنْدَ فَقْدِ الْعَدْل وَالْمُجْتَهِدِ. (23)
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُمَا شَرْطَا أَوْلَوِيَّةٍ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ وَالْعَامِّيِّ، وَلَوْ عِنْدَ وُجُودِ الْعَدْل وَالْمُجْتَهِدِ.
ب - السَّمْعُ وَالْبَصَرُ وَسَلاَمَةُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ. ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهَا شُرُوطُ انْعِقَادٍ، فَلاَ تَصِحُّ إِمَامَةُ الأَْعْمَى وَالأَْصَمِّ وَمَقْطُوعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ ابْتِدَاءً، وَيَنْعَزِل إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ، لأَِنَّهُ غَيْرُ قَادِرٍ عَلَى الْقِيَامِ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ، وَيَخْرُجُ بِهَا عَنْ أَهْلِيَّةِ الإِْمَامَةِ إِذَا طَرَأَتْ عَلَيْهِ. وَذَهَبَ بَعْضُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ ذَلِكَ، فَلاَ يَضُرُّ الإِْمَامَ عِنْدَهُمْ أَنْ يَكُونَ فِي خَلْقِهِ عَيْبٌ جَسَدِيٌّ أَوْ مَرَضٌ مُنَفِّرٌ، كَالْعَمَى وَالصَّمَمِ وَقَطْعِ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ وَالْجَدْعِ وَالْجُذَامِ، إِذْ لَمْ يَمْنَعْ ذَلِكَ قُرْآنٌ وَلاَ سُنَّةٌ وَلاَ إِجْمَاعٌ (24) .
ج - النَّسَبُ:
وَيُشْتَرَطُ عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنْ يَكُونَ الإِْمَامُ قُرَشِيًّا لِحَدِيثِ: الأَْئِمَّةُ مِنْ قُرَيْشٍ (25) وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الْبَاقِلاَّنِيُّ، وَاحْتَجُّوا بِقَوْل عُمَرَ: لَوْ كَانَ سَالِمٌ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ حَيًّا لَوَلَّيْتُهُ، وَلاَ يُشْتَرَطُ أَنْ يَكُونَ هَاشِمِيًّا وَلاَ عَلَوِيًّا بِاتِّفَاقِ فُقَهَاءِ الْمَذَاهِبِ الأَْرْبَعَةِ، لأَِنَّ الثَّلاَثَةَ الأُْوَل مِنَ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَمْ يَكُونُوا مِنْ بَنِي هَاشِمٍ، وَلَمْ يَطْعَنْ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ فِي خِلاَفَتِهِمْ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا فِي عَصْرِ الصَّحَابَةِ. (26)
دَوَامُ الإِْمَامَةِ:
12 - يُشْتَرَطُ لِدَوَامِ الإِْمَامَةِ دَوَامُ شُرُوطِهَا، وَتَزُول بِزَوَالِهَا إِلاَّ الْعَدَالَةَ، فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي أَثَرِ زَوَالِهَا عَلَى مَنْصِبِ الإِْمَامَةِ عَلَى النَّحْوِ التَّالِي: عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ لَيْسَتِ الْعَدَالَةُ شَرْطًا لِصِحَّةِ الْوِلاَيَةِ، فَيَصِحُّ تَقْلِيدُ الْفَاسِقِ الإِْمَامَةَ عِنْدَهُمْ مَعَ الْكَرَاهَةِ، وَإِذَا قُلِّدَ إِنْسَانٌ الإِْمَامَةَ حَال كَوْنِهِ عَدْلاً، ثُمَّ جَارَ فِي الْحُكْمِ، وَفَسَقَ بِذَلِكَ أَوْ غَيْرِهِ لاَ يَنْعَزِل، وَلَكِنْ يَسْتَحِقُّ الْعَزْل إِنْ لَمْ يَسْتَلْزِمْ عَزْلُهُ فِتْنَةً، وَيَجِبُ أَنْ يُدْعَى لَهُ بِالصَّلاَحِ وَنَحْوِهِ، وَلاَ يَجِبُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، كَذَا نَقَل الْحَنَفِيَّةُ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَلِمَتُهُمْ قَاطِبَةً مُتَّفِقَةٌ فِي تَوْجِيهِهِ عَلَى أَنَّ وَجْهَهُ: هُوَ أَنَّ بَعْضَ الصَّحَابَةِ ﵃ صَلَّوْا خَلْفَ أَئِمَّةِ الْجَوْرِ وَقَبِلُوا الْوِلاَيَةَ عَنْهُمْ. وَهَذَا عِنْدَهُمْ لِلضَّرُورَةِ وَخَشْيَةَ الْفِتْنَةِ. (27)
وَقَال الدُّسُوقِيُّ: يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَى الإِْمَامِ الْجَائِرِ لأَِنَّهُ لاَ يُعْزَل السُّلْطَانُ بِالظُّلْمِ وَالْفِسْقِ وَتَعْطِيل الْحُقُوقِ بَعْدَ انْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ وَعْظُهُ وَعَدَمُ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ، إِنَّمَا هُوَ لِتَقْدِيمِ أَخَفِّ الْمَفْسَدَتَيْنِ، إِلاَّ أَنْ يَقُومَ عَلَيْهِ إِمَامٌ عَدْلٌ، فَيَجُوزُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ وَإِعَانَةُ ذَلِكَ الْقَائِمِ. (28)
وَقَال الْخَرَشِيُّ: رَوَى ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: إِنْ كَانَ الإِْمَامُ مِثْل عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَجَبَ عَلَى النَّاسِ الذَّبُّ عَنْهُ وَالْقِتَال مَعَهُ، وَأَمَّا غَيْرُهُ فَلاَ، دَعْهُ وَمَا يُرَادُ مِنْهُ، يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنَ الظَّالِمِ بِظَالِمٍ، ثُمَّ يَنْتَقِمُ مِنْ كِلَيْهِمَا. (29)
وَقَال الْمَاوَرْدِيُّ: إِنَّ الْجَرْحَ فِي عَدَالَةِ الإِْمَامِ، وَهُوَ الْفِسْقُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا مَا تَبِعَ فِيهِ الشَّهْوَةَ، وَالثَّانِي مَا تَعَلَّقَ فِيهِ بِشُبْهَةٍ. فَأَمَّا الأَْوَّل مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِأَفْعَال الْجَوَارِحِ، وَهُوَ ارْتِكَابُهُ لِلْمَحْظُورَاتِ وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ تَحْكِيمًا لِلشَّهْوَةِ وَانْقِيَادًا لِلْهَوَى، فَهَذَا فِسْقٌ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ عَلَى مَنِ انْعَقَدَتْ إِمَامَتُهُ خَرَجَ مِنْهَا، فَلَوْ عَادَ إِلَى الْعَدَالَةِ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِْمَامَةِ إِلاَّ بِعَقْدٍ جَدِيدٍ. وَقَال بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ: يَعُودُ إِلَى الإِْمَامَةِ بِعَوْدَةِ الْعَدَالَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَهُ عَقْدٌ وَلاَ بَيْعَةٌ، لِعُمُومِ وِلاَيَتِهِ وَلُحُوقِ الْمَشَقَّةِ فِي اسْتِئْنَافِ بَيْعَتِهِ.
وَأَمَّا الثَّانِي مِنْهُمَا فَمُتَعَلِّقٌ بِالاِعْتِقَادِ الْمُتَأَوَّل بِشُبْهَةٍ تَعْتَرِضُ، فَيُتَأَوَّل لَهَا خِلاَفُ الْحَقِّ، فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهَا: فَذَهَبَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ إِلَى أَنَّهَا تَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ مِنْهَا بِحُدُوثِهِ لأَِنَّهُ لَمَّا اسْتَوَى حُكْمُ الْكُفْرِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ وَجَبَ أَنْ يَسْتَوِيَ حَال الْفِسْقِ بِتَأْوِيلٍ وَغَيْرِ تَأْوِيلٍ. وَقَال كَثِيرٌ مِنْ عُلَمَاءِ الْبَصْرَةِ: إِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، وَلاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنْهَا، كَمَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ وَجَوَازِ الشَّهَادَةِ. (30)
وَقَال أَبُو يَعْلَى: إِذَا وُجِدَتْ هَذِهِ الصِّفَاتُ حَالَةَ الْعَقْدِ، ثُمَّ عُدِمَتْ بَعْدَ الْعَقْدِ نَظَرْتَ، فَإِنْ كَانَ جَرْحًا فِي عَدَالَتِهِ، وَهُوَ الْفِسْقُ، فَإِنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الإِْمَامَةِ. سَوَاءٌ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِأَفْعَال الْجَوَارِحِ. وَهُوَ ارْتِكَابُ الْمَحْظُورَاتِ، وَإِقْدَامُهُ عَلَى الْمُنْكَرَاتِ اتِّبَاعًا لِشَهْوَتِهِ، أَوْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِالاِعْتِقَادِ، وَهُوَ الْمُتَأَوِّل لِشُبْهَةٍ تَعْرِضُ يَذْهَبُ فِيهَا إِلَى خِلاَفِ الْحَقِّ. وَهَذَا ظَاهِرُ كَلاَمِهِ (أَحْمَدَ) فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ فِي الأَْمِيرِ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ وَيَغُل، يُغْزَى مَعَهُ، وَقَدْ كَانَ يَدْعُو الْمُعْتَصِمَ بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ، وَقَدْ دَعَاهُ إِلَى الْقَوْل بِخَلْقِ الْقُرْآنِ.
وَقَال حَنْبَلٌ: فِي وِلاَيَةِ الْوَاثِقِ اجْتَمَعَ فُقَهَاءُ بَغْدَادَ إِلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ قَالُوا: هَذَا أَمْرٌ قَدْ تَفَاقَمَ وَفَشَا - يَعْنُونَ إِظْهَارَ الْقَوْل بِخَلْقِ الْقُرْآنِ - نُشَاوِرُكَ فِي أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِإِمْرَتِهِ وَلاَ سُلْطَانِهِ. فَقَال: عَلَيْكُمْ بِالنَّكِيرِ بِقُلُوبِكُمْ، وَلاَ تَخْلَعُوا يَدًا مِنْ طَاعَةٍ، وَلاَ تَشُقُّوا عَصَا الْمُسْلِمِينَ. وَقَال أَحْمَدُ فِي رِوَايَةِ الْمَرْوَزِيِّ، وَذَكَرَ الْحَسَنَ بْنَ صَالِحِ بْنِ حَيٍّ الزَّيْدِيَّ فَقَال: كَانَ يَرَى السَّيْفَ، وَلاَ نَرْضَى بِمَذْهَبِهِ. (31)
مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الإِْمَامَةُ:
تَنْعَقِدُ الإِْمَامَةُ بِطُرُقٍ ثَلاَثَةٍ، بِاتِّفَاقِ أَهْل السُّنَّةِ: (32)
أَوَّلاً - الْبَيْعَةُ:
13 - وَالْمُرَادُ بِالْبَيْعَةِ بَيْعَةُ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، وَهُمْ: عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ وَرُؤَسَاؤُهُمْ وَوُجُوهُ النَّاسِ، الَّذِينَ يَتَيَسَّرُ اجْتِمَاعُهُمْ حَالَةَ الْبَيْعَةِ بِلاَ كُلْفَةٍ عُرْفًا، وَلَكِنْ هَل يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ؟
اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ الْفُقَهَاءُ، فَنُقِل عَنْ بَعْضِ الْحَنَفِيَّةِ أَنَّهُ يُشْتَرَطُ جَمَاعَةٌ دُونَ تَحْدِيدِ عَدَدٍ مُعَيَّنٍ. (33) وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهَا لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، بِالْحُضُورِ وَالْمُبَاشَرَةِ بِصَفْقَةِ الْيَدِ، وَإِشْهَادِ الْغَائِبِ مِنْهُمْ مِنْ كُل بَلَدٍ، لِيَكُونَ الرِّضَا بِهِ عَامًّا، وَالتَّسْلِيمُ بِإِمَامَتِهِ إِجْمَاعًا (34) .
