الكبير
كلمة (كبير) في اللغة صفة مشبهة باسم الفاعل، وهي من الكِبَر الذي...
العربية
المؤلف | عبد الله بن محمد البصري |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | التربية والسلوك - الدعوة والاحتساب |
وَمَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا، تُؤذِي عِبَادَ اللهِ وَتَعبَثُ في مَسرَى رَسُولِ اللهِ، وَتَعمَلُ عَلَى تَعمِيقِ الحَفرِيَّاتِ حَولَ المَسجِدِ الأَقصَى المُبَارَكِ لِهَدمِهِ، مُنطَلِقَةً مِن نُبُوءَةٍ تَسعَى لِتَحقِيقِهَا بِهَدمِ المَسجِدِ وَبِنَاءِ هَيكَلِهَا المَزعُومِ مَكَانَهُ، لإِقَامَةِ مَملَكَةِ دَاوُودَ الكُبرَى مِنَ النِّيلِ إِلى الفُرَاتِ ..
أَمَّا بَعدُ: فَأُوصِيكُم -أَيُّهَا النَّاسُ- وَنَفسِي بِتَقوَى اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ- (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُم لِلَّذِينَ أَحسَنُوا في هَذِهِ الدُّنيَا حَسَنَةٌ وَأَرضُ اللهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجرَهُم بِغَيرِ حِسَابٍ) [الزمر:10]
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّهُ مَعَ مُرُورِ الأُمَّةِ الإِسلامِيَّةِ بِمَرَاحِلَ مِنَ الضَّعفِ وَالهَوَانِ؛ فَإِنَّهَا لم تَمُرَّ بِمَرحَلَةٍ كَمَا هِيَ عليهِ اليَومَ؛ إِذ سَامَهَا الذُّلَّ مَن ضُرِبَت عَلَيهِمُ الذِّلَّةُ وَالمَسكَنَةُ، شِرذِمَةٌ مِنَ اليَهُودِ المُغتَصِبِينَ، تَحُوطُهُم عُصَابَاتٌ مِنَ النَّصَارَى الحَاقِدِينَ، بِتَعَاوُنٍ مِنَ أَصحَابِ المَصالِحِ الخَاصَّةِ وَالمُنَافِقِينَ، يَدُوسُونَ الحِمَى وَيُدَنِّسُونَهُ في حِينِ غَفلَةٍ مِنَ المُسلِمِينَ، وَيُبَالِغُونَ في إِهَانَةِ المُقَدَّسَاتِ في زَمَنِ تَفرِيطٍ مِنهُم في الدِّينِ.
وَمَا تَزَالُ هَذِهِ الأُمَّةُ الغَضَبِيَّةُ مُنذُ أَكثَرَ مِن سِتِّينَ عَامًا، تُؤذِي عِبَادَ اللهِ وَتَعبَثُ في مَسرَى رَسُولِ اللهِ، وَتَعمَلُ عَلَى تَعمِيقِ الحَفرِيَّاتِ حَولَ المَسجِدِ الأَقصَى المُبَارَكِ لِهَدمِهِ، مُنطَلِقَةً مِن نُبُوءَةٍ تَسعَى لِتَحقِيقِهَا بِهَدمِ المَسجِدِ وَبِنَاءِ هَيكَلِهَا المَزعُومِ مَكَانَهُ، لإِقَامَةِ مَملَكَةِ دَاوُودَ الكُبرَى مِنَ النِّيلِ إِلى الفُرَاتِ.
وَإِنَّهُ -وَإِن عَزَّ السَّبِيلُ إِلى تِلكَ الدِّيَارِ المُقَدَّسَةِ، وَحِيلَ بَينَنَا وَبَينَ الذَّودِ عَن حِمَاهَا- لأَمرٍ قَضَاهُ العَزِيزُ الحَكِيمُ وَلِحِكَمٍ يَعلَمُهَا العَلِيمُ الخَبِيرُ؛ فَإِنَّهُ لا يَفُوتُنَا أَن نُبَيِّنَ مَا لِلمَسجِدِ الأَقصَى مِن مَكَانَةٍ عَظِيمَةٍ؛ إِذْ هُوَ الأَرضُ الَّتي بَارَكَ اللهُ -تَعَالى- فِيهَا وَفِيمَا جَاوَرَهَا، وَجَعَلَهُ أَوَّلَ مَسجِدٍ بُنيَ لَهُ في الأَرضِ بَعدَ المَسجِدِ الحَرَامِ، وَأَسرَى بِعَبدِهِ إِلَيهِ وَأَكرَمَهُ بإِمَامَةِ الأَنبِيَاءِ فِيهِ، وَكَانَتِ القِبلَةُ إِلَيهِ في الشَّرَائِعِ السَّابِقَةِ وَفي أَوَّلِ الإِسلامِ.
