المقدم
كلمة (المقدِّم) في اللغة اسم فاعل من التقديم، وهو جعل الشيء...
العربية
المؤلف | هلال الهاجري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | القرآن الكريم وعلومه - نوازل الأحوال الشخصية وقضايا المرأة |
وكما أنَّ اللِّباسَ دِفءٌ للجسدِ.. فكذلك الزَّواجُ دفءٌ للمشاعرِ والأحاسيسِ.. فالعِشرةُ بالمعروفِ والوئامِ.. وتبادلُ كلامِ الحبِّ والغرامِ.. تحتاجُه النُّفوسُ كما تحتاجُ الشَّرابَ والطَّعامَ.. وإلا بحثتْ عنه والعِياذُ باللهِ في الحرامِ.. كَانَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُعلِنُ حُبَّه لزوجَاتِه.. وكم من البُيوتِ قد هُدمتْ.. وكم من الأواصرِ قد قُطعتْ.. بسببِ الجفافِ العاطفيِّ.. والزَّوجةُ أشدُّ حاجةً لمثلِ هذا.. فأشبعْ أيُّها الزَّوجُ غريزةَ المرأةِ الطبيعيةَ في حبِّ الجمالِ والدَّلالِ..
الخطبة الأولى:
إِنَّ الْحَمْدَ لله؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ باللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ الله فَلَا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لَا إله إلا الله وَحْدَهُ لَا شَرِيْكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.
(يَا أَيُّهاَ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَاْلأَرْحَامَ إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71- 72]..
أَمَّا بَعْدُ: يا أهلَ القُرآنِ.. اسمعوا إلى ما يقولُه ربُّكم في وصفِ الصِّلةِ العظيمةِ.. والعَلاقةِ الحميمةِ.. التي بينَ الزَّوجِ والزَّوجةِ.. في أبلغِ الأوصافِ.. وأجملِ المعاني.. وأخصرِ العِباراتِ.. فتأمَّلها وتدبَّرها: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187].
كلماتٌ يسيراتٌ رسَمتْ العلاقةَ بإيجازٍ.. تتفجَّرُ منها أنهارُ البلاغةِ والإعجازِ.. فمن يلومُ العربَ عندما وقفوا عاجزينَ.. أمامَ كلامِ ربِّ العالمينَ.. حتى قالَ عتبةُ بنُ ربيعةَ لقومِه عندما سمعَه: وَاللَّهِ سَمِعْتُ قَوْلا مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللَّهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلا السِّحْرِ، وَلا الْكَهَانَةِ.. يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ أَطِيعُونِي وَاجْعلُوهَا بِي، خَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ، فَوَاللَّهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ نَبَأٌ".
وصدقَ الوليدُ بنُ المغيرةَ عندما سُئلَ عنه، فقالَ: "وَمَاذَا أَقُولُ؟، فَوَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالأَشْعَارِ مِنِّي، وَلا أَعْلَمَ بِرَجَزِهِ وَلا بِقَصِيدَتِهِ مِنِّي، وَلا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ".
فهذه كلامُ العربِ الفُصحاءِ البُلغاءِ.. مع ما كانَ في قلوبِهم للإسلامِ من العَداءِ.. فماذا عسى أن يقولَ الأولياءُ.. الذينَ امتزجَ فيهم حبُّ القرآنِ بالدِّماءِ؟.. فتعالوا نسيرُ في بستانِ هذه الكلماتِ المعدوداتِ.. ونقطفُ بعضَ ما فيها من الفوائدِ اليانعاتِ.. ونستكشفُ ما في تلكَ المعاني من بحورٍ.. لنستخرجَ القليلَ من الدُّرِّ المنثورِ.
أول هذه المعاني: أن اللِّباسَ زينةٌ وجمالٌ؛ فلذلكَ ينبغي أن يكونَ مناسباً لصاحبِه في الشَّكلِ والنَّوعِ والمقاسِ، فالإنسانُ يختارُ ما يُناسبُه من اللِّباسِ حتى يكونَ جميلاً في أعينِ النَّاسِ، وقد بيَّنَ لنا رسولُ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- طريقَ الاختيارِ، فقالَ للزَّوجِ: "تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لِأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَلِجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ"، وقالَ لوليِّ الزَّوجةِ ولها: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ، وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"، فاظفرْ أيها المؤمنُ بلباسِ الدِّينِ والإحسانِ، وتزيَّني أيتها الزَّوجةُ بحُلَّةِ الأخلاقِ والإيمانِ، فإنَّ ذلكَ من أجملِ لِباسٍ قد تراهُ العينانِ.