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ اتِّفَاقُ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ مِنْ سَائِرِ الْبِلاَدِ، لِتَعَذُّرِ ذَلِكَ وَمَا فِيهِ مِنَ الْمَشَقَّةِ، وَذَكَرُوا أَقْوَالاً خَمْسَةً فِي ذَلِكَ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: أَقَل مَا تَنْعَقِدُ بِهِ الإِْمَامَةُ خَمْسَةٌ، يَجْتَمِعُونَ عَلَى عَقْدِهَا أَوْ يَعْقِدُ أَحَدُهُمْ بِرِضَا الْبَاقِينَ، وَاسْتَدَلُّوا بِخِلاَفَةِ أَبِي بَكْرٍ لأَِنَّهَا انْعَقَدَتْ بِخَمْسَةٍ اجْتَمَعُوا عَلَيْهَا، ثُمَّ تَابَعَهُمُ النَّاسُ فِيهَا. وَجَعَل عُمَرُ الشُّورَى فِي سِتَّةٍ لِيَعْقِدُوا لأَِحَدِهِمْ بِرِضَا الْخَمْسَةِ.
وَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ لاَ تَنْعَقِدُ بِأَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ، لأَِنَّهَا أَشَدُّ خَطَرًا مِنَ الْجُمُعَةِ، وَهِيَ لاَ تَنْعَقِدُ بِأَقَل مِنْ أَرْبَعِينَ، وَالرَّاجِحُ عِنْدَهُمْ: أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ عَدَدٌ مُعَيَّنٌ، بَل لاَ يُشْتَرَطُ عَدَدٌ، حَتَّى لَوِ انْحَصَرَتْ أَهْلِيَّةُ الْحَل وَالْعَقْدِ بِوَاحِدٍ مُطَاعٍ كَفَتْ بَيْعَتُهُ لاِنْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، وَلَزِمَ عَلَى النَّاسِ الْمُوَافَقَةُ وَالْمُتَابَعَةُ. (35) شُرُوطُ أَهْل الاِخْتِيَارِ
14 - يَشْتَرِطُ الْفُقَهَاءُ لأَِهْل الاِخْتِيَارِ أُمُورًا، هِيَ: الْعَدَالَةُ بِشُرُوطِهَا، وَالْعِلْمُ بِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ، وَالرَّأْيُ وَالْحِكْمَةُ وَالتَّدْبِيرُ. (36)
وَيَزِيدُ الشَّافِعِيَّةُ شَرْطًا آخَرَ وَهُوَ: أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا فِي أَحْكَامِ الإِْمَامَةِ إِنْ كَانَ الاِخْتِيَارُ مِنْ وَاحِدٍ، وَأَنْ يَكُونَ فِيهِمْ مُجْتَهِدٌ إِنْ كَانَ أَهْل الاِخْتِيَارِ جَمَاعَةً. (37)
15 - ثَانِيًا: وِلاَيَةُ الْعَهْدِ (الاِسْتِخْلاَفُ) :
وَهِيَ: عَهْدُ الإِْمَامِ بِالْخِلاَفَةِ إِلَى مَنْ يَصِحُّ إِلَيْهِ الْعَهْدُ لِيَكُونَ إِمَامًا بَعْدَهُ (38) . قَال الْمَاوَرْدِيُّ: انْعِقَادُ الإِْمَامَةِ بِعَهْدِ مَنْ قَبْلَهُ مِمَّا انْعَقَدَ الإِْجْمَاعُ عَلَى جَوَازِهِ، وَوَقَعَ الاِتِّفَاقُ عَلَى صِحَّتِهِ، لأَِمْرَيْنِ عَمِل الْمُسْلِمُونَ بِهِمَا وَلَمْ يَتَنَاكَرُوهُمَا.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ ﵁ عَهِدَ بِهَا إِلَى عُمَرَ ﵁، فَأَثْبَتَ الْمُسْلِمُونَ إِمَامَتَهُ بِعَهْدِهِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ عُمَرَ ﵁ عَهِدَ بِهَا إِلَى أَهْل الشُّورَى، فَقَبِلَتِ الْجَمَاعَةُ دُخُولَهُمْ فِيهَا، وَهُمْ أَعْيَانُ الْعَصْرِ اعْتِقَادًا لِصِحَّةِ الْعَهْدِ بِهَا وَخَرَجَ بَاقِي الصَّحَابَةِ مِنْهَا، وَقَال عَلِيٌّ لِلْعَبَّاسِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمَا حِينَ عَاتَبَهُ عَلَى الدُّخُول فِي الشُّورَى: كَانَ أَمْرًا عَظِيمًا فِي أُمُورِ الإِْسْلاَمِ لَمْ أَرَ لِنَفْسِي الْخُرُوجَ مِنْهُ فَصَارَ الْعَهْدُ بِهَا إِجْمَاعًا فِي انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ، فَإِذَا أَرَادَ الإِْمَامُ أَنْ يَعْهَدَ بِهَا فَعَلَيْهِ أَنْ يَجْتَهِدَ رَأْيَهُ فِي الأَْحَقِّ بِهَا وَالأَْقْوَمِ بِشُرُوطِهَا، فَإِذَا تَعَيَّنَ لَهُ الاِجْتِهَادُ فِي وَاحِدٍ نَظَرَ فِيهِ:
فَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَلَدًا وَلاَ وَالِدًا جَازَ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ وَبِتَفْوِيضِ الْعَهْدِ إِلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَسْتَشِرْ فِيهِ أَحَدًا مِنْ أَهْل الاِخْتِيَارِ، لَكِنِ اخْتَلَفُوا هَل يَكُونُ ظُهُورُ الرِّضَا مِنْهُمْ شَرْطًا فِي انْعِقَادِ بَيْعَتِهِ أَوْ لاَ؟ فَذَهَبَ بَعْضُ عُلَمَاءِ أَهْل الْبَصْرَةِ إِلَى أَنَّ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ لِبَيْعَتِهِ شَرْطٌ فِي لُزُومِهَا لِلأُْمَّةِ، لأَِنَّهَا حَقٌّ يَتَعَلَّقُ بِهِمْ، فَلَمْ تَلْزَمْهُمْ إِلاَّ بِرِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ مِنْهُمْ، وَالصَّحِيحُ أَنَّ بَيْعَتَهُ مُنْعَقِدَةٌ وَأَنَّ الرِّضَا بِهَا غَيْرُ مُعْتَبَرٍ، لأَِنَّ بَيْعَةَ عُمَرَ ﵁ لَمْ تَتَوَقَّفْ عَلَى رِضَا الصَّحَابَةِ، وَلأَِنَّ الإِْمَامَ أَحَقُّ بِهَا فَكَانَ اخْتِيَارُهُ فِيهَا أَمْضَى، وَقَوْلُهُ فِيهَا أَنْفَذَ.
وَإِنْ كَانَ وَلِيُّ الْعَهْدِ وَلَدًا أَوْ وَالِدًا فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي جَوَازِ انْفِرَادِهِ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لَهُ عَلَى ثَلاَثَةِ مَذَاهِبَ.
أَحَدُهُمَا: لاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَلَدٍ وَلاَ لِوَالِدٍ، حَتَّى يُشَاوِرَ فِيهِ أَهْل الاِخْتِيَارِ فَيَرَوْنَهُ أَهْلاً لَهَا، فَيَصِحُّ مِنْهُ حِينَئِذٍ عَقْدُ الْبَيْعَةِ لَهُ، لأَِنَّ ذَلِكَ مِنْهُ تَزْكِيَةٌ لَهُ تَجْرِي مَجْرَى الشَّهَادَةِ، وَتَقْلِيدُهُ عَلَى الأُْمَّةِ يَجْرِي مَجْرَى الْحُكْمِ، وَهُوَ لاَ يَجُوزُ أَنْ يَشْهَدَ لِوَالِدٍ وَلاَ لِوَلَدٍ، وَلاَ يَحْكُمَ لِوَاحِدٍ مِنْهُمَا لِلتُّهْمَةِ الْعَائِدَةِ إِلَيْهِ بِمَا جُبِل مِنَ الْمَيْل إِلَيْهِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُفْرَدَ بِعَقْدِهَا لِوَلَدٍ، وَوَالِدٍ، لأَِنَّهُ أَمِيرُ الأُْمَّةِ نَافِذُ الأَْمْرِ لَهُمْ وَعَلَيْهِمْ. فَغَلَبَ حُكْمُ الْمَنْصِبِ عَلَى حُكْمِ النَّسَبِ، وَلَمْ يُجْعَل لِلتُّهْمَةِ طَرِيقًا عَلَى أَمَانَتِهِ وَلاَ سَبِيلاً إِلَى مُعَارَضَتِهِ،وَصَارَ فِيهَا كَعَهْدِهِ بِهَا إِلَى غَيْرِ وَلَدِهِ وَوَالِدِهِ، وَهَل يَكُونُ رِضَا أَهْل الاِخْتِيَارِ بَعْدَ صِحَّةِ الْعَهْدِ مُعْتَبَرًا فِي لُزُومِهِ لِلأُْمَّةِ أَوْ لاَ؟ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِعَقْدِ الْبَيْعَةِ لِوَالِدِهِ، وَلاَ يَجُوزُ أَنْ يَنْفَرِدَ بِهَا لِوَلَدِهِ، لأَِنَّ الطَّبْعَ يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَلَدِ أَكْثَرَ مِمَّا يَبْعَثُ عَلَى مُمَايَلَةِ الْوَالِدِ، وَلِذَلِكَ كَانَ كُل مَا يَقْتَنِيهِ فِي الأَْغْلَبِ مَذْخُورًا لِوَلَدِهِ دُونَ وَالِدِهِ.
فَأَمَّا عَقْدُهَا لأَِخِيهِ وَمَنْ قَارَبَهُ مِنْ عَصَبَتِهِ وَمُنَاسِبِيهِ فَكَعَقْدِهَا لِلْبُعَدَاءِ الأَْجَانِبِ فِي جَوَازِ تَفَرُّدِهِ بِهَا. (39)
وَقَال ابْنُ خَلْدُونٍ، بَعْدَ أَنْ قَدَّمَ الْكَلاَمَ فِي الإِْمَامَةِ وَمَشْرُوعِيَّتِهَا لِمَا فِيهَا مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَأَنَّ حَقِيقَتَهَا لِلنَّظَرِ فِي مَصَالِحِ الأُْمَّةِ لِدِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ.
قَال: فَالإِْمَامُ هُوَ وَلِيُّهُمْ وَالأَْمِينُ عَلَيْهِمْ، يَنْظُرُ لَهُمْ ذَلِكَ فِي حَيَاتِهِ، وَيَتْبَعُ ذَلِكَ أَنْ يَنْظُرَ لَهُمْ بَعْدَ مَمَاتِهِ، وَيُقِيمَ لَهُمْ مَنْ يَتَوَلَّى أُمُورَهُمْ كَمَا كَانَ هُوَ يَتَوَلاَّهَا، وَيَثِقُونَ بِنَظَرِهِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ، كَمَا وَثِقُوا بِهِ فِيمَا قَبْل، وَقَدْ عُرِفَ ذَلِكَ مِنَ الشَّرْعِ بِإِجْمَاعِ الأُْمَّةِ عَلَى جَوَازِهِ وَانْعِقَادِهِ، إِذْ وَقَعَ بِعَهْدِ أَبِي بَكْرٍ ﵁ لِعُمَرِ بِمَحْضَرٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَأَجَازُوهُ، وَأَوْجَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِهِ طَاعَةَ عُمَرَ ﵁ وَعَنْهُمْ، وَكَذَلِكَ عَهِدَ عُمَرُ فِي الشُّورَى إِلَى السِّتَّةِ بَقِيَّةِ الْعَشَرَةِ، وَجَعَل لَهُمْ أَنْ يَخْتَارُوا لِلْمُسْلِمِينَ، فَفَوَّضَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ، حَتَّى أَفْضَى ذَلِكَ إِلَى عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، فَاجْتَهَدَ وَنَاظَرَ الْمُسْلِمِينَ فَوَجَدَهُمْ مُتَّفِقِينَ عَلَى عُثْمَانَ وَعَلَى عَلِيٍّ، فَآثَرَ عُثْمَانَ بِالْبَيْعَةِ عَلَى ذَلِكَ لِمُوَافَقَتِهِ إِيَّاهُ عَلَى لُزُومِ الاِقْتِدَاءِ بِالشَّيْخَيْنِ فِي كُل مَا يَعْرِضُ لَهُ دُونَ اجْتِهَادِهِ، فَانْعَقَدَ أَمْرُ عُثْمَانَ لِذَلِكَ، وَأَوْجَبُوا طَاعَتَهُ، وَالْمَلأَُ مِنَ الصَّحَابَةِ حَاضِرُونَ لِلأُْولَى وَالثَّانِيَةِ، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَدَل عَلَى أَنَّهُمْ مُتَّفِقُونَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْعَهْدِ، عَارِفُونَ بِمَشْرُوعِيَّتِهِ، وَالإِْجْمَاعُ حُجَّةٌ كَمَا عُرِفَ، وَلاَ يُتَّهَمُ الإِْمَامُ فِي هَذَا الأَْمْرِ وَإِنْ عَهِدَ إِلَى أَبِيهِ أَوِ ابْنِهِ، لأَِنَّهُ مَأْمُونٌ عَلَى النَّظَرِ لَهُمْ فِي حَيَاتِهِ، فَأَوْلَى أَنْ لاَ يَحْتَمِل فِيهَا تَبِعَةً بَعْدَ مَمَاتِهِ، خِلاَفًا لِمَنْ قَال بِاتِّهَامِهِ فِي الْوَلَدِ وَالْوَالِدِ، أَوْ لِمَنْ خَصَّصَ التُّهْمَةَ بِالْوَلَدِ دُونَ الْوَالِدِ، فَإِنَّهُ بَعِيدٌ عَنِ الظِّنَّةِ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ، لاَ سِيَّمَا إِذَا كَانَتْ هُنَاكَ دَاعِيَةٌ تَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ إِيثَارِ مَصْلَحَةٍ أَوْ تَوَقُّعِ مَفْسَدَةٍ فَتَنْتَفِي الظِّنَّةُ فِي ذَلِكَ رَأْسًا (40) .
