الحافظ
الحفظُ في اللغة هو مراعاةُ الشيء، والاعتناءُ به، و(الحافظ) اسمٌ...
العربية
المؤلف | علاء الدين محمود زعتري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الزكاة - الحكمة وتعليل أفعال الله |
إن الزكاة حق للفقير، وليست منَّة ولا تفضلاً، بل هي حق للفقراء واجب على الأغنياء، فقد جعل الإسلام المجتمع كالأسرة الواحدة يكفل بعضهم بعضاً، بل قل كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، اشتكى كل الجسد. فمن حق الفقير الذي لا يستطيع أن يعمل، أو يستطيع ولا يجد عملاً، أو يعمل ولا يجد كفايته من عمله، أو يجد كفايته، ولكن حل به من الأحداث ما أفقره إلى المعونة؛ من حق هؤلاء أن يعاونوا، وأن يشد أزرهم، وأن يُؤخذ بأيديهم، وليس من الإيمان ولا من الإنسانية أن يشبع بعض الناس حتى يشكو التخمة وإلى جواره من طال حرمانه حتى أَنَّ مِن الجوع...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، وأشهد ألا إله إلا الله، وأشهد أن سيدنا محمداً... القائل: "ما يوم تغرب فيه شمسه إلا ملكان يناديان: اللهم أعطِ منفقاً خَلفاً، وأعطِ ممسكاً تلفاً".
تذكروا نظرة الإسلام إلى المال، فقد عرفنا أن المال مِلك لله، وأنه وسيلة لا غاية، وأن مقياس الرجال أعمالهم وليس أموالهم، وأن المال فتنة واختبار وابتلاء، وربما كان سبباً في الوقوع في المعاصي والآثام.
ثم إن الله -تبارك وتعالى- يقول: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ) [النحل:71]، وهذه الآية تؤكد على قاعدتين رئيستين في المال:
القاعدة الأولى: إن هناك تفاوتاً في الأرزاق بين العباد، فلقد فاوت الله بين أرزاق الخلق، فمنهم غني، ومنهم فقير، وهذه سُنة كونية، لا يستطيع أحد تبديلها، كما يقول الله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) [الزخرف:32]، إذًا فالتفاوت في الأرزاق إنما هو قسمة من الخَلَّاق، ولله في هذا حكمة بالغة، ليتكامل الكون ويتعايش الناس، ويخدم بعضهم بعضاً، (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ) [النحل:71].
القاعدة الثانية: أنه مع تفاوت الأفراد في الأرزاق، في الغنى والفقر، فإن منفعة المال الذي هو بأيدي المالكين له منفعة عامة للجميع، للغني وللفقير؛ حيث جعل الله -تعالى- في هذا المال حق معلوم للسائل والمحروم، وقال: (كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ) [الأنعام: 141]، وقال: (وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً) [الإسراء: 26]، حيث جعل الله -تعالى- للفقراء حقاً في منفعة مال من يملك، والنهي عن التبذير لتبقى فضلة من المال لأصحاب الحاجة.
وعلى هذه النظرة الإسلامية للمال، في ملكيته ومنفعته؛ تتأصل عبادة الله في المال، وهي الزكاة التي تتراوح بين 2.5% و10% على اختلاف نوع الأموال؛ إذ إن الزكاة واجبة في جميع الأموال الثابتة والمنقول، في الزراعة والتجارة والصناعة وفي الأموال المدخرة والمكتنزة، وفيما ظهر على وجه الأرض أو خرج من باطنها.
إن الزكاة حق للفقير، وليست منَّة ولا تفضلاً، بل هي حق للفقراء واجب على الأغنياء، فقد جعل الإسلام المجتمع كالأسرة الواحدة يكفل بعضهم بعضاً، بل قل كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو، اشتكى كل الجسد.
فمن حق الفقير الذي لا يستطيع أن يعمل، أو يستطيع ولا يجد عملاً، أو يعمل ولا يجد كفايته من عمله، أو يجد كفايته، ولكن حل به من الأحداث ما أفقره إلى المعونة؛ من حق هؤلاء أن يعاونوا، وأن يشد أزرهم، وأن يُؤخذ بأيديهم، وليس من الإيمان ولا من الإنسانية أن يشبع بعض الناس حتى يشكو التخمة وإلى جواره من طال حرمانه حتى أَنَّ مِن الجوع.
ولا يجوز المؤمن أن يعيش في دائرة نفسه، مغفلاً واجبه نحو الآخرين من ضعفاء ومساكين، فهذا نقصٌ في إيمانه، موجبٌ لسخط الله في الدنيا والآخرة، وفي هذا يقص علينا القرآن مشهداً من مشاهد الآخرة بين أهل اليمن في الجنة وأهل الشمال في النار فأصحاب اليمين: (فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ * عَنِ الْمُجْرِمِينَ * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ) [المدثر:40- 44].
ويقول الله في شأن أصحاب الشمال: (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيهْ * يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ * مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيهْ) [الحاقة: 25-29]، ثم يصدر الله عليه الحكم الذي يستحقه (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ * ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ) [الحاقة: 30-32] ، ثم يذكر أسباب هذا الحكم الشديد (إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ * وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ) [الحاقة: 33-34].
إن من معجزات هذا الدين، ومن الدلائل على أنه مِن عند الله، وعلى أنه الرسالة الخاتمة أنه سبق الزمن، وتخطى القرون فعُنِيَ بعلاج مشكلة الفقر ورعاية الفقراء، ولم تكن عنايته سطحية أو عارضة أو ثانوية، بل كانت من خاصة أسسه وصلب أصوله، فقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمدًا رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان" (رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر).