ومن معاني اللِّباسِ القُربُ.. فهو أقربُ شيءٍ إلى جسدكَ.. وكذلكَ الزَّوجةُ هي أقربُ النَّاسِ إليكَ.. فهي معكَ باللِّيلِ والنَّهارِ.. والحَضرِ والأسفارِ.. هي مخزنُ أخبارِكَ.. وهي مستودعُ أسرارِكَ.. تشاركُكَ في الأفراحِ.. وتواسيكَ في الأتراحِ.. هي السكنُ الذي تأوي إليه بعدَ الحيِّ القيومِ.. لتبُثَّ لها الهمومَ.. وتنثرُ لها الغمومَ.. ولا عجبَ في ذلكَ فهي قطعةٌ قدْ خُلقتْ منكَ.. (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) آدمَ عليه السَّلامُ.. (وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا) حواءَ.. فهي منكَ وسكنٌ لكَ.
وهذه من آياتِ اللهِ العظيمة في الكونِ.. (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا)، وما كانَ أن يُكتبَ هذا الدَّوامُ لمثلِ هذه العشرةِ اللَّصيقةِ.. لولا أن جعلَ اللهُ تعالى بينَهم تلكَ المشاعرَ الرَّقيقةَ.. (وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) [الروم: 21].. (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ * وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ) [الروم: 17- 18].
وكما أن اللِّباسَ سترٌ لعورةِ بني آدمَ كما قالَ تعالى: (يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ) [الأعراف: 26].. فكذلك الزَّوجانِ كلٌّ منهما سترٌ لعوراتِ صاحبِه..
والسترُ ليسَ في الفِراشِ فقط كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "إِنَّ مِنْ أَشَرِّ النَّاسِ عِنْدَ اللَّهِ مَنْزِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ الرَّجُلَ يُفْضِي إِلَى امْرَأَتِهِ وَتُفْضِي إِلَيْهِ ثُمَّ يَنْشُرُ سِرَّهَا".. بل في كلِّ شُئونِ الحياةِ الزَّوجيةِ.. صغيرِها وكبيرِها.. حُلْوِها ومُرِّها.. يُسرِها وعُسرِها.. غِناها وفقرِها.. تسترُ عيوبَها وتسترُ عيوبَكَ.. تصبرُ عليها وتصبرُ عليكَ..
حتى الخِلافاتِ الزَّوجيةِ لا ينبغي لها أن تخرجَ من بابِ البيتِ إلى النَّاسِ.. فإنها تخرجُ شرارةٌ فما تلبثُ أن تلوكَها الألسنُ والأضراسُ.. فتُصبحَ ناراً تأكلُ الأخضرَ واليابسَ.. وتُحرقُ الملبوسَ واللَّابسَ..
ذكرَ الغزاليُ -رحمه الله- عن بعضِ الصالحينَ أنه أرادَ طلاقَ زوجتِه، فقيلَ له: "ما الذي يُريبُك فيها؟، فقالَ: العاقلُ لا يهتكُ سرَّ امرأتِه، فلما طلَّقَها، قيلَ له: لم طلَّقتَها؟، فقال: مالي وامرأةَ غيري".
فالرَّجلُ العاقلُ يحفظُ زوجتَه بالغيبِ.. ويختارُ الزَّوجةَ التي تحفظُه وولدَه ومالَه في الغيبِ.. قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "خيرُ النِّساءِ امرأةٌ إذا نظرتَ إليها سرَّتك، وإذا أمرتَها أطاعتك، وإذا غبتَ عنها حفظتَك في نفسِها ومالِك".. وهُنَّ الصَّالحاتُ كما قالَ اللهُ تعالى: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء: 34].
واللِّباسُ يحمي صاحبَه من البردِ والحرِّ، قالَ تعالى: (وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ) [النحل: 81]، وكذلك الزَّوجانِ يحميانِ بعضَهما من الشَّهواتِ المحرَّمةِ، في زمنٍ قد تلاعبتْ به الأيادي المجرمةُ، وكَثُرتْ فيه الصُّورُ الآثمةُ، حتى أصبحَ غضُّ البصرِ من أصعبِ العباداتِ على كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ.. قَالَ جَابِرٌ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- يَقُولُ: "إِذَا أَحَدُكُمْ أَعْجَبَتْهُ الْمَرْأَةُ، فَوَقَعَتْ فِي قَلْبِهِ، فَلْيَعْمِدْ إِلَى امْرَأَتِهِ فَلْيُوَاقِعْهَا، فَإِنَّ ذَلِكَ يَرُدُّ مَا فِي نَفْسِهِ"، فإن كنتَ متزوجاً فأنت في نعمةٍ يحسدُكَ عليها الكثيرُ، واسألْ الأعزبَ الذي أعجَزه المهرُ والتَّفكيرُ.