هَذَا، وَلِلإِْمَامِ أَنْ يَجْعَلَهَا شُورَى بَيْنَ اثْنَيْنِ فَأَكْثَرَ مِنْ أَهْل الإِْمَامَةِ، فَيَتَعَيَّنُ مَنْ عَيَّنُوهُ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، لأَِنَّ عُمَرَ ﵁ جَعَل الأَْمْرَ شُورَى بَيْنَ سِتَّةٍ، فَاتَّفَقُوا عَلَى عُثْمَانَ ﵁، فَلَمْ يُخَالِفْ مِنَ الصَّحَابَةِ أَحَدٌ، فَكَانَ ذَلِكَ إِجْمَاعًا (41) .
اسْتِخْلاَفُ الْغَائِبِ:
16 - صَرَّحَ الْفُقَهَاءُ بِأَنَّهُ يَصِحُّ اسْتِخْلاَفُ غَائِبٍ عَنِ الْبَلَدِ، إِنْ عُلِمَ حَيَاتُهُ، وَيُسْتَقْدَمُ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، فَإِنْ طَال غِيَابُهُ وَتَضَرَّرَ الْمُسْلِمُونَ بِغِيَابِهِ يَجُوزُ لأَِهْل الاِخْتِيَارِ نَصْبُ نَائِبٍ عَنْهُ، وَيَنْعَزِل النَّائِبُ بِقُدُومِهِ. (42) شُرُوطُ صِحَّةِ وِلاَيَةِ الْعَهْدِ:
17 - يَشْتَرِطُ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ لِصِحَّةِ وِلاَيَةِ الْعَهْدِ شُرُوطًا مِنْهَا:
أ - أَنْ يَكُونَ الْمُسْتَخْلِفُ جَامِعًا لِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ، فَلاَ يَصِحُّ الاِسْتِخْلاَفُ مِنَ الإِْمَامِ الْفَاسِقِ أَوِ الْجَاهِل.
ب - أَنْ يَقْبَل وَلِيُّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ، فَإِنْ تَأَخَّرَ قَبُولُهُ عَنْ حَيَاةِ الإِْمَامِ تَكُونُ وَصِيَّةً بِالْخِلاَفَةِ، فَيَجْرِي فِيهَا أَحْكَامُ الْوَصِيَّةِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ قَوْلٌ بِبُطْلاَنِ الْوَصِيَّةِ فِي الاِسْتِخْلاَفِ، لأَِنَّ الإِْمَامَ يَخْرُجُ عَنِ الْوِلاَيَةِ بِالْمَوْتِ (43) .
ج - أَنْ يَكُونَ وَلِيُّ الْعَهْدِ مُسْتَجْمِعًا لِشُرُوطِ الإِْمَامَةِ، وَقْتَ عَهْدِ الْوِلاَيَةِ إِلَيْهِ، مَعَ اسْتِدَامَتِهَا إِلَى مَا بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ، فَلاَ يَصِحُّ - عِنْدَ جُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ - عَهْدُ الْوِلاَيَةِ إِلَى صَبِيٍّ أَوْ مَجْنُونٍ أَوْ فَاسِقٍ وَإِنْ كَمُلُوا بَعْدَ وَفَاةِ الإِْمَامِ، وَتَبْطُل بِزَوَال أَحَدِ الشُّرُوطِ مِنْ وَلِيِّ الْعَهْدِ فِي حَيَاةِ الإِْمَامِ (44) .
وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى جَوَازِ الْعَهْدِ إِلَى صَبِيٍّ وَقْتَ الْعَهْدِ، وَيُفَوَّضُ الأَْمْرُ إِلَى وَالٍ يَقُومُ بِهِ، حَتَّى يَبْلُغَ وَلِيُّ الْعَهْدِ. وَصَرَّحُوا أَيْضًا بِأَنَّهُ إِذَا بَلَغَ جُدِّدَتْ بَيْعَتُهُ وَانْعَزَل الْوَالِي الْمُفَوَّضُ عَنْهُ بِبُلُوغِهِ (45) .
ثَالِثًا: الاِسْتِيلاَءُ بِالْقُوَّةِ:
18 - قَال الْمَاوَرْدِيُّ: اخْتَلَفَ أَهْل الْعِلْمِ فِي ثُبُوتِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ وَانْعِقَادِ وِلاَيَتِهِ بِغَيْرِ عَقْدٍ وَلاَ اخْتِيَارٍ، فَذَهَبَ بَعْضُ فُقَهَاءِ الْعِرَاقِ إِلَى ثُبُوتِ وِلاَيَتِهِ، وَانْعِقَادِ إِمَامَتِهِ، وَحَمْل الأُْمَّةِ عَلَى طَاعَتِهِ وَإِنْ لَمْ يَعْقِدْهَا أَهْل الاِخْتِيَارِ، لأَِنَّ مَقْصُودَ الاِخْتِيَارِ تَمْيِيزُ الْمُوَلَّى، وَقَدْ تَمَيَّزَ هَذَا بِصِفَتِهِ. وَذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ إِمَامَتَهُ لاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِالرِّضَا وَالاِخْتِيَارِ، لَكِنْ يَلْزَمُ أَهْل الاِخْتِيَارِ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لَهُ، فَإِنْ تَوَقَّفُوا أَثِمُوا لأَِنَّ الإِْمَامَةَ عَقْدٌ لاَ يَتِمُّ إِلاَّ بِعَاقِدٍ. (46)
وَقَال أَبُو يَعْلَى: الإِْمَامَةُ تَنْعَقِدُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: بِاخْتِيَارِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ.
وَالثَّانِي: بِعَهْدِ الإِْمَامِ مِنْ قَبْل.
فَأَمَّا انْعِقَادُهَا بِاخْتِيَارِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ، فَلاَ تَنْعَقِدُ إِلاَّ بِجُمْهُورِ أَهْل الْحَل وَالْعَقْدِ. قَال أَحْمَدُ، فِي رِوَايَةِ إِسْحَاقَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ: الإِْمَامُ: الَّذِي يَجْتَمِعُ عَلَيْهِ، كُلُّهُمْ يَقُول: هَذَا إِمَامٌ.
وَظَاهِرُ هَذَا: أَنَّهَا تَنْعَقِدُ بِجَمَاعَتِهِمْ.
وَرُوِيَ عَنْهُ مَا دَل عَلَى أَنَّهَا تَثْبُتُ بِالْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَلاَ تَفْتَقِرُ إِلَى الْعَقْدِ. فَقَال فِي رِوَايَةِ عَبْدُوسِ بْنِ مَالِكٍ الْعَطَّارِ: وَمَنْ غَلَبَ عَلَيْهِمْ بِالسَّيْفِ حَتَّى صَارَ خَلِيفَةً وَسُمِّيَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَلاَ يَحِل لأَِحَدٍ يُؤْمِنُ بِاَللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ يَبِيتَ وَلاَ يَرَاهُ إِمَامًا، بَرًّا كَانَ أَوْ فَاجِرًا. وَقَال أَيْضًا فِي رِوَايَةِ أَبِي الْحَارِثِ - فِي الإِْمَامِ يَخْرُجُ عَلَيْهِ مَنْ يَطْلُبُ الْمُلْكَ، فَيَكُونُ مَعَ هَذَا قَوْمٌ وَمَعَ هَذَا قَوْمٌ -: تَكُونُ الْجُمُعَةُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَاحْتَجَّ بِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ صَلَّى بِأَهْل الْمَدِينَةِ فِي زَمَنِ الْحَرَّةِ. وَقَال: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ.
وَجْهُ الرِّوَايَةِ الأُْولَى: أَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ الْمُهَاجِرُونَ وَالأَْنْصَارُ، فَقَالَتِ الأَْنْصَارُ: مِنَّا أَمِيرٌ وَمِنْكُمْ أَمِيرٌ " حَاجَّهُمْ عُمَرُ، وَقَال لأَِبِي بَكْرٍ ﵄. مُدَّ يَدَكَ أُبَايِعْكَ فَلَمْ يَعْتَبِرِ الْغَلَبَةَ وَاعْتَبَرَ الْعَقْدَ مَعَ وُجُودِ الاِخْتِلاَفِ.
وَوَجْهُ الثَّانِيَةِ: مَا ذَكَرَهُ أَحْمَدُ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَقَوْلُهُ: نَحْنُ مَعَ مَنْ غَلَبَ وَلأَِنَّهَا لَوْ كَانَتْ تَقِفُ عَلَى عَقْدٍ لَصَحَّ رَفْعُهُ وَفَسْخُهُ بِقَوْلِهِمْ وَقَوْلِهِ، كَالْبَيْعِ وَغَيْرِهِ مِنَ الْعُقُودِ، وَلَمَّا ثَبَتَ أَنَّهُ (أَيِ الْمُتَغَلِّبَ) لَوْ عَزَل نَفْسَهُ أَوْ عَزَلُوهُ لَمْ يَنْعَزِل، دَل عَلَى أَنَّهُ لاَ يَفْتَقِرُ إِلَى عَقْدِهِ. (47)
وَلأَِنَّ عَبْدَ الْمَلِكِ بْنَ مَرْوَانَ خَرَجَ عَلَى ابْنِ الزُّبَيْرِ وَاسْتَوْلَى عَلَى الْبِلاَدِ وَأَهْلِهَا، حَتَّى بَايَعُوهُ طَوْعًا وَكَرْهًا، فَصَارَ إِمَامًا يَحْرُمُ الْخُرُوجُ عَلَيْهِ، وَلِمَا فِي الْخُرُوجِ عَلَيْهِ مِنْ شَقِّ عَصَا الْمُسْلِمِينَ، وَإِرَاقَةِ دِمَائِهِمْ، وَذَهَابِ أَمْوَالِهِمْ. (48) وَلِخَبَرِ: اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنْ أُمِّرَ عَلَيْكُمْ عَبْدٌ حَبَشِيٌّ أَجْدَعُ. (49)
وَإِلَى هَذَا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ.
وَذَكَرَ الشَّافِعِيَّةُ قَوْلاً: يُشْتَرَطُ لِصِحَّةِ إِمَامَةِ الْمُتَغَلِّبِ اسْتِجْمَاعُ شُرُوطِ الإِْمَامَةِ (50) . كَمَا يَشْتَرِطُ الشَّافِعِيَّةُ أَيْضًا: أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى الأَْمْرِ بَعْدَ مَوْتِ الإِْمَامِ الْمُبَايَعِ لَهُ، وَقَبْل نَصْبِ إِمَامٍ جَدِيدٍ بِالْبَيْعَةِ، أَوْ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَى حَيٍّ مُتَغَلِّبٍ مِثْلِهِ. أَمَّا إِذَا اسْتَوْلَى عَلَى الأَْمْرِ وَقَهَرَ إِمَامًا مُوَلًّى بِالْبَيْعَةِ أَوْ بِالْعَهْدِ فَلاَ تَثْبُتُ إِمَامَتُهُ، وَيَبْقَى الإِْمَامُ الْمَقْهُورُ عَلَى إِمَامَتِهِ شَرْعًا (51) .