وَشَرَعَ -سُبحَانَهُ- شَدَّ الرِّحَالِ إِلَيهِ لِلعِبَادَةِ، وَضَاعَفَ أَجرَ الصَّلاةِ فِيهِ عَلَى الصَّلاةِ في غَيرِهِ إِلاَّ الحَرَمَينِ المَكِّيِّ وَالمَدَنيِّ، كَمَا جَعَلَ الصَّلاةَ فِيهِ سَبَبًا لِتَكفِيرِ الذُّنُوبِ، وَقَدَّرَ أَن يَؤُوبَ إِلَيهِ أَهلُ الإِيمَانِ في آخِرِ الزَّمَانِ، وَأَن تَكُونَ المَلاحِمُ عَلَى أَرضِهِ وَيَعُودَ إِلَيهِ الخَلقُ وَمِنهُ يُحشَرُونَ.
قَالَ -سُبحَانَهُ- عَن إِبرَاهِيمَ: (وَنَجَّينَاهُ وَلُوطًا إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا لِلعَالَمِينَ)، وَقَالَ -تَعَالى-: (وَلِسُلَيمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجرِي بِأَمرِهِ إِلى الأَرضِ الَّتي بَارَكنَا فِيهَا) [الأنبياء:71] وَقَالَ -سُبحَانَهُ- عَن مُوسَى -عَلَيهِ السَّلامُ-: (يَا قَومِ ادخُلُوا الأَرضَ المُقَدَّسَةَ الَّتي كَتَبَ اللهُ لَكُم) [المائدة:21] وَقَالَ -جَلَّ وَعَلا-: (سُبحَانَ الَّذِي أَسرَى بِعَبدِهِ لَيلاً مِنَ المَسجِدِ الحَرَامِ إِلى المَسجِدِ الأَقصَى الَّذِي بَارَكنَا حَولَهُ لِنُرِيَهُ مِن آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) [الإسراء:1]
وَعَن زَيدِ بنِ ثَابِتٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "طُوبى لِلشَّامِ" قُلنَا: لأَيٍّ ذَلِكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: "لأَنَّ مَلائِكَةَ الرَّحمَنِ بَاسِطَةٌ أَجنِحَتَهَا عَلَيهَا" رَوَاهُ أَحمَدُ وَالتِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ.
وَعَن أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قُلتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيُّ مَسجِدٍ وُضِعَ أَوَّلُ؟ قَالَ: "المَسجِدُ الحَرَامُ" قُلتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: "ثُمَّ المَسجِدُ الأَقصَى" قُلتُ: كَم كَانَ بَينَهُمَا؟ قَالَ: "أَربَعُونَ" ثُمَّ قَالَ: "حَيثُمَا أَدرَكَتكَ الصَّلاةُ فَصَلِّ وَالأَرضُ لَكَ مَسجِدٌ" رَوَاهُ البُخَارِيُّ وَغَيرُهُ.
وَعَنِ البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: "لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- المَدِينَةَ صَلَّى نَحوَ بَيتِ المَقدِسِ سِتَّةَ أَو سَبعَةَ عَشَرَ شَهرًا" الحَدِيثَ، رَوَاهُ التِّرمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الأَلبَانيُّ. وَقَالَ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "لا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلاَّ إِلى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسجِدُ الحَرَامِ وَالمَسجِدُ الأَقصَى وَمَسجِدِي هَذَا" مُتَّفَقٌ عَلَيهِ.
قَالَ الحَافِظُ ابنُ حَجَرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَفي هَذَا الحَدِيثِ فَضِيلَةُ هَذِهِ المَسَاجِدِ وَمَزِيَّتُهَا عَلَى غَيرِهَا؛ لَكُونِهَا مَسَاجِدَ الأَنبِيَاءِ، وَلأَنَّ الأَوَّلَ قِبلَةٌ لِلنَّاسِ وَإِلَيهِ حَجُّهُم، وَالثَّاني كَانَ قِبلَةَ الأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَالثَّالِثُ أُسِّسَ عَلَى التَّقوَى".
وَعِندَ أَحمَدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابنِ مَاجَه وَغَيرِهِم أَنَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- قَالَ: "إِنَّ سُلَيمَانَ بنَ دَاوُدَ لَمَّا بَنى بَيتَ المَقدِسِ سَأَلَ اللهَ -عَزَّ وَجَلَّ- خِلالاً ثَلاثَةً: سَأَلَ اللهَ حُكمًا يُصَادِفُ حُكمَهُ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللهَ مُلكًا لا يَنبَغِي لأَحَدٍ مِن بَعدِهِ فَأُوتِيَهُ، وَسَأَلَ اللهَ حِينَ فَرَغَ مِن بِنَاءِ المَسجِدِ أَن لا يَأتِيهِ أَحدٌ لا يُنهِزُهُ إِلاَّ الصَّلاةُ فِيهِ أَن يُخرِجَهُ مِن خَطِيئَتِهِ كَيَومَ وَلَدَتهُ أُمُّهُ، أَمَّا اثنَتَانِ فَقَد أُعطِيَهُمَا، وَأَرجُو أَن يَكُونَ قَد أُعطِيَ الثَّالِثَةَ".
وَعَن أَبي ذَرٍّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الصَّلاةِ في بَيتِ المَقدِسِ أَفضَلُ أَو في مَسجِدِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-؟ فَقَالَ: "صَلاةٌ في مَسجِدِي هَذَا أَفضَلُ مِن أَربَعِ صَلَوَاتٍ فِيهِ، وَلَنِعمَ المُصَلَّى هُوَ، أَرضُ المَحشَرِ وَالمَنشَرِ، وَلَيَأتِيَنَّ عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ وَلَقِيدُ سَوطِ أَو قَالَ قَوسِ الرَّجُلِ حَيثُ يَرَى مِنهُ بَيتَ المَقدِسِ خَيرٌ لَهُ أَو أَحَبُّ إِلَيهِ مِنَ الدُّنيَا جَمِيعًا".
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَن عَبدِاللهِ بنِ حَوَالَةَ الأَزدِيِّ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ-: "يَا بنَ حَوَالَةَ، إِذَا رَأَيتَ الخِلافَةَ قَد نَزَلَت أَرضَ المُقَدَّسَةَ فَقَد دَنَتِ الزَّلازِلُ وَالبَلابِلُ وَالأُمُورُ العِظَامُ، وَالسَّاعَةُ يَومَئِذٍ أَقرَبُ مِنَ النَّاسِ مِن يَدِي هَذِهِ مِن رَأسِكَ".
ذَلِكُم -أَيُّهَا المُسلِمُونَ- شَيءٌ ممَّا فُضِّلَ بِهِ المَسجِدُ الأَقصَى وَخُصَّ بِهِ بَيتُ المَقدِسِ، وَمَا زَالَ المُسلِمُونَ عَلَى مَرِّ عُصُورِهِم يَعُونَ ذَلِكَ جَيِّدًا وَتَنطَوِي عَلَيهِ صُدُورُهُم، وَلَكِنَّ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى بِمَكرِهِم وَدَهَائِهِم استَطَاعُوا عَبرَ الضَّخِّ الإِعلامِيِّ المُتَكَرِّرِ وَالمُرَاوَغَاتِ السِّيَاسِيَّةِ المُتَتَابِعَةِ أَن يُحَوِّلُوا قَضِيَّةَ احتِلالِ بَيتِ المَقدِسِ مِن قَضِيَّةٍ إِسلامِيَّةٍ تَتَعَلَّقُ بِكُلِّ مُسلِمٍ عَلَى وَجهِ الأَرضِ، إِلى قَضِيَّةٍ قَومِيَّةٍ تَنحَصِرُ في العَرَبِ.
ثم إِلى قَضِيَّةٍ إِقلِيمِيَّةٍ تَخُصُّ الشَّرقَ الأَوسَطَ، ثم مَا زَالُوا حَتى حَصَرُوهَا في أَهلِ فِلِسطِينَ، وَحَتى طَوَّعُوا الدُّوَلَ المُجَاوِرَةَ لِخِدمَةِ أَهدَافِهِم الاستِعمَارِيَّةِ، وَالَّتي مَا فَتِئُوا يُظهِرُونَهَا وَيُطَبِّقُونَهَا يَومًا بَعدَ آخَرَ، بِتَشدِيدِ الحِصَارِ وَالتَّفَنُّنِ في تَجوِيعِ أَهلِ الأَرضِ المُبَارَكَةِ، وَقَتلِهِم صَبرًا وَغَدرًا، وَحَشرِهِم بِالجُدُرِ العَازِلَةِ فَوقَ الأَرضِ وَالسِّيَاجَاتِ الفُولاذِيَّةِ تَحتَ الأَرضِ.
وَلَكِنَّ كُلَّ هَذَا التَّضيِيقِ عَلَى المُسلِمِينَ في الأَرضِ المُقَدَّسَةِ، وَتَخَاذُلَ أَهلِ القَرَارِ وَصَمتَ مَن بِأَيدِيهِمُ الحَلُّ وَالعَقدُ، لا يُعفِي الأُمَّةَ مِن وَاجِبِهَا تِجَاهَ مُقَدَّسَاتِهَا، بَل إِنَّ الوَاجِبَ عَلَيهَا يَزدَادُ تَأَكُّدًا وَيَشتَدُّ تَعَيُّنًا، عَلَى العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالكُتَّابِ وَالخَاصَّةِ وَالعَامَّةِ.
فَالعُلَمَاءُ وَالدُّعَاةُ عَلَيهِم إِبرَازُ فَضَائِلِ المَسجِدِ الأَقصَى، وَتَكثِيفُ التَّوعِيَةِ وَالاجتِهَادُ لإِظهَارِ الحَقَائِقِ، وَفَضحُ اليَهُودِ وَتَعرِيَةُ مَن يَقِفُ وَرَاءَهُم، وَبَيَانُ حُكمِ مَن يُعِينُهُم عَلَى ظُلمِهِم أَو يُسَوِّغُ لهم إِجرَامَهُم، وَإِحيَاءُ عَقِيدَةِ الوَلاءِ لِلمُؤمِنِينَ وَالبَرَاءَةِ مِنَ الكَافِرِينَ.
وَالكُتَّابُ عَلَيهِم نَشرُ تَارِيخِ الأُمَّةِ المَجِيدِ وَبَثُّهُ، وَأَن يُجَاهِدُوا بِأَقلامِهِم وَيَفضَحُوا مُخَطَّطَاتِ الأَعدَاءِ، وَأَن يُوَاجِهُوا أَقلامَ المُنَافِقِينَ الأَقزَامَ، الَّتي تَعمَلُ عَلَى خِدَاعِ النَّاسِ وَتَزوِيرِ الحَقَائِقِ وَطَمسِهَا، وَتَحسِينِ صُورَةِ الأَعدَاءِ وَتَزيِينِهَا، وَتَشوِيهِ سُمعَةِ المُرَابِطِينَ في بَيتِ المَقدِسِ وَتَقبِيحِهَا.
وَأَمَّا جُمهُورُ المُسلِمِينَ فَوَاجِبُهُم إِحيَاءُ قَضِيَّةِ المَسجِدِ الأَقصَى في قُلُوبِهِم، وَتَنَاوُلُهَا في مَجَالِسِهِم وَمُنتَدَيَاتِهِم، وَاجِبٌ عَلَى الآبَاءِ وَالأُمَّهَاتِ وَالمُعَلِّمِينَ وَالمُعَلِّمَاتِ أَن يَغرِسُوا في نُفُوسِ أَولادِهِم وَطُلاَّبِهِم فَضَلَ الأَقصَى وَمَحَبَّةَ مَن يُدَافِعُونَ عَنهُ، وَبُغضَ مَن يَعتَدُونَ عَلَيهِ مِنَ اليَهُودِ وَمَن يُعِينُهُم عَلَى ذَلِكَ.
وَقَبلَ ذَلِكَ وَبَعدَهُ؛ فَإِنَّ أَهَمَّ وَاجِبٍ على الجَمِيعِ هُوَ إِصلاحُ مَا بَينَهُم وَبَينَ اللهِ بِالتَّوبَةِ وَالتَّقَرُّبِ إِلَيهِ بِالطَّاعَةِ، حَتى تَتَغَيَّرَ حَالُهُم مِن ذُلٍّ إِلى عِزٍّ، وَيَتَبَدَّلَ وَضعُهُم مِن ضَعفٍ إِلى قُوَّةٍ، وَيُصبِحَ تَفَرُّقُهُم اجتِمَاعًا وَتَمَزُّقُهُم إِلفَةً وَاتِّحَادًا، وَقَد قَالَ -تَعَالى-: (إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَومٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِم) [الرعد :11]
وَوَاجِبٌ لا يُعذَرُ أَحَدٌ بِتَركِهِ وَلا التَّقصِيرِ فِيهِ، وَهُوَ الإِلحَاحُ في الدُّعَاءِ وَكَثرَةُ التَّضَرُّعِ إِلى المَولى أَن يَنصُرَ المُسلِمِينَ في القُدسِ عَلَى أَعدَائِهِم، وَأَن يَحفَظَ المَسجِدَ الأَقصَى مِن ظُلمِ اليَهُودِ وَيُطَهِّرَهُ مِن رِجسِهِم، وَأَن يَكفِيَ المُسلِمِينَ شَرَّ أَعوَانِهِم وَبَطشَهُم وَخِيَانَتَهُم.
أَعُوذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيطَانِ الرَّجِيمِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا اليَهُودَ وَالنَّصَارَى أَولِيَاءَ بَعضُهُم أَولِيَاءُ بَعضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِنكُم فَإِنَّهُ مِنهُم إِنَّ اللهَ لا يَهدِي القَومَ الظَّالمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ في قُلُوبِهِم مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخشَى أَن تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللهُ أَن يَأتيَ بِالفَتحِ أَو أَمرٍ مِن عِندِهِ فَيُصبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا في أَنفُسِهِم نَادِمِينَ) [المائدة 51: 52]
الخطبة الثانية:
أَمَّا بَعدُ: فَاتَّقُوا اللهَ -تَعَالى- وَأَطِيعُوهُ وَلا تَعصُوهُ.
أَيُّهَا المُسلِمُونَ: إِنَّ مِن أَكبَرِ المَصَائِبِ وَأَشَدِّ العَظَائِمِ وَأَشنَعِ الأَخطَاءِ، مَا يَعِيشُهُ فِئَامٌ مِنَ المُسلِمِينَ اليَومَ مِن تَبَلُّدِ قُلُوبِهِم تِجَاهَ قَضَايَا الأُمَّةِ، وَالنَّظرِ إِلَيهَا نَظرَةَ مَن لا يَعنِيهِ الأَمرُ شَيئًا، مُتَأَثِّرِينَ في ذَلِكَ بِمَا يَطرُقُهُ أَقزَامُ الإِعلامِ وَيَعمَلُونَ عَلَى بَثِّهِ لَيلَ نَهَارَ، مِن إِحيَاءِ الوَطَنِيَّاتِ المُفَرِّقَةِ، وَحَشرِ الأُمَّةِ في جَحِيمِ الإِقلِيمِيَّاتِ الضَّيِّقَةِ، وَإِمَاتَةِ الشُّعُورِ الإِسلامِيِّ بِوَحدَةِ الجَسَدِ وَالاشتِرَاكِ في القَضَايَا المَصِيرِيَّةِ.
وَهِيَ الإِمَاتَةُ المَقصُودَةُ؛ تَمهِيدًا لِتَفرِيقِ الصُّفُوفِ وَإِضعَافِ القُوَّةِ، وَالتَّمَكُّنِ مِن هَدمِ الأَقصَى بِسُهُولَةٍ، وَمِن ثَمَّ فَإِنَّ طَرقَ قَضَايَا المُسلِمِينَ وَإِحيَاءَهَا في قُلُوبِهِم، وَلا سِيَّمَا قَضِيَّةُ الأَقصَى وَبَيتِ المَقدِسِ، إِنَّهُ لَوَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسلِمٍ حَسبَ استِطَاعَتِهِ، وَللهِ الأَمرُ مِن قَبلُ وَمِن بَعدُ.
وَنَصرُ المُسلِمِينَ عَلَى اليَهُودِ مُتَحَقِّقٌ وَلا مَحَالَةَ، وَظُهُورُهُم عَلَيهِم حَاصِلٌ وَإِن كَرِهَ الكَافِرُونَ، وَحَدِيثُ محمدٍ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- وَاقِعٌ طَالَ الزَّمَانُ أَو قَصُرَ، رَوَى مُسلِمٌ عَن أَبي هُرَيرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنهُ- أَنَّهُ -عَلَيهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ- قَالَ: "لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتى يُقَاتِلَ المُسلِمُونَ اليَهُودَ فَيَقتُلَهُم المُسلِمُونَ، حَتى يَختَبِئَ اليَهُودِيُّ مِن وَرَاءِ الحَجَرِ وَالشَّجَرِ فَيَقُولَ الحَجَرُ أَوِ الشَّجَرُ: يَا مُسلِمُ، يَا عَبدَاللهِ، هَذَا يَهُودِيٌّ خَلفِي فَتَعَالَ فَاقتُلْهُ، إِلاَّ الغَرقَدَ فَإِنَّهُ مِن شَجَرِ اليَهُودِ".
(ذَلِكَ وَلَو يَشَاءُ اللهُ لانتَصَرَ مِنهُم وَلَكِن لِيَبلُوَ بَعضَكُم بِبَعضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا في سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعمَالَهُم). [محمد:4]