وكما أنَّ اللِّباسَ دِفءٌ للجسدِ.. فكذلك الزَّواجُ دفءٌ للمشاعرِ والأحاسيسِ.. فالعِشرةُ بالمعروفِ والوئامِ.. وتبادلُ كلامِ الحبِّ والغرامِ.. تحتاجُه النُّفوسُ كما تحتاجُ الشَّرابَ والطَّعامَ.. وإلا بحثتْ عنه والعِياذُ باللهِ في الحرامِ.. كَانَ عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ يُعلِنُ حُبَّه لزوجَاتِه.
وكَانَ إِذَا شَرِبَتْ عَائشَةُ -رَضيَ اللهُ عَنها- مِنَ الْإِنَاءِ أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ فِي مَوْضِعِ فَمِهَا وَشَرِبَ، وَكَانَ إِذَا تَعَرَّقَتْ عَرْقًا -وَهُوَ الْعَظْمُ الَّذِي عَلَيْهِ لَحْمٌ- أَخَذَهُ فَوَضَعَ فَمَهُ مَوْضِعَ فَمِهَا.. وكم من البُيوتِ قد هُدمتْ.. وكم من الأواصرِ قد قُطعتْ.. بسببِ الجفافِ العاطفيِّ.. والزَّوجةُ أشدُّ حاجةً لمثلِ هذا كما وصفَها اللهُ تعالى بقولِه: (أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ) [الزخرف: 18]، فهي نشأتْ بينَ حِليةِ الذَّهبِ والألعابِ.. وزينةِ المِكياجِ والثِّيابِ.. فأشبعْ أيُّها الزَّوجُ غريزةَ المرأةِ الطبيعيةَ في حبِّ الجمالِ والدَّلالِ.. وقد أثارتْ هذه الحقيقةُ أميرَ الشُّعراءِ فقالَ:
خَدَعُوهَا بِقَوْلِهِمْ حَسْنَاءُ | وَالْغَوَانِي يَغُرُّهُنَّ الثَّنَاءُ |
واللِّباسُ يُحيطُ بالبدنِ إحاطةً تامةً.. وكذلكَ الزَّوجُ والزَّوجةُ يحيطُ كلٌّ منها بالآخرِ بالرِّعايةِ والنُّصحِ.. وأداءِ الواجباتِ والحقوقِ.. كما قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لا كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ.. وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِيَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ"..
فاغمرْ زفرتك بالمعروفِ.. وأعنْها على الطَّاعةِ والمعروفِ.. لا تجعلْها تشعرُ بالخوفِ وأنتَ موجودٌ معها.. ولا تجعلْها تحسُّ بالقلقِ وأنتَ بعيدٌ عنها.. املأ حياتَها نعيماً وسعادةً.. واجعل ما تقدمُه لها صدقةً وعبادةً.. أكرمْها وأكرمْ أهلَها.. احفظْها واحفظْ ولدَها.. كنْ لها الأبُّ الرَّحيمُ.. وكنْ لها الأخُّ الكريمُ.. كنْ كما قالتْ الزَّوجةُ:
كُن لي أباً و مُعلمّاً ومقوِّماً | كُن لي الهوى يا مُهجتي ومُرادي |
شوقي إليكَ و أنتَ تدخُلُ عُشَّنا | شوقٌ يدومُ على مدى الآمادِ |
بِكَ أستعينُ على الزمانِ وصِرفهِ | بعدَ الإلهِ ألستَ أنتَ عِمادي |
قد قدّرَ الرحمنُ أن أهنأَ بكمْ | فاللهُ خيرٌ واهِباً والهادي |
أدعو الرحيمَ بأن يزيدَ هناءَنا | يا جنتي، يا فارسي، يا ودادي |
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ.. ونفعني وإياكم بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيمِ.. أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمينَ من كلِ ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ الذي خلقَ من الماءِ بشرًا فَجَعله نَسبًا وصِهرًا، وجعلَ في العلاقةِ الزوجيَّةِ مودّةً ورحمةً وبِرًّا، أحمدُه سبحانَه وأشكرُه على نعمِه التي تترى..
وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له العالمُ بما في الصُّدورِ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا محمّدًا عبدُه ورسولُه الهادِي إلى خيرِ الأمورِ.. اللهمّ صلِّ وسلِّم على عبدِك ورسولِك محمَّدٍ، وعلى آلِه وصحبِه.