اخْتِيَارُ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل:
19 - اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ إِذَا تَعَيَّنَ لأَِهْل الاِخْتِيَارِ وَاحِدٌ هُوَ أَفْضَل الْجَمَاعَةِ، فَبَايَعُوهُ عَلَى الإِْمَامَةِ، فَظَهَرَ بَعْدَ الْبَيْعَةِ مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ، انْعَقَدَتْ بِبَيْعَتِهِمْ إِمَامَةُ الأَْوَّل وَلَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهُ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْضَل مِنْهُ. كَمَا اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ لَوِ ابْتَدَءُوا بَيْعَةَ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل لِعُذْرٍ، كَكَوْنِ الأَْفْضَل غَائِبًا أَوْ مَرِيضًا، أَوْ كَوْنِ الْمَفْضُول أَطْوَعَ فِي النَّاسِ، وَأَقْرَبَ إِلَى قُلُوبِهِمُ، انْعَقَدَتْ بَيْعَةُ الْمَفْضُول وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ، وَلَوْ عَدَلُوا عَنِ الأَْفْضَل فِي الاِبْتِدَاءِ لِغَيْرِ عُذْرٍ لَمْ يَجُزْ. (52)
أَمَّا الاِنْعِقَادُ فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي انْعِقَادِ بَيْعَةِ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل بِغَيْرِ عُذْرٍ، فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى أَنَّ بَيْعَتَهُ لاَ تَنْعَقِدُ، لأَِنَّ الاِخْتِيَارَ إِذَا دَعَا إِلَى أَوْلَى الأَْمْرَيْنِ لَمْ يَجُزِ الْعُدُول عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ. (53)
وَذَهَبَ الأَْكْثَرُ مِنَ الْفُقَهَاءِ وَالْمُتَكَلِّمِينَ إِلَى أَنَّ الإِْمَامَةَ جَائِزَةٌ لِلْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل، وَصَحَّتْ إِمَامَتُهُ إِذَا تَوَفَّرَتْ فِيهِ شُرُوطُ الإِْمَامَةِ. كَمَا يَجُوزُ فِي وِلاَيَةِ الْقَضَاءِ تَقْلِيدُ الْمَفْضُول مَعَ وُجُودِ الأَْفْضَل لأَِنَّ زِيَادَةَ الْفَضْل مُبَالَغَةٌ فِي الاِخْتِيَارِ، وَلَيْسَتْ شَرْطًا فِيهِ. وَقَال أَبُو بَكْرٍ يَوْمَ السَّقِيفَةِ: قَدْ رَضِيتُ لَكُمْ أَحَدَ هَذَيْنِ الرَّجُلَيْنِ: أَبِي عُبَيْدَة بْنِ الْجَرَّاحِ، وَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ. وَهُمَا عَلَى فَضْلِهِمَا دُونَ أَبِي بَكْرٍ فِي الْفَضْل، وَلَمْ يُنْكِرْهُ أَحَدٌ.
وَدَعَتِ الأَْنْصَارُ إِلَى بَيْعَةِ سَعْدٍ، وَلَمْ يَكُنْ أَفْضَل الصَّحَابَةِ بِالاِتِّفَاقِ، ثُمَّ عَهِدَ عُمَرُ ﵁ إِلَى سِتَّةٍ مِنَ الصَّحَابَةِ، وَلاَ بُدَّ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهُمْ أَفْضَل مِنْ بَعْضٍ.
وَقَدْ أَجْمَعَ أَهْل الإِْسْلاَمِ حِينَئِذٍ عَلَى أَنَّهُ لَوْ بُويِعَ أَحَدُهُمْ فَهُوَ الإِْمَامُ الْوَاجِبُ طَاعَتُهُ. فَصَحَّ بِذَلِكَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ ﵃ عَلَى جَوَازِ إِمَامَةِ الْمَفْضُول (54) .
عَقْدُ الْبَيْعَةِ لإِِمَامَيْنِ:
20 - ذَهَبَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لاَ يَجُوزُ كَوْنُ إِمَامَيْنِ فِي الْعَالَمِ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلاَ يَجُوزُ إِلاَّ إِمَامٌ وَاحِدٌ. (55) وَاسْتَدَلُّوا بِخَبَرِ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآْخِرَ مِنْهُمَا. (56) وقَوْله تَعَالَى: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا} (57)
وَوَجْهُ الاِسْتِدْلاَل: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى حَرَّمَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ التَّفَرُّقَ وَالتَّنَازُعَ، وَإِذَا كَانَ إِمَامَانِ فَقَدْ حَصَل التَّفَرُّقُ الْمُحَرَّمُ، فَوُجِدَ التَّنَازُعُ وَوَقَعَتِ الْمَعْصِيَةُ لِلَّهِ تَعَالَى. (58)
فَإِنْ عُقِدَتْ لاِثْنَيْنِ مَعًا بَطَلَتْ فِيهِمَا، أَوْ مُرَتَّبًا فَهِيَ لِلسَّابِقِ مِنْهُمَا. وَيُعَزَّرُ الثَّانِي وَمُبَايِعُوهُ؛ لِخَبَرِ: إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآْخِرَ مِنْهُمَا. وَإِنْ جُهِل السَّابِقُ مِنْهُمَا بَطَل الْعَقْدُ فِيهِمَا عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ، لاِمْتِنَاعِ تَعَدُّدِ الأَْئِمَّةِ، وَعَدَمِ الْمُرَجِّحِ لأَِحَدِهِمَا.
وَعِنْدَ الإِْمَامِ أَحْمَدَ رِوَايَتَانِ:
إِحْدَاهُمَا: بُطْلاَنُ الْعَقْدِ، وَالثَّانِيَةُ: اسْتِعْمَال الْقُرْعَةِ. وَذَهَبَ الْمَالِكِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ إِذَا تَبَاعَدَتِ الْبِلاَدُ، وَتَعَذَّرَتِ الاِسْتِنَابَةُ، جَازَ تَعَدُّدُ الأَْئِمَّةِ بِقَدْرِ الْحَاجَةِ، وَهُوَ قَوْلٌ عِنْدَ الشَّافِعِيَّةِ. . (59)
طَاعَةُ الإِْمَامِ:
21 - اتَّفَقَتِ الأُْمَّةُ جَمْعَاءُ عَلَى وُجُوبِ طَاعَةِ الإِْمَامِ الْعَادِل وَحُرْمَةِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِ لِلأَْدِلَّةِ الْوَارِدَةِ فِي ذَلِكَ كَخَبَرِ: مَنْ بَايَعَ إِمَامًا فَأَعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنِ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآْخَرِ (60) . وقَوْله تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُول وَأُولِي الأَْمْرِ مِنْكُمْ} (61) وَحَدِيثِ: مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ، وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً (62)
أَمَّا حُكْمُ الْخُرُوجِ عَلَى الْجَائِرِ مِنَ الأَْئِمَّةِ فَقَدْ سَبَقَ بَيَانُهُ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ دَوَامِ الإِْمَامَةِ.
وَيَدْعُو لِلإِْمَامِ بِالصَّلاَحِ وَالنُّصْرَةِ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا. وَيُكْرَهُ تَحْرِيمًا وَصْفُهُ بِمَا لَيْسَ فِيهِ مِنَ الصِّفَاتِ كَالصَّالِحِ وَالْعَادِل، كَمَا يَحْرُمُ أَنْ يُوصَفَ بِمَا لاَ يَجُوزُ وَصْفُ الْعِبَادِ بِهِ، مِثْل شَاهِنْشَاهْ الأَْعْظَمِ، وَمَالِكِ رِقَابِ النَّاسِ، لأَِنَّ الأَْوَّل مِنْ صِفَاتِ اللَّهِ فَلاَ يَجُوزُ وَصْفُ الْعِبَادِ بِهِ، وَالثَّانِي كَذِبٌ. (63)
مَنْ يَنْعَزِل بِمَوْتِ الإِْمَامِ:
22 - لاَ يَنْعَزِل بِمَوْتِ الإِْمَامِ مَنْ عَيَّنَهُ الإِْمَامُ فِي وَظِيفَةٍ عَامَّةٍ كَالْقُضَاةِ، وَأُمَرَاءِ الأَْقَالِيمِ، وَنُظَّارِ الْوَقْفِ، وَأَمِينِ بَيْتِ الْمَال، وَأَمِيرِ الْجَيْشِ. (64) وَهَذَا مَحَل اتِّفَاقٍ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لأَِنَّ الْخُلَفَاءَ الرَّاشِدِينَ - ﵃ - وَلَّوْا حُكَّامًا فِي زَمَنِهِمْ، فَلَمْ يَنْعَزِل أَحَدٌ بِمَوْتِ الإِْمَامِ، وَلأَِنَّ الْخَلِيفَةَ أَسْنَدَ إِلَيْهِمُ الْوَظَائِفَ نِيَابَةً عَنِ الْمُسْلِمِينَ، لاَ نُوَّابًا عَنْ نَفْسِهِ، فَلاَ يَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِهِ، وَفِي انْعِزَالِهِمْ ضَرَرٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ وَتَعْطِيلٌ لِلْمَصَالِحِ.
أَمَّا الْوُزَرَاءُ فَيَنْعَزِلُونَ بِمَوْتِ الإِْمَامِ وَانْعِزَالِهِ، لأَِنَّ الْوَزَارَةَ نِيَابَةٌ عَنِ الإِْمَامِ فَيَنْعَزِل النَّائِبُ بِمَوْتِ الْمُسْتَنِيبِ. لأَِنَّ الإِْمَامَ اسْتَنَابَ الْوَزِيرَ لِيُعِينَهُ فِي أُمُورِ الْخِلاَفَةِ. (65)
عَزْل الإِْمَامِ وَانْعِزَالُهُ:
23 - سَبَقَ نَقْل كَلاَمِ الْمَاوَرْدِيِّ فِي مَسْأَلَةِ عَزْل الإِْمَامِ لِطُرُوءِ الْفِسْقِ وَالْجَوْرِ عِنْدَ الْكَلاَمِ عَنْ دَوَامِ الإِْمَامِ.
ثُمَّ قَال الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا مَا طَرَأَ عَلَى بَدَنِهِ مِنْ نَقْصٍ فَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: نَقْصُ الْحَوَاسِّ، وَالثَّانِي: نَقْصُ الأَْعْضَاءِ، وَالثَّالِثُ: نَقْصُ التَّصَرُّفِ.
فَأَمَّا نَقْصُ الْحَوَاسِّ فَيَنْقَسِمُ ثَلاَثَةَ أَقْسَامٍ: قِسْمٌ يَمْنَعُ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَقِسْمٌ لاَ يَمْنَعُ مِنْهَا، وَقِسْمٌ مُخْتَلَفٌ فِيهِ
فَأَمَّا الْقِسْمُ الْمَانِعُ مِنْهَا فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: زَوَال الْعَقْل. وَالثَّانِي: ذَهَابُ الْبَصَرِ.
فَأَمَّا زَوَال الْعَقْل فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ عَارِضًا مَرْجُوَّ الزَّوَال كَالإِْغْمَاءِ، فَهَذَا لاَ يَمْنَعُ مِنِ انْعِقَادِ الإِْمَامَةِ وَلاَ يَخْرُجُ مِنْهَا، لأَِنَّهُ مَرَضٌ قَلِيل اللُّبْثِ سَرِيعُ الزَّوَال، وَقَدْ أُغْمِيَ عَلَى رَسُول اللَّهِ ﷺ فِي مَرَضِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَا كَانَ لاَزِمًا لاَ يُرْجَى زَوَالُهُ كَالْجُنُونِ وَالْخَبَل، فَهُوَ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مُطْبِقًا دَائِمًا لاَ يَتَخَلَّلُهُ إِفَاقَةٌ، فَهَذَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ هَذَا بَطَلَتْ بِهِ الإِْمَامَةُ بَعْدَ تَحَقُّقِهِ وَالْقَطْعِ بِهِ، وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَتَخَلَّلَهُ إِفَاقَةٌ يَعُودُ بِهَا إِلَى حَال السَّلاَمَةِ فَيُنْظَرَ فِيهِ: فَإِنْ كَانَ زَمَانُ الْخَبَل أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الإِْفَاقَةِ فَهُوَ كَالْمُسْتَدِيمِ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، وَيَخْرُجُ بِحُدُوثِهِ مِنْهَا، وَإِنْ كَانَ زَمَانُ الإِْفَاقَةِ أَكْثَرَ مِنْ زَمَانِ الْخَبَل مَنَعَ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ.
وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، فَقِيل: يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا كَمَا يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الإِْمَامَةُ، لأَِنَّ فِي اسْتِدَامَتِهِ إِخْلاَلاً بِالنَّظَرِ الْمُسْتَحَقِّ فِيهِ، وَقِيل: لاَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الإِْمَامَةِ، وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا فِي الاِبْتِدَاءِ، لأَِنَّهُ يُرَاعَى فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا سَلاَمَةٌ كَامِلَةٌ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا نَقْصٌ كَامِلٌ.
وَأَمَّا ذَهَابُ الْبَصَرِ فَيَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَاسْتِدَامَتِهَا، فَإِذَا طَرَأَ بَطَلَتْ بِهِ الإِْمَامَةُ، لأَِنَّهُ لَمَّا أَبْطَل وِلاَيَةَ الْقَضَاءِ، وَمَنَعَ مِنْ جَوَازِ الشَّهَادَةِ، فَأَوْلَى أَنْ يَمْنَعَ مِنْ صِحَّةِ الإِْمَامَةِ.
وَأَمَّا غِشَاءُ الْعَيْنِ، وَهُوَ: أَلاَّ يُبْصِرَ عِنْدَ دُخُول اللَّيْل، فَلاَ يَمْنَعُ مِنَ الإِْمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلاَ اسْتِدَامَةٍ، لأَِنَّهُ مَرَضٌ فِي زَمَانِ الدَّعَةِ يُرْجَى زَوَالُهُ.
وَأَمَّا ضَعْفُ الْبَصَرِ، فَإِنْ كَانَ يَعْرِفُ بِهِ الأَْشْخَاصَ إِذَا رَآهَا لَمْ يَمْنَعْ مِنَ الإِْمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ يُدْرِكُ الأَْشْخَاصَ وَلاَ يَعْرِفُهَا مَنَعَ مِنَ الإِْمَامَةِ عَقْدًا وَاسْتِدَامَةً.
وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي مِنَ الْحَوَاسِّ، الَّتِي لاَ يُؤَثِّرُ فَقْدُهَا فِي الإِْمَامَةِ فَشَيْئَانِ: أَحَدُهُمَا: الْخَشْمُ فِي الأَْنْفِ الَّذِي يُدْرِكُ بِهِ شَمَّ الرَّوَائِحِ. وَالثَّانِي: فَقْدُ الذَّوْقِ الَّذِي يُفَرِّقُ بِهِ بَيْنَ الطُّعُومِ. فَلاَ يُؤَثِّرُ هَذَا فِي عَقْدِ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّهُمَا يُؤَثِّرَانِ فِي اللَّذَّةِ، وَلاَ يُؤَثِّرَانِ فِي الرَّأْيِ وَالْعَمَل.وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ مِنَ الْحَوَاسِّ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا فَشَيْئَانِ: الصَّمَمُ، وَالْخَرَسُ، فَيَمْنَعَانِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّ كَمَال الأَْوْصَافِ بِوُجُودِهِمَا مَفْقُودٌ.
وَاخْتُلِفَ فِي الْخُرُوجِ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: يَخْرُجُ بِهِمَا مِنْهَا كَمَا يَخْرُجُ بِذَهَابِ الْبَصَرِ لِتَأْثِيرِهِمَا فِي التَّدْبِيرِ وَالْعَمَل، وَقَال آخَرُونَ: لاَ يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ، لِقِيَامِ الإِْشَارَةِ مَقَامَهُمَا، فَلَمْ يَخْرُجْ مِنْهَا إِلاَّ بِنَقْصٍ كَامِلٍ. وَقَال آخَرُونَ: إِنْ كَانَ يُحْسِنُ الْكِتَابَةَ لَمْ يَخْرُجْ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ، وَإِنْ كَانَ لاَ يُحْسِنُهَا خَرَجَ مِنَ الإِْمَامَةِ بِهِمَا، لأَِنَّ الْكِتَابَةَ مَفْهُومَةٌ وَالإِْشَارَةَ مَوْهُومَةٌ، وَالأَْوَّل مِنَ الْمَذَاهِبِ أَصَحُّ.
وَأَمَّا تَمْتَمَةُ اللِّسَانِ، وَثِقَل السَّمْعِ، مَعَ إِدْرَاكِ الصَّوْتِ إِذَا كَانَ عَالِيًا، فَلاَ يَخْرُجُ بِهِمَا مِنَ الإِْمَامَةِ إِذَا حَدَثَا. وَاخْتُلِفَ فِي ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَعَهُمَا، فَقِيل: يَمْنَعُ ذَلِكَ ابْتِدَاءَ عَقْدِهَا، لأَِنَّهُمَا نَقْصٌ يَخْرُجُ بِهِمَا عَنْ حَال الْكَمَال، وَقِيل: لاَ يَمْنَعُ، لأَِنَّ نَبِيَّ اللَّهِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمْ تَمْنَعْهُ عُقْدَةُ لِسَانِهِ عَنِ النُّبُوَّةِ فَأَوْلَى أَلاَّ يَمْنَعَ مِنَ الإِْمَامَةِ. وَأَمَّا فَقْدُ الأَْعْضَاءِ فَيَنْقَسِمُ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا لاَ يَمْنَعُ مِنْ صِحَّةِ الإِْمَامَةِ فِي عَقْدٍ وَلاَ اسْتِدَامَةٍ، وَهُوَ مَا لاَ يُؤَثِّرُ فَقْدُهُ فِي رَأْيٍ وَلاَ عَمَلٍ وَلاَ نُهُوضٍ وَلاَ يَشِينُ فِي الْمَنْظَرِ، فَلاَ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَلاَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا بَعْدَ الْعَقْدِ، لأَِنَّ فَقْدَهُ لاَ يُؤَثِّرُ فِي الرَّأْيِ وَالْحُنْكَةِ. مِثْل قَطْعِ الأُْذُنَيْنِ لأَِنَّهُمَا لاَ يُؤَثِّرَانِ فِي رَأْيٍ وَلاَ عَمَلٍ، وَلَهُمَا شَيْنٌ يُمْكِنُ أَنْ يَسْتَتِرَ فَلاَ يَظْهَرَ.
وَالْقِسْمُ الثَّانِي: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ وَمِنِ اسْتِدَامَتِهَا: وَهُوَ مَا يَمْنَعُ مِنَ الْعَمَل، كَذَهَابِ الْيَدَيْنِ، أَوْ مِنَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ الرِّجْلَيْنِ، فَلاَتَصِحُّ مَعَهُ الإِْمَامَةُ فِي عَقْدٍ وَلاَ اسْتِدَامَةٍ، لِعَجْزِهِ عَمَّا يَلْزَمُهُ مِنْ حُقُوقِ الأُْمَّةِ فِي عَمَلٍ أَوْ نَهْضَةٍ.
وَالْقِسْمُ الثَّالِثُ: مَا يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ: وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا، وَهُوَ مَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُ الْعَمَل، أَوْ فَقَدَ بِهِ بَعْضَ النُّهُوضِ كَذَهَابِ إِحْدَى الْيَدَيْنِ أَوْ إِحْدَى الرِّجْلَيْنِ، فَلاَ يَصِحُّ مَعَهُ عَقْدُ الإِْمَامَةِ لِعَجْزِهِ عَنْ كَمَال التَّصَرُّفِ، فَإِنْ طَرَأَ بَعْدَ عَقْدِ الإِْمَامَةِ فَفِي خُرُوجِهِ مِنْهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهُمَا: يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ، لأَِنَّهُ عَجْزٌ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَائِهَا فَمَنَعَ مِنِ اسْتِدَامَتِهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّانِي: أَنَّهُ لاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ وَإِنْ مَنَعَ مِنْ عَقْدِهَا، لأَِنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي عَقْدِهَا كَمَال السَّلاَمَةِ، وَفِي الْخُرُوجِ مِنْهَا كَمَال النَّقْصِ.
وَالْقِسْمُ الرَّابِعُ: مَا لاَ يَمْنَعُ مِنِ اسْتِدَامَةِ الإِْمَامَةِ. وَاخْتُلِفَ فِي مَنْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا، وَهُوَ مَا يَشِينُ وَيُقَبِّحُ، وَلاَ يُؤَثِّرُ فِي عَمَلٍ وَلاَ فِي نَهْضَةٍ، كَجَدْعِ الأَْنْفِ وَسَمْل إِحْدَى الْعَيْنَيْنِ، فَلاَ يَخْرُجُ بِهِ مِنَ الإِْمَامَةِ بَعْدَ عَقْدِهَا، لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي شَيْءٍ مِنْ حُقُوقِهَا، وَفِي مَنْعِهِ مِنِ ابْتِدَاءِ عَقْدِهَا مَذْهَبَانِ لِلْفُقَهَاءِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لاَ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِهَا، وَلَيْسَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْمُعْتَبَرَةِ فِيهَا لِعَدَمِ تَأْثِيرِهِ فِي حُقُوقِهَا.
وَالْمَذْهَبُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَمْنَعُ مِنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ، وَتَكُونُ السَّلاَمَةُ مِنْهُ شَرْطًا مُعْتَبَرًا فِي عَقْدِهَا لِيَسْلَمَ وُلاَةُ الْمِلَّةِ مِنْ شَيْنٍ يُعَابُ وَنَقْصٍ يُزْدَرَى، فَتَقِل بِهِ الْهَيْبَةُ، وَفِي قِلَّتِهَا نُفُورٌ عَنِ الطَّاعَةِ، وَمَا أَدَّى إِلَى هَذَا فَهُوَ نَقْصٌ فِي حُقُوقِ الأُْمَّةِ.
وَأَمَّا نَقْصُ التَّصَرُّفِ فَضَرْبَانِ: حَجْرٌ، وَقَهْرٌ.فَأَمَّا الْحَجْرُ: فَهُوَ أَنْ يَسْتَوْلِيَ عَلَيْهِ مِنْ أَعْوَانِهِ مَنْ يَسْتَبِدُّ بِتَنْفِيذِ الأُْمُورِ مِنْ غَيْرِ تَظَاهُرٍ بِمَعْصِيَةٍ وَلاَ مُجَاهَرَةٍ بِمَشَاقَّةٍ، فَلاَ يَمْنَعُ ذَلِكَ مِنْ إِمَامَتِهِ، وَلاَ يَقْدَحُ فِي صِحَّةِ وِلاَيَتِهِ.