وقد جعل القرآن الزكاة مع التوبة من الشرك وإقامة الصلاة، عنواناً في دين الإسلام، واستحقاق مؤديها أخوة المسلمين (فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11].
إن الزكاة هي محل الإيمان وبرهان الإخلاص.
وبغير الزكاة لا يكون المرء في عداد المؤمنين الذين كتب الله لهم الفلاح وأعطاهم الفردوس الأعلى (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ) [المؤمنون: 1-4].
وبدون الزكاة لا يدخل المرء في زمرة المحسنين (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ) [النمل: 3].
وبدون الزكاة لا يفارق الفرد المشركين الذين وصفهم الله بقوله: (وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [فصلت: 6-7].
وبغير الزكاة لا يتميز المسلم من المنافقين الذين وصفهم الله بأنهم (وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ) [التوبة: 67] من الإنفاق (وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ) [التوبة: 54].
وبغير الزكاة لا يستحق المرء الرحمة من الله التي يكتبها للمؤمنين (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) [الأعراف: 156].
ولقد توعد الإسلام بالعقوبة الشديدة في الدنيا والآخرة كل من منع أداء الزكاة الواجبة عليه.
ففي العقوبة الأخروية يقول الله مهدِّداً الكانزين للذهب والفضة الذين لا يؤدون عنها حق الله (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ) [التوبة: 34-35].
ويروي البخاري عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته، مُثِّل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، له زبيبتان يطوقه يوم القيامة، ثم يأخذ بلهزمتيه يعني بشدقيه"، ثم يقول: أنا مالك، أنا كنزك، ثم تلا النبي -صلى الله عليه وسلم-: (وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ) [آل عمران: 180].
ويروي الإمام مسلم عن أبي هريرة -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها وحقها الزكاة إلا إذا كان يوم القيامة صُفِّحَت له صفائح من نار فأُحمي عليها في نار جهنم فيكوَى بها جبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقضى بين العباد فيُرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل يا رسول الله فالإبل؟ قال: ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بُطح لها بقاعٍ أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلاً واحداً، تطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها كلما مر عليه أولاها رُدَّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار.
قيل يا رسول الله، فالبقر والغنم؟ قال: "ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع لا يفقد منها شيئاً ليس فيها عضباء ولا جلحاء ولا غضباء، تنطحه بقرونها وتطؤه بأخلافها كلما مر عليه أولاها رُدَّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار".
وقد سئل النبي -صلى الله عليه وسلم- عن غير هذه الأموال، فاختتم حديثه بقوله مشيراً إلى آية في القرآن الكريم، وصفها بأنها آية فاذَّة جامعة لأبواب البر والخير وسائر الطاعات وهي قوله تعالى: (فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ) [الزلزلة: 7-8].
وفي العقوبة الدنيوية: يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "ما منع قوم الزكاة إلا ابتلاهم الله بالسنين" (رواه الطبراني)، أي: بالقحط مع المجاعة. وفي حديث ابن ماجه: "ما منع قوم الزكاة إلا مُنعوا القَطْر -أي: المطر من السماء-، ولولا البهائم لم يمطروا". هذه العقوبات الأخروية والدنيوية.
وهناك عقوبة دنيوية شرعية يتولاها أولو الأمر في المجتمع الإسلامي، بيَّنها النبي -صلى الله عليه وسلم-: "من أعطاها مؤتجراً فله أجرها، ومن منعها فإنا آخذوها وشطر ماله عزمةً من عزمات ربنا -تبارك وتعالى-" (رواه أحمد والنسائي وأبو داود).
ولم تقف عقوبة مانع الزكاة عند الغرامة المالية فحسب، بل يجوز لولي الأمر أن يستعمل العقوبة البدنية والحبس، وغيرها حسب الحاجة والطاقة، بل وأكثر من ذلك، فإن الإسلام شرع سلّ السيوف وإعلان القتال على الممتنعين المتمردين على أداء الزكاة.
وهذا ما حصل في زمن أبي بكر -رضي الله عنه-، فبعد أن انتقل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الرفيق الأعلى لعبت في نفوس بعض الناس أن يتركوا أداء الزكاة، فلم يُرضِ هذا الأمر خليفةَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فجمع أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- فشاورهم في أمر أولئك الأعراب، فقال: ما تقول يا أبا الحسن؟ قال: أقول لك لو تركت شيئاً مما أخذه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- منهم، قال: "أما لئن قلت ذاك لأقاتلنهم وإن منعوني عقالاً" الربطة التي تُوضع في رقبته الجمل.
قال عمر -رضي الله عنه-: "يا خليفة رسول الله، تألف الناس وارفق بهم، فقال أبو بكر لعمر: أجبَّار في الجاهلية خوَّار في الإسلام؟ إنه قد انقطع الوحي وتم الدين، أوينقص وأنا حي؟! قال عمر لأبي بكر: نقف نقاتل الناس، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا: لا إله إلا الله. فمن قال: لا إله إلا الله عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله" قال أبو بكر -رضي الله عنه-: "والله لأقاتلن من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإن الزكاة حق المال، والله لو منعوني عناقاً الأنثى من أولاد المعز كانوا يؤدونها إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لقاتلتهم على منعها" فقال عمر -رضي الله عنه-: "فو الله ما هو إلا أن رأيت أن الله شرح صدر أبي بكر للقتال، فعرفت أنه الحق".
وصلوا وسلموا...