قد سمعنا شيئاً يسيراً من معاني قولِه تعالى: (هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ) [البقرة: 187]، وكيفَ يحفظُ اللهُ سبحانَه الأزواجَ بهذه العلاقةِ الوطيدةِ.. فتُبنى به الأُسَرُ السَّعيدةُ.. وحيثُ أن لِباسَ الزَّواجِ يُحفظُ به البصرُ وتُسترُ به العوراتِ.. كانَ للشَّيطانِ فيه مدخلٌ عظيمٌ وهو المُتخصِّصُ في نزعِ اللِّباسِ وكشفِ السَّوءاتِ.. قالَ تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا) [الأعراف: 27]..
فهو يجتهدُ لهدمِ صَرحِ الزَّوجيةِ المَشيدِ.. ونزعِ لِباسِ العفَّةِ الرَّشيدِ.. لذلكَ فهو ينشرُ جُندَه بينَ البشرِ.. وأعظمُهم من يأتي بهذا الخبرَ.. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "إِنَّ إِبْلِيسَ يَضَعُ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ يَبْعَثُ سَرَايَاهُ، فَأَدْنَاهُمْ مِنْهُ مَنْزِلَةً أَعْظَمُهُمْ فِتْنَةً، يَجِيءُ أَحَدُهُمْ فَيَقُولُ: فَعَلْتُ كَذَا وَكَذَا، فَيَقُولُ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، قَالَ: ثُمَّ يَجِيءُ أَحَدُهُمْ، فَيَقُولُ: مَا تَرَكْتُهُ حَتَّى فَرَّقْتُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ امْرَأَتِهِ، قَالَ: فَيُدْنِيهِ مِنْهُ، وَيَقُولُ: نِعْمَ أَنْتَ، فَيَلْتَزِمُهُ".
فانتبهوا يا عبادَ اللهِ لمكائدِ الشَّيطانِ وحافظوا على هذا اللِّباسِ.. واسْتَوْصُوا بِالنِّسَاءِ خَيْرًا فإنَّهنَّ وصيةُ رسولِ اللهِ -صلى اللهُ عليه وسلمَ- لكم.. وتعاملْ مع زوجتِك بمنظورِ قولِه عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: "لَا يَفْرَكْ –أيْ: لا يُبغِضْ- مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقًا رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ"..
فانظرْ إلى الإيجابياتِ ولا تُركِّزْ على السَّلبياتِ.. واجعلْ أفضلَ خيرِك لأهلِك واعلم أن هذا من كمالِ إيمانِ المؤمنِ.. كما قالَ -صلى اللهُ عليه وسلمَ-: "أَكْمَلُ المؤْمِنِينَ إِيمَانًا، أَحْسَنُهُمْ خُلُقًا، وَخِيَارُهُمْ خِيَارُهُمْ لِنِسَائِهِمْ".
والعاقلُ لا يخلعُ لباسَه ويكشفُ عورتَه.. بل يُحافظْ عليه نظيفاً أنيقاً.. زينةً وجمالاً ودفءً وقريباً.. حامياً ساتراً للعوراتِ مُحيطاً.. واعلم أنها نعمةً عظيمةً قد أنعم اللهُ تعالى بها على الرُّسلِ من قبلِك: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً) [الرعد: 38].. فلكَ الحمدُ ربِّنا حتى ترضى.. ولكَ الحمدُ إذا رضيتَ.. ولكَ الحمدُ بعد الرَّضا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ بُيُوتَنَا وَأَصْلِحْ زَوْجَاتِنَا وَأَعِنَّا عَلَى الْقِيَامِ بِحُقُوقِهِنَّ، وَوَفِّقْنَا لِمَا تُحِبُّهُ وَتَرْضَاهُ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا التِي فِيهَا مَعَاشُنَا وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا التِي إِلَيْهَا مَعَادُنَا.
اللَّهُمَّ أَصْلِحْ شَبَابَ الْمُسْلِمِينَ وَاهْدِهِمْ سُبُلَ السَّلامِ وَخُذْ بِنَوَاصِيهِمْ للْهُدَى وَالرَّشَادِ، وَجَنِّبْهُمْ الْفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَما بَطَن.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي دُورِنَا وَأَصْلِحْ وُلَاةَ أُمُورِنَا، اللَّهُمَّ جَنِّبْ بِلادَنَا الْفِتَنَ وَسَائِرَ بِلادِ الْمُسْلمِينَ يَا رَبَّ العَالَمِينَ.
اللَّهُمَّ إِنَّا نَعُوذُ بِكَ مِن الغَلَا وَالوَبَا وَالرِّبَا وَالزِّنَا وَالزَلازِلَ وَالفِتَنِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَن، وَصَلِّ اللَّهُمَّ وَسَلِّمْ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، وَالْحَمْد للهِ رَبِّ العَالَمِين.