وَأَمَّا الْقَهْرُ فَهُوَ أَنْ يَصِيرَ مَأْسُورًا فِي يَدِ عَدُوٍّ قَاهِرٍ لاَ يَقْدِرُ عَلَى الْخَلاَصِ مِنْهُ، فَيَمْنَعُ ذَلِكَ عَنْ عَقْدِ الإِْمَامَةِ لَهُ، لِعَجْزِهِ عَنِ النَّظَرِ فِي أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ، وَسَوَاءٌ كَانَ الْعَدُوُّ مُشْرِكًا أَوْ مُسْلِمًا بَاغِيًا، وَلِلأُْمَّةِ اخْتِيَارُ مَنْ عَدَاهُ مِنْ ذَوِي الْقُدْرَةِ. وَإِنْ أُسِرَ بَعْدَ أَنْ عُقِدَتْ لَهُ الإِْمَامَةُ فَعَلَى كَافَّةِ الأُْمَّةِ اسْتِنْقَاذُهُ، لِمَا أَوْجَبْتُهُ الإِْمَامَةُ مِنْ نُصْرَتِهِ، وَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ مَا كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلاَصِ مَأْمُول الْفِكَاكِ إِمَّا بقِتَالٍ أَوْ فِدَاءٍ، فَإِنْ وَقَعَ الْيَأْسُ مِنْهُ، لَمْ يَخْل حَال مَنْ أَسَرَهُ مِنْ أَنْ يَكُونُوا مُشْرِكِينَ أَوْ بُغَاةَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ فِي أَسْرِ الْمُشْرِكِينَ خَرَجَ مِنَ الإِْمَامَةِ لِلْيَأْسِ مِنْ خَلاَصِهِ، وَاسْتَأْنَفَ أَهْل الاِخْتِيَارِ بَيْعَةَ غَيْرِهِ عَلَى الإِْمَامَةِ، وَإِنْ خَلَصَ قَبْل الإِْيَاسِ فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ. وَإِنْ كَانَ مَأْسُورًا مَعَ بُغَاةِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ كَانَ مَرْجُوَّ الْخَلاَصِ فَهُوَ عَلَى إِمَامَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يُرْجَ خَلاَصُهُ، فَالإِْمَامُ الْمَأْسُورُ فِي أَيْدِيهِمْ خَارِجٌ مِنَ الإِْمَامَةِ بِالإِْيَاسِ مِنْ خَلاَصِهِ، وَعَلَى أَهْل الاِخْتِيَارِ فِي دَارِ الْعَدْل أَنْ يَعْقِدُوا الإِْمَامَةَ لِمَنِ ارْتَضَوْا لَهَا، فَإِنْ خَلَصَ الْمَأْسُورُ لَمْ يَعُدْ إِلَى الإِْمَامَةِ لِخُرُوجِهِ مِنْهَا. (66)
وَاجِبَاتُ الإِْمَامِ:
24 - مِنْ تَعْرِيفِ الْفُقَهَاءِ لِلإِْمَامَةِ الْكُبْرَى بِأَنَّهَا رِئَاسَةٌ عَامَّةٌ فِي سِيَاسَةِ الدُّنْيَا وَإِقَامَةِ الدِّينِ نِيَابَةً عَنِ النَّبِيِّ ﷺ (67) يَتَبَيَّنُ أَنَّ وَاجِبَاتِ الإِْمَامِ إِجْمَالاً هِيَ كَمَا يَلِي:
أ - حِفْظُ الدِّينِ عَلَى أُصُولِهِ الثَّابِتَةِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَإِجْمَاعِ سَلَفِ الأُْمَّةِ، وَإِقَامَةُ شَعَائِرِ الدِّينِ.
ب - رِعَايَةُ مَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ بِأَنْوَاعِهَا.
كَمَا أَنَّهُمْ - فِي مَعْرِضِ الاِسْتِدْلاَل لِفَرْضِيَّةِ نَصْبِ الإِْمَامِ بِالْحَاجَةِ إِلَيْهِ - يَذْكُرُونَ أُمُورًا لاَ بُدَّ لِلأُْمَّةِ مِمَّنْ يَقُومُ بِهَا، وَهِيَ: تَنْفِيذُ الأَْحْكَامِ، وَإِقَامَةُ الْحُدُودِ، وَسَدُّ الثُّغُورِ، وَتَجْهِيزُ الْجُيُوشِ، وَأَخْذُ الصَّدَقَاتِ، وَقَبُول الشَّهَادَاتِ، وَتَزْوِيجُ الصِّغَارِ وَالصَّغَائِرِ الَّذِينَ لاَ أَوْلِيَاءَ لَهُمْ، وَقِسْمَةُ الْغَنَائِمِ. (68) وَعَدَّهَا أَصْحَابُ كُتُبِ الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ عَشَرَةً. وَلاَ تَخْرُجُ فِي عُمُومِهَا عَمَّا ذَكَرَهُ الْفُقَهَاءُ فِيمَا مَرَّ، عَلَى أَنَّ ذَلِكَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِحَسَبِ تَجَدُّدِ الْحَاجَاتِ الزَّمَنِيَّةِ وَمَا تَقْضِي الْمَصَالِحُ بِأَنْ لاَ يَتَوَلاَّهُ الأَْفْرَادُ وَالْهَيْئَاتُ، بَل يَتَوَلاَّهُ الإِْمَامُ.
وِلاَيَاتُ الإِْمَامِ:
25 - الْوُلاَةُ مِنْ قِبَل الإِْمَامِ تَنْقَسِمُ وِلاَيَتُهُمْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَقْسَامٍ:
أ - وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ، وَهِيَ: الْوَزَارَةُ، فَهِيَ نِيَابَةٌ عَنِ الإِْمَامِ فِي الأُْمُورِ كُلِّهَا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ. ب - وِلاَيَةٌ عَامَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ الإِْمَارَةُ فِي الأَْقَالِيمِ، لأَِنَّ النَّظَرَ فِيمَا خُصَّ بِهَا عَامٌّ فِي جَمِيعِ الأُْمُورِ.
ج - وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ فِي الأَْعْمَال الْعَامَّةِ: كَرِئَاسَةِ الْقَضَاءِ وَنِقَابَةِ الْجَيْشِ، لأَِنَّ كِلَيْهِمَا مَقْصُورٌ عَلَى نَظَرٍ خَاصٍّ فِي جَمِيعِ الأَْعْمَال.
د - وِلاَيَةٌ خَاصَّةٌ فِي أَعْمَالٍ خَاصَّةٍ كَقَاضِي بَلَدٍ، أَوْ مُسْتَوْفِي خَرَاجِهِ، وَجَابِي صَدَقَاتِهِ، لأَِنَّ كُلًّا مِنْ وِلاَيَةِ هَؤُلاَءِ خَاصٌّ بِعَمَلٍ مَخْصُوصٍ لاَ يَتَجَاوَزُهُ، وَالتَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَيْ: (وَزَارَة، إِمَارَة (1))
مُؤَاخَذَةُ الإِْمَامِ بِتَصَرُّفَاتِهِ:
26 - يَضْمَنُ الإِْمَامُ مَا أَتْلَفَهُ بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ أَوْ نَفْسٍ بِغَيْرِ خَطَأٍ فِي الْحُكْمِ أَوْ تَقْصِيرٍ فِي تَنْفِيذِ الْحَدِّ وَالتَّعْزِيرِ كَآحَادِ النَّاسِ فَيُقْتَصُّ مِنْهُ إِنْ قَتَل عَمْدًا، وَتَجِبُ الدِّيَةُ عَلَيْهِ أَوْ عَلَى عَاقِلَتِهِ أَوْ بَيْتِ الْمَال فِي الْخَطَأِ وَشَبَهِ الْعَمْدِ، وَيَضْمَنُ مَا أَتْلَفَهُ بِيَدِهِ مِنْ مَالٍ، كَمَا يَضْمَنُ مَا هَلَكَ بِتَقْصِيرِهِ فِي الْحُكْمِ، وَإِقَامَةِ الْحَدِّ، وَالتَّعْزِيرِ، بِالْقِصَاصِ أَوِ الدِّيَةِ مِنْ مَالِهِ أَوْ عَاقِلَتِهِ أَوْ بَيْتِ الْمَال حَسَبِ أَحْكَامِ الشَّرْعِ، وَحَسَبِ ظُرُوفِ التَّقْصِيرِ وَجَسَامَةِ الْخَطَأِ. (69) وَيُنْظَرُ التَّفْصِيل فِي مُصْطَلَحَاتِ: (حَدّ، وَتَعْزِير، وَقِصَاص، وَضَمَان) .
وَهَذَا الْقَدْرُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْفُقَهَاءِ، لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَلأَِنَّ الْمُؤْمِنِينَ تَتَكَافَأُ دِمَاؤُهُمْ، وَأَمْوَالُهُمْ مَعْصُومَةٌ إِلاَّ بِحَقِّهَا، وَثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ ﷺ " أَقَادَ مِنْ نَفْسِهِ " (70) وَكَانَ عُمَرُ ﵁ يُقِيدُ مِنْ نَفْسِهِ. وَالإِْمَامُ وَالْمُعْتَدَى عَلَيْهِ نَفْسَانِ مَعْصُومَتَانِ كَسَائِرِ الرَّعِيَّةِ.
وَاخْتَلَفُوا فِي إِقَامَةِ الْحَدِّ عَلَيْهِ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ كَمَا يُقَامُ عَلَى سَائِرِ النَّاس لِعُمُومِ الأَْدِلَّةِ، وَيَتَوَلَّى التَّنْفِيذَ عَلَيْهِ مَنْ يَتَوَلَّى الْحُكْمَ عَنْهُ. (71) وَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُقَامُ عَلَيْهِ الْحَدُّ، لأَِنَّ الْحَدَّ حَقُّ اللَّهِ تَعَالَى، وَالإِْمَامُ نَفْسُهُ هُوَ الْمُكَلَّفُ بِإِقَامَتِهِ، وَلاَ يُمْكِنُ أَنْ يُقِيمَهُ عَلَى نَفْسِهِ، لأَِنَّ إِقَامَتَهُ تَسْتَلْزِمُ الْخِزْيَ وَالنَّكَال وَلاَ يَفْعَل أَحَدٌ ذَلِكَ بِنَفْسِهِ، بِخِلاَفِ حَقِّ الْعِبَادِ. أَمَّا حَدُّ الْقَذْفِ فَقَالُوا: الْمُغَلَّبُ فِيهِ حَقُّ اللَّهِ، فَحُكْمُهُ حُكْمُ سَائِرِ الْحُدُودِ، فَإِقَامَتُهُ إِلَيْهِ كَسَائِرِ الْحُدُودِ. (72) وَلاَ وِلاَيَةَ لأَِحَدٍ عَلَيْهِ لِيَسْتَوْفِيَهُ، وَفَائِدَةُ الإِْيجَابِ الاِسْتِيفَاءُ، فَإِذَا تَعَذَّرَ لَمْ يَجِبْ. وَفَرَّقُوا بَيْنَ الْحَدِّ، وَبَيْنَ الْقِصَاصِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ بِأَنَّهُمَا مِنْ حُقُوقِ الْعِبَادِ فَيَسْتَوْفِيهِمَا صَاحِبُ الْحَقِّ، وَلاَ يُشْتَرَطُ الْقَضَاءُ، بَل الإِْمْكَانُ وَالتَّمَكُّنُ، وَيَحْصُل ذَلِكَ بِتَمْكِينِهِ مِنْ نَفْسِهِ، إِنِ احْتَاجَ إِلَى مَنَعَةٍ. (73) فَالْمُسْلِمُونَ مَنَعَتُهُ، فَبِهِمْ يَقْدِرُ عَلَى الاِسْتِيفَاءِ فَكَانَ الْوُجُوبُ مُفِيدًا. . (74)
هَدَايَا الإِْمَامِ لِغَيْرِهِ:
27 - هَدَايَا الإِْمَامِ لِغَيْرِهِ إِنْ كَانَتْ مِنْ مَالِهِ الْخَاصِّ فَلاَ يَخْتَلِفُ حُكْمُهُ عَنْ غَيْرِهِ مِنَ الأَْفْرَادِ، وَيُنْظَرُ فِي مُصْطَلَحِ: (هَدِيَّة) .
أَمَّا إِنْ كَانَتْ مِنْ بَيْتِ الْمَال، فَإِذَا كَانَ مُقَابِلاً لِعَمَلٍ عَامٍّ فَهُوَ رِزْقٌ، وَإِنْ كَانَ عَطَاءً شَامِلاً لِلنَّاسِ مِنْ بَيْتِ الْمَال فَهُوَ عَطَاءٌ، وَإِنْ كَانَتِ الْهَدِيَّةُ بِمُبَادَرَةٍ مِنَ الإِْمَامِ مَيَّزَ بِهَا فَرْدًا عَنْ غَيْرِهِ فَهِيَ الَّتِي تُسَمَّى (جَائِزَةَ السُّلْطَانِ) وَقَدِ اخْتُلِفَ فِيهَا، فَكَرِهَهَا أَحْمَدُ تَوَرُّعًا لِمَا فِي بَعْضِ مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَال مِنَ الشُّبْهَةِ، لَكِنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ بِحَرَامٍ عَلَى آخِذِهَا، لِغَلَبَةِ الْحَلاَل عَلَى مَوَارِدِ بَيْتِ الْمَال، وَكَرِهَهَا ابْنُ سِيرِينَ لِعَدَمِ شُمُولِهَا لِلرَّعِيَّةِ، وَمِمَّنْ تَنَزَّهَ عَنِ الأَْخْذِ مِنْهَا حُذَيْفَةُ وَأَبُو عُبَيْدَةَ وَمُعَاذٌ وَأَبُو هُرَيْرَةَ وَابْنُ عُمَرَ. هَذَا مِنْ حَيْثُ أَخْذُ الْجَوَائِزِ. (75)
أَمَّا مِنْ حَيْثُ تَصَرُّفُ الإِْمَامِ بِالإِْعْطَاءِ فَيَجِبُ أَنْ يُرَاعَى فِيهِ الْمَصْلَحَةُ الْعَامَّةُ لِلْمُسْلِمِينَ دُونَ اتِّبَاعِ الْهَوَى وَالتَّشَهِّي، لأَِنَّ تَصَرُّفَ الإِْمَامِ فِي الأَْمْوَال الْعَامَّةِ وَغَيْرِهَا مِنْ أُمُورِ الْمُسْلِمِينَ مَنُوطٌ بِالْمَصْلَحَةِ.
قَبُول الإِْمَامِ الْهَدَايَا:
28 - لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى الأُْمَرَاءِ.
ذَكَرَ ابْنُ عَابِدِينَ فِي حَاشِيَتِهِ. أَنَّ الإِْمَامَ (بِمَعْنَى الْوَالِي) لاَ تَحِل لَهُ الْهَدِيَّةُ، لِلأَْدِلَّةِ - الْوَارِدَةِ فِي هَدَايَا الْعُمَّال وَلأَِنَّهُ رَأْسُ الْعُمَّال.
وَقَال ابْنُ حَبِيبٍ: لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي كَرَاهِيَةِ الْهَدِيَّةِ إِلَى السُّلْطَانِ الأَْكْبَرِ وَإِلَى الْقُضَاةِ وَالْعُمَّال وَجُبَاةِ الأَْمْوَال. وَهَذَا قَوْل مَالِكٍ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنْ أَهْل الْعِلْمِ وَالسُّنَّةِ. وَكَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْبَل الْهَدِيَّةَ، وَهَذَا مِنْ خَوَاصِّهِ، وَالنَّبِيُّ ﷺ مَعْصُومٌ مِمَّا يُتَّقَى عَلَى غَيْرِهِ مِنْهَا، وَلَمَّا رَدَّ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ الْهَدِيَّةَ، قِيل لَهُ: كَانَ النَّبِيُّ ﷺ يَقْبَلُهَا، فَقَال: كَانَتْ لَهُ هَدِيَّةً وَهِيَ لَنَا رِشْوَةٌ، لأَِنَّهُ كَانَ يُتَقَرَّبُ إِلَيْهِ لِنُبُوَّتِهِ لاَ لِوِلاَيَتِهِ، وَنَحْنُ يُتَقَرَّبُ بِهَا إِلَيْنَا لِوِلاَيَتِنَا (76) .
هَدَايَا الْكُفَّارِ لِلإِْمَامِ.
29 - لاَ يَجُوزُ لِلإِْمَامِ قَبُول هَدِيَّةٍ مِنْ كُفَّارٍ أَشْرَفَتْ حُصُونُهُمْ عَلَى السُّقُوطِ بِيَدِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا فِي ذَلِكَ مِنْ تَوْهِينِ الْمُسْلِمِينَ وَتَثْبِيطِ هِمَّتِهِمْ. أَمَّا إِذَا كَانُوا بِقُوَّةٍ وَمَنَعَةٍ جَازَ لَهُ قَبُول هَدِيَّتِهِمْ. وَهِيَ لِلإِْمَامِ إِنْ كَانَتْ مِنْ قَرِيبٍ لَهُ، أَوْ كَانَتْ مُكَافَأَةً، أَوْ رَجَاءَ ثَوَابٍ (أَيْ مُقَابِلٍ) . وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ قَرِيبٍ، وَأَهْدَى بَعْدَ دُخُول الإِْمَامِ بَلَدَهُمْ فَهِيَ غَنِيمَةٌ. وَهُمْ فَيْءٌ قَبْل الدُّخُول فِي بَلَدِهِمْ. (77)
هَذَا إِذَا كَانَتْ مِنَ الأَْفْرَادِ، أَمَّا إِذَا كَانَتْ مِنَ الطَّاغِيَةِ أَيْ رَئِيسِهِمْ، فَإِنَّهَا فَيْءٌ إِنْ أُهْدِيَ قَبْل دُخُول الْمُسْلِمِينَ فِي بَلَدِهِمْ، وَغَنِيمَةٌ بَعْدَ الدُّخُول فِيهِ، وَهَذَا التَّفْصِيل لِلْمَالِكِيَّةِ. وَعِنْدَ أَحْمَدَ: يَجُوزُ لِلإِْمَامِ قَبُول الْهَدِيَّةِ مِنْ أَهْل الْحَرْبِ، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَبِل هَدِيَّةَ الْمُقَوْقِسِ صَاحِبِ مِصْرَ، فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي حَال الْغَزْوِ فَمَا أَهْدَاهُ الْكُفَّارُ لأَِمِيرِ الْجَيْشِ أَوْ لِبَعْضِ قُوَّادِهِ فَهُوَ غَنِيمَةٌ، لأَِنَّهُ لاَ يَفْعَل ذَلِكَ إِلاَّ خَوْفًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أَخَذَهُ قَهْرًا.
وَأَمَّا إِنْ أَهْدَى مِنْ دَارِ الْحَرْبِ، فَهُوَ لِمَنْ أَهْدَى إِلَيْهِ سَوَاءٌ كَانَ الإِْمَامَ أَوْ غَيْرَهُ، لأَِنَّ النَّبِيَّ ﷺ قَبِل الْهَدِيَّةَ مِنْهُمْ، فَكَانَتْ لَهُ دُونَ غَيْرِهِ. (78) وَعَزَا ابْنُ قُدَامَةَ هَذَا إِلَى الشَّافِعِيِّ أَيْضًا، وَنَقَل عَنِ الإِْمَامِ أَبِي حَنِيفَةَ: أَنَّهَا لِلْمُهْدَى لَهُ بِكُل حَالٍ، لأَِنَّهُ خَصَّهُ بِهَا، فَأَشْبَهَ مَا لَوْ أُهْدِيَ لَهُ مِنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، وَحَكَى فِي ذَلِكَ رِوَايَةً عَنْ أَحْمَدَ (79) وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّهُ لَوْ أَهْدَى مُشْرِكٌ إِلَى الأَْمِيرِ أَوْ إِلَى الإِْمَامِ هَدِيَّةً، وَالْحَرْبُ قَائِمَةٌ فَهِيَ غَنِيمَةٌ، بِخِلاَفِ مَا لَوْ أَهْدَى قَبْل أَنْ يَرْتَحِلُوا عَنْ دَارِ الإِْسْلاَمِ، فَإِنَّهُ لِلْمُهْدَى إِلَيْهِ. (80)
وَقَال عَبْدُ الْغَنِيِّ النَّابْلُسِيُّ: قَال الْمَاوَرْدِيُّ: فَنَزَاهَتُهُ عَنْهَا أَوْلَى مِنْ قَبُولِهَا، فَإِنْ قَبِلَهَا جَازَ وَلَمْ يُمْنَعْ، وَهَذَا حُكْمُ الْهَدَايَا لِلْقُضَاةِ، أَمَّا الْهَدَايَا لِلأَْئِمَّةِ فَقَدْ قَال فِي الْحَاوِي: إِنَّهَا إِنْ كَانَتْ مِنْ هَدَايَا دَارِ الإِْسْلاَمِ فَهِيَ عَلَى ثَلاَثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى حَقٍّ يَسْتَوْفِيهِ، أَوْ عَلَى ظُلْمٍ يَدْفَعُهُ عَنْهُ، أَوْ عَلَى بَاطِلٍ يُعِينُهُ عَلَيْهِ، فَهَذِهِ الرِّشْوَةُ الْمُحَرَّمَةُ.
الثَّانِي: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ كَانَ يُهَادِيهِ قَبْل الْوِلاَيَةِ، فَإِنْ كَانَ بِقَدْرِ مَا كَانَ قَبْل الْوِلاَيَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ عَرَضَتْ فَيَجُوزُ لَهُ قَبُولُهَا، وَإِنِ اقْتَرَنَ بِهَا حَاجَةٌ عَرَضَتْ إِلَيْهِ فَيُمْنَعُ مِنَ الْقَبُول عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَقْبَلَهَا بَعْدَ الْحَاجَةِ. وَإِنْ زَادَ فِي هَدِيَّتِهِ عَلَى قَدْرِ الْعَادَةِ لِغَيْرِ حَاجَةٍ، فَإِنْ كَانَتِ الزِّيَادَةُ مِنْ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ جَازَ قَبُولُهَا لِدُخُولِهَا فِي الْمَأْلُوفِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْهَدِيَّةِ مُنِعَ مِنَ الْقَبُول.
الثَّالِثُ: أَنْ يُهْدِيَ إِلَيْهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُهَادِيهِ قَبْل الْوِلاَيَةِ، فَإِنْ (كَانَ) لأَِجْل وِلاَيَتِهِ فَهِيَ رِشْوَةٌ، وَيَحْرُمُ عَلَيْهِ أَخْذُهَا، وَإِنْ كَانَ لأَِجْل جَمِيلٍ صَدَرَ (لَهُ) مِنْهُ إِمَّا وَاجِبًا أَوْ تَبَرُّعًا فَلاَ يَجُوزُ قَبُولُهَا أَيْضًا.
وَإِنْ كَانَ لاَ لأَِجْل وِلاَيَةٍ، بَل لِمُكَافَأَةٍ عَلَى جَمِيلٍ، فَهَذِهِ هَدِيَّةٌ بَعَثَ عَلَيْهَا جَاهٌ، فَإِنْ كَافَأَهُ عَلَيْهَا جَازَ لَهُ قَبُولُهَا، وَإِنْ لَمْ يُكَافِئْ عَلَيْهَا فَلاَ يَقْبَلُهَا لِنَفْسِهِ، وَإِنْ كَانَتْ مِنْ هَدَايَا دَارِ الْحَرْبِ جَازَ لَهُ قَبُول هَدَايَاهُمْ، وَذَكَرَ الْمَاوَرْدِيُّ فِي الأَْحْكَامِ السُّلْطَانِيَّةِ قَال: وَالْفَرْقُ بَيْنَ الرِّشْوَةِ وَالْهَدِيَّةِ أَنَّ الرِّشْوَةَ مَا أُخِذَتْ طَلَبًا، وَالْهَدِيَّةُ مَا بُذِلَتْ عَفْوًا. (81)
أَثَرُ فِسْقِ الإِْمَامِ عَلَى وِلاَيَتِهِ الْخَاصَّةِ:
30 - اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي سَلْبِ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ عَنِ الإِْمَامِ بِفِسْقِهِ، فَذَهَبَ الْحَنَفِيَّةُ وَالْمَالِكِيَّةُ وَالْحَنَابِلَةُ إِلَى أَنَّهُ لاَ يُشْتَرَطُ - عِنْدَهُمُ - الْعَدَالَةُ فِي وِلاَيَةِ النِّكَاحِ أَصْلاً، حَتَّى يَسْلُبَهَا الْفِسْقُ، فَيُزَوِّجُ بَنَاتِهِ الْقَاصِرَاتِ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ، يَسْتَوِي فِي ذَلِكَ الإِْمَامُ، وَغَيْرُهُ مِنَ الأَْوْلِيَاءِ. (82)
وَذَهَبَ الشَّافِعِيَّةُ إِلَى أَنَّ الْوِلاَيَةَ الْخَاصَّةَ تُسْلَبُ بِالْفِسْقِ، فَلاَ يَصِحُّ لَهُ تَزْوِيجُ بَنَاتِهِ بِالْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ كَغَيْرِهِ مِنَ الْفَسَقَةِ، لِخُرُوجِهِ بِالْفِسْقِ عَنِ الْوِلاَيَةِ الْخَاصَّةِ كَأَفْرَادِ النَّاسِ، وَإِنْ لَمْ يَسْلُبْهُ عَنِ الْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ تَعْظِيمًا لِشَأْنِ الإِْمَامَةِ، عَلَى أَنَّ فِي ذَلِكَ خِلاَفًا سَبَقَ بَيَانُهُ.
وَتَنْتَقِل وِلاَيَةُ النِّكَاحِ إِلَى الْبَعِيدِ مِنَ الْعَصَبَةِ، فَإِنْ لَمْ تُوجَدْ عَصَبَةٌ زَوَّجَهُنَّ بِالْوِلاَيَةِ الْعَامَّةِ كَغَيْرِهِنَّ مِمَّنْ لاَ وَلِيَّ لَهُنَّ. (1) لِحَدِيثِ: السُّلْطَانُ وَلِيُّ مَنْ لاَ وَلِيَّ لَهُ. (2)
__________
(1) متن اللغة، ولسان العرب المحيط، ومحيط المحيط مادة: (إمم) .
(2) سورة الأنبياء / 73
(3) سورة القصص / 41
(4) الفصل في الملل 4 / 95
(5) حاشية ابن عابدين 1 / 368، ونهاية المحتاج 7 / 409، وروض الطالبين على تحفة المحتاج 7 / 540
(6) محيط المحيط ومتن اللغة مادة (خلف)
(7) مقدمة ابن خلدون ص 191
(8) الفصل في الملل والنحل لابن حزم 4 / 90
(9) الصحاح في اللغة والعلوم ص 493، والرائد 1 / 833. ولم يرد هذا اللفظ بلسان الشرع مرادا به لقب إسلامي بل بمعناه اللغوي +، ولم يطلق قط على منصب إلا بعد استيلاء الأعاجم على السلطة في الدولة الإسلامية
(10) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 238، وجواهر الإكليل 1 / 251، ومغني المحتاج 4 / 229، والأحكام السلطانية للماوردي ص 3
(11) الفصل في الملل 4 / 87، ومقدمة ابن خلدون ص 11
(12) الأحكام السلطانية للماوردي ص3
(13) قول أبي بكر: لست خليفة الله، ولكن خليفة رسول الله عن ابن أبي مليكة قال: قيل لأبي بكر: يا خليفة الله، فقال: أنا خليفة رسول الله ﷺ. أخرجه أحمد (1 / 61 ط دار المعارف بتعليق أحمد شاكر) وإسناده منقطع
(14) مغني المحتاج 4 / 132، ومقدمة ابن خلدون ص 19، وأسنى المطالب 4 / 111
(15) سورة البقرة / 30
(16) سورة فاطر / 39
(17) الأحكام السلطانية للماوردي ص 14
(18) تحفة المحتاج 7 / 540 - 541، و8 / 308 - 309، وأسنى المطالب 4 / 108
(19) سورة النساء / 141
(20) حديث: " تعوذوا بالله. . . " أخرجه أحمد (2 / 326 ط الميمنية) وإسناده ضعيف، (الميزان للذهبي 3 / 402 ط الحلبي)
(21) حديث: " لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة. . . . " أخرجه البخاري (الفتح 8 / 126 ط السلفية)
(22) حاشية الطحطاوي على الدر 1 / 238، وحاشية الدسوقي 4 / 298، وجواهر الإكليل 2 / 221، ومغني المحتاج 4 / 130، وشرح الروض 4 / 108، 109
(23) حاشية ابن عابدين 1 / 38، و 4 / 305، والأحكام السلطانية للماوردي ص 6، وجواهر الإكليل 2 / 221، وشرح الروض 4 / 108، ومغني المحتاج 4 / 130، ومقدمة ابن خلدون ص 151 ط بيروت، والإنصاف 10 / 110
(24) حاشية الطحطاوي 1 / 238، وابن عابدين 1 / 368، و3 / 310، والدسوقي 4 / 198، وشرح الروض 4 / 111، والقليوبي 4 / 4، والفصل في الملل والنحل 4 / 167
(25) حديث: " الأئمة من قريش. . . " أخرجه الطيالسي (ص 125 ط دائرة المعارف النظامية) وأصله في صحيح البخاري (الفتح 13 / 114 ط السلفية) بلفظ: " إن هذا الأمر في قريش "
(26) ابن عابدين 1 / 368، ومغني المحتاج 4 / 0 13، وروضة الطالبين 6 / 312، 10 / 48، ومطالب أولي النهى 6 / 265، وحاشية الدسوقي 4 / 298
(27) المسامرة بشرح المسايرة ص 323، وابن عابدين 1 / 368
(28) الدسوقي 4 / 299
(29) الخرشي 8 / 60
(30) الأحكام السلطانية للماوردي ص 17
(31) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 4
(32) حاشية ابن عابدين 1 / 369، وحاشية الدسوقي 4 / 298، ومغني المحتاج 4 / 130، والمغني 8 / 107
(33) حاشية ابن عابدين 1 / 369
(34) حاشية الدسوقي 4 / 298، والمغني 8 / 107، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 7
(35) مغني المحتاج 4 / 130 - 131، وروضة الطالبين 10 / 43، وأسنى المطالب 4 / 109. والواقع أن الخلاف بين الفقهاء في هذا لفظي، فهم متفقون على أن الإمامة تنعقد ببيعة أهل الحل والعقد، وأن اجتماع جميعهم في صعيد واحد غير ممكن، فالذين ذهبوا إلى انعقادها بعدد قليل من أهل العقد والحل إنما يقصدون أنها تنعقد برضى أهل الحل والعقد، وبمباشرة من
(36) حاشية الدسوقي 4 / 298، والأحكام للماوردي ص 3 - 4، وأسنى المطالب 4 / 108
(37) مغني المحتاج 4 / 131، وأسنى المطالب 4 / 109
(38) نهاية المحتاج 7 / 411
(39) الأحكام السلطانية للماوردي ص 10
(40) مقدمة ابن خلدون ص 210
(41) مغني المحتاج 4 / 131، ونهاية المحتاج 7 / 411، وأسنى المطالب 4 / 109، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 10
(42) أسنى المطالب 4 / 110، والأحكام السلطانية للماوردي ص 8، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 10
(43) مغني المحتاج 4 / 131
(44) مغني المحتاج 4 / 131، وأسنى المطالب 4 / 109 - 110، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 9 - 10
(45) حاشية ابن عابدين 1 / 369
(46) الأحكام السلطانية للماوردي ص 8
(47) الأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 7، 8
(48) المغني 8 / 107، وحاشية ابن عابدين 1 / 369، والدسوقي 4 / 298، ومغني المحتاج 4 / 130، وأسنى المطالب 4 / 110 - 111
(49) حديث: " اسمعوا وأطيعوا. . . ". أخرجه مسلم من حديث أم الحصين ﵂ مرفوعا بلفظ: " إن أمر عليكم عبد مجدع (حسبتها قالت) أسويقودكم بكتاب الله تعالى فاسمعوا له وأطيعوا ". (صحيح مسلم 3 / 944 ط عيسى الحلبي)
(50) المصادر السابقة
(51) مغني المحتاج 4 / 132، وأسنى المطالب 4 / 110
(52) الأحكام السلطانية للماوردي ص 50
(53) المصدر السابق، والفصل في المال والأهواء والنحل 4 / 163
(54) المصادر السابقة
(55) مغني المحتاج 4 / 132، وأسنى المطالب 4 / 110، والأحكام السلطانية لأبي يعلى ص 9، والماوردي ص 6، والفصل في الملل والأهواء والنحل 4 / 88
(56) حديث: " إذا بويع لخليفتين. . . ". أخرجه مسلم من حديث أبي سعيد الخدري ﵁ مرفوعا (صحيح مسلم 3 / 1480 ط عيسى الحلبي)
(57) سورة الأنفال / 46
(58) الفصل في النحل والأهواء والملل 4 / 163
(59) جواهر الإكليل 1 / 251، وروضة الطالبين 10 / 47، ومغني المحتاج 4 / 132
(60) حديث: " من بايع إماما. . . ". أخرجه مسلم (3 / 1473 ط الحلبي)
(61) سورة النساء / 59
(62) حديث: " من خرج من الطاعة. . . ". أخرجه مسلم من حديث أبي هريرة ﵁ مرفوعا (صحيح مسلم 3 / 1476 ط عيسى الحلبي)
(63) حاشية ابن عابدين 1 / 544 - 545
(64) المغني 9 / 103 - 104، ومغني المحتاج 4 / 383، وحاشية ابن عابدين 4 / 324، وجواهر الإكليل 2 / 324
(65) الأحكام للماوردي ص 26 - 63. وترى اللجنة أن انعزال المولين من الإمام أو عدم انعزالهم أمر يرجع إلى سياسة الدولة وأنظمتها المتبعة، وتراعى فيه المصلحة العامة، وتختلف الأعراف فيه زمنا ومكانا
(66) الأحكام السلطانية للماوردي ص 17 - 20، وحاشية ابن عابدين 3 / 310، ومغني المحتاج 4 / 132، وحاشية الدسوقي 4 / 299، ومطالب أولي النهى 6 / 265، والإنصاف 10 / 310
(67) نهاية المحتاج 7 / 409، وحاشية ابن عابدين 1 / 368، وحاشية الجمل 5 / 119
(68) حاشية ابن عابدين 1 / 368، 3 / 310، ومغني المحتاج 4 / 129، وشرح روض الطالب 4 / 108
(69) مغني المحتاج 4 / 199، والمغني 8 / 312، 7 / 663، وحاشية الدسوقي 4 / 355
(70) حديث: " أن النبي ﷺ أقاد من نفسه. . . . . "،. أخرجه أبو داود والنسائي من حديث عمر ﵁ بلفظ " رأيت رسول الله ﷺ. أقص - وفي النسائي: يقص - من نفسه " وفي إسناده أبو فراس: وهو مجهول. قال الذهبي في ميزان الاعتدال: لا يعر وسنن النسائي 8 / 34 ط إستانبول، وميزان الاعتدال 4 / 561، وجامع الأصول 4 / 82، 83، 10 / 274)
(71) مغني المحتاج 4 / 152
(72) فتح القدير 4 / 160، وحاشية ابن عابدين 3 / 158
(73) حاشية ابن عابدين 3 / 158، وفتح القدير 4 / 160 - 161
(74) المغني 6 / 443 - 444 ط الرياض، وإحياء علوم الدين 2 / 135 وما بعدها
(75) ابن عابدين 4 / 310، والفتاوى الهندية 3 / 331، ومعين الحكام ص17
(76) تبصرة الحكام على هامش فتح العلي 1 / 30، والبجيرمي على الخطيب 4 / 330، والمغني 9 / 78
(77) جواهر الإكليل 1 / 256
(78) المغني 8 / 495
(79) المصدر السابق
(80) روضة الطالبين 10 / 294، وحاشية قليوبي 3 / 188
(81) تحقيق القضية في الفرق بين الرشوة والهدية للنابلسي ص 197 - 198 تحقيق محمد عمر بيوند نشر وزارة الأوقاف والشئون الإسلامية بالكويت
(82) فتح القدير 3 / 181 ط بيروت، والشرح الكبير مع حاشية الدسوقي 2 / 230، والإنصاف 8 / 74
الموسوعة الفقهية الكويتية: 215/ 6
رمضانُ شهرُ الانتصاراتِ الإسلاميةِ العظيمةِ، والفتوحاتِ الخالدةِ في قديمِ التاريخِ وحديثِهِ.
ومنْ أعظمِ تلكَ الفتوحاتِ: فتحُ مكةَ، وكان في العشرينَ من شهرِ رمضانَ في العامِ الثامنِ منَ الهجرةِ المُشَرّفةِ.
فِي هذهِ الغزوةِ دخلَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ عليهِ وسلمَ مكةَ في جيشٍ قِوامُه عشرةُ آلافِ مقاتلٍ، على إثْرِ نقضِ قريشٍ للعهدِ الذي أُبرمَ بينها وبينَهُ في صُلحِ الحُدَيْبِيَةِ، وبعدَ دخولِهِ مكةَ أخذَ صلىَ اللهُ عليهِ وسلمَ يطوفُ بالكعبةِ المُشرفةِ، ويَطعنُ الأصنامَ التي كانتْ حولَها بقَوسٍ في يدِهِ، وهوَ يُرددُ: «جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا» (81)الإسراء، وأمرَ بتلكَ الأصنامِ فكُسِرَتْ، ولما رأى الرسولُ صناديدَ قريشٍ وقدْ طأطأوا رؤوسَهمْ ذُلاً وانكساراً سألهُم " ما تظنونَ أني فاعلٌ بكُم؟" قالوا: "خيراً، أخٌ كريمٌ وابنُ أخٍ كريمٍ"، فأعلنَ جوهرَ الرسالةِ المحمديةِ، رسالةِ الرأفةِ والرحمةِ، والعفوِ عندَ المَقدُرَةِ، بقولِه:" اليومَ أقولُ لكمْ ما قالَ أخِي يوسفُ من قبلُ: "لا تثريبَ عليكمْ اليومَ يغفرُ اللهُ لكمْ، وهو أرحمُ الراحمينْ، اذهبوا فأنتمُ الطُلَقَاءُ".