البحث

عبارات مقترحة:

الحميد

(الحمد) في اللغة هو الثناء، والفرقُ بينه وبين (الشكر): أن (الحمد)...

المحسن

كلمة (المحسن) في اللغة اسم فاعل من الإحسان، وهو إما بمعنى إحسان...

القهار

كلمة (القهّار) في اللغة صيغة مبالغة من القهر، ومعناه الإجبار،...

حقيقة السنن الإلهية

العربية

المؤلف خالد بن علي الغامدي
القسم خطب الجمعة
النوع نصي
اللغة العربية
المفردات الحديث الشريف وعلومه - أهل السنة والجماعة
عناصر الخطبة
  1. الإحكام العظيم في خلق الكون وسير الحياة .
  2. تأملات في سنن الله في الكون .
  3. سرد لبعض السنن الإلهية في القرآن الكريم .
  4. سبل الاستفادة من السنن الإلهية في الكون والحياة. .

اقتباس

السُّنَن الإلهيَّة التي بثَّها الله في الكَون والأنفُسِ والمُجتمعاتِ سُننٌ ثابِتةٌ مُستقِرَّة، ومُضطرِدةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتحوَّلُ، وذلك من أعظم صِفاتِها.. سُننٌ شامِلةٌ للعالَم كلِّه علويِّه وسُفلِيِّه، شامِلةٌ للحياةِ كلِّها وأحداثِها وتقلُّباتها.. لا تُحابِي أحدًا دُون أحدٍ، ولا تُجامِلُ أمَّةً دُون أُخرى، فكلُّ من حقَّت عليه سُنَّةُ الله فهي واقِعةٌ به ولا شكَّ،

الخطبة الأولى:

الحمدُ لله الذي صنَعَ هذا الكونَ فأتقنَه إتقانًا، وأنشَأَه قائمًا على سُنن وقوانِين فأبدَعَه إبداعًا، أحمدُه - سبحانه - وأشكُرُه، وأُثنِي عليه ولا أكفُرُه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحْدهُ لا شريكَ له ما فرَّطَ في الكتابِ من شيءٍ، (وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا[مريم: 64]، (وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا[الكهف: 49].

وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه أخشَى الخلقِ لربِّه، وأعلَمُهم به وبحقِّه، صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وذُريَّتِه وصحبِه أثولِي العلمِ والنُّهَى، والفضلِ والتُّقَى، والتابعينَ لهم ما أظلَمَ الليلُ والدُّجَى، وأشرقَ الصُّبحُ والضُّحَى.

أما بعد: فاتَّقوا الله - عبادَ اللهِ - وراقِبوه، واعلَموا أنه مَن (يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ[النور: 52].

أيها المُسلمون: إن هذا الكونَ الفَسيحَ وما حوَاه من عظيمِ صُنعِ الله، وبَديعِ آياتِه، وحكيمِ أفعالِه يَسيرُ وفقَ سُننٍ ربَّانيَّةٍ وقواعِد مُتقَنَة، لا يَحيدُ عنها ولا يَمِيلُ، في إحكامٍ وثباتٍ واستِقرارٍ، لو اختَلَّ شيءٌ منها طَرفةَ عينٍ لفسَدَت السماواتُ والأرضُ ومَن فيهنَّ، (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ[فاطر: 41].

إن السُّنَن الإلهيَّة التي بثَّها الله في الكَون والأنفُسِ والمُجتمعاتِ سُننٌ ثابِتةٌ مُستقِرَّة، ومُضطرِدةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتحوَّلُ، وذلك من أعظم صِفاتِها، كما قال ربُّنا - سبحانه -: (فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا[فاطر: 43].

سُننٌ شامِلةٌ للعالَم كلِّه علويِّه وسُفلِيِّه، شامِلةٌ للحياةِ كلِّها وأحداثِها وتقلُّباتها، فربُّنا - سبحانه - في كل لحظةٍ وفي كل يومٍ هو في شأنٍ، وكلُّ شيءٍ عنده بمِقدار، (قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا[الطلاق: 3].

إنها السُّننُ الإلهيَّة الثابِتةُ المُضطرِدةُ الشامِلةُ التي لا تُحابِي أحدًا دُون أحدٍ، ولا تُجامِلُ أمَّةً دُون أُخرى، فكلُّ من حقَّت عليه سُنَّةُ الله فهي واقِعةٌ به ولا شكَّ، عصَى الرُّماةُ أمرَ رسولِ الله - صلى الله عليه وآله وسلم - في أُحُد، فهُزِمُوا مع أنهم كانُوا على الحقِّ؛ لأن سُنَّةَ الله لا تُحابِي أحدًا.

ونصرُ الله وإعزازُه وإكرامُه ينزِلُ إلى الناس وفقَ سُننٍ دقيقةٍ مُحكَمةٍ، والهزيمةُ والذِّلَّةُ يستحِقُّها الناسُ وفقَ سُننٍ مُحدَّدةٍ واضِحةِ المعالِم، بيِّنةٍ لا خفاءَ بها ولا غُموضَ، وتلك صِفةٌ أُخرى من صِفات السُّنن الربَّانيَّة لمَن تأمَّل وتفكَّر، وأحسنَ استِعمالَ عقلِه في استِخراج واستِنباطِ السُّنن، ورأَى كيف أن أحداثَ الحياةِ والتاريخِ والأُمم تَسِيرُ وفقَ هذه السُّنن العَجيبةِ الواضِحة البيِّنة.

أما الغافِلُون عن هذه السُّنن الإلهِيَّة، اللاهُون عنها فسوف تفجَؤُهم الأحداثُ، وتحِقُّ عليهم سُننُ الله، وسيعُضُّون أصابِعَ النَّدَم، ولاتَ ساعةَ مندَم، (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ[غافر: 85].

أمة الإسلام: إن السُّنن الإلهيَّة في الأنفُس والآفاق والمُجتمعات كثيرةٌ ومُتنوِّعةٌ بتنوُّع مُتعلَّقاتها؛ فهناك سُننٌ كونيَّةٌ طبيعيَّةٌ، وهناك سُننٌ اجتماعيَّةٌ، وسُننٌ حضاريَّةٌ اقتصاديَّةٌ، وسُننٌ تاريخيَّةٌ، وسُننُ الاستِخلاف والتمكين.

وقد بيَّن الله - سبحانه وتعالى - كثيرًا منها في كتابِه، وعلى لِسانِ رسولِه - صلى الله عليه وآله وسلم -، وأمرَنا - سبحانه - أن ننظُرَ ونتأمَّلَ في الآياتِ والنُّذُر، وأحداثِ التاريخ والقصص القُرآنيِّ؛ لكَي تنشَأَ عقولٌ ناضِجةٌ مُدرِكةٌ لهذه السُّنن التي تحكمُ المُجتمعَ الإنسانيَّ وطبائِعَ الأشياء، ولتكون مُؤهَّلةً لتفسيرِ ظواهِرِ الكون، والنظَر والاعتِبار بمآلاتِ الأمورِ وعواقبِها، وموازِينِ النُّهوض والسُّقوطِ، والتداوُل الحضاريِّ، (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137]، وقال - سبحانه -: (يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ[النساء: 26].

فالله - عزَّ وجل - قد أوضحَ هذه السُّنن أيَّما إيضاح، وأرادَ منَّا - سبحانه - أن نتعلَّم علمَ السُّنن، ونتفقَّهَ فيه؛ لكَي نُحسِنَ الاستِفادةَ منه في حياتِنا وأمورِنا، وتقدُّمِنا وحضارتِنا.

ولا جرَمَ - عباد الله - أن هداياتِ القرآن وقواعِد السنَّة قد تضمَّنَت خُلاصَةَ السُّنن الربَّانيَّة التي تحكُمُ الحياةَ والكَون، وتربِطُ الأسبابَ بالمُسبَّباتِ، والمُقدِّمات بالنتائِجِ، في سِياقاتٍ وأُطُرٍ دقيقةٍ مُحكَمة، تظهرُ في حديثِ القرآن والسنَّة عن أخبارِ الأولين ومصارِعِ المُكذِّبين، وأحوال الأُمم والممالِك، والنصر والهزيمة، حديثًا مبنيًّا على هذه السُّنن الإلهيَّة القاطِعة الصارِمة التي لا تستَثنِي أحدًا.

والبشريَّةُ دائمًا في حاجةٍ شديدةٍ إلى دوامِ التذكيرِ بهذه السُّنن، والتنبيهِ عليها، كما قال ربُّنا - سبحانه -: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ[إبراهيم: 5].

أمة الإسلام: إن هذه السُّنن الربَّانيَّة منها ما هو عامٌّ يُمكنُ لكل البشريَّةِ أن يستفيدُوا منها، وهي ليسَت حِكرًا على أحدٍ، وقد يفتَحُ الله على البشريَّةِ في زمنٍ من معرفةِ هذه السُّنن العامَّة ما لم يفتَحه على مَن كان قبلَهم.

وهذه السُّنن الربَّانيَّةُ العامَّةُ هي الأكثَرُ عددًا، والأوسَعُ مساحةً في التاريخ البشريِّ؛ كالسُّنن الآفاقيَّة والنفسيَّة، والسُّنن المُتعلِّقة بهذا الكَون وجرَيَان أمورِه على وفقِ تدبيرِ الله - سبحانه وتعالى -، وتعاقُبِ الليل والنهار، وسَير الشمس والقمر، وسُنن الخلق والاجتماع، والإنشاء والبِناء، والعُمران والحَضارات، والاستِفادة من خيراتِ الأرض ومفاتِيح عِمارتها في التقدُّم العلميِّ والحضاريِّ.

فكلما أحسَنَت البشريَّةُ فِقهَ هذه السُّنن الربَّانيَّة العامَّة وأتقنَت التعامُلَ معها، عاشَت عيشةً حسنةً، وهنِئَت هناءً في حياتها لا نظيرَ له.

ولقد أبدعَ المُسلمون الأوائِلُ في الحضارة والتقدُّم والرُّقِيِّ؛ لاكتِشافهم هذه السُّنن، ولحُسن تعامُلهم معها والاستِفادة منها، فلما تخلَّوا عن ذلك، وغفَلَت الأجيالُ المُتعاقِبةُ عن سُنن الله، ولم يُحسِنُوا التعامُلَ معها، جاءَت الأُمم الأُخرى فأمسَكَت بناصِيةِ الحضارة والقوَّة، مُستفيدةً من علومِ المُسلمين وتجاربِهم، واكتِشافهم سُنن الله في الكَون والحياة، فعمِلُوا على وفقِ هذه السُّنن الربَّانيَّة، فاستحَقُّوا طرَفًا من العطاء الربَّانيِّ المفتُوح لكلِّ من وافَقَ هذه السُّنن، وأحسنَ الاستِفادةَ منها، (كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[الإسراء: 20].

ولكن - يا عباد الله - هذا الفتحُ الدنيويُّ الذي ترَونَه قد فُتِح عليهم، وأُغدِقَت عليهم فيه النِّعَم، وهم بعِيدُون عن الله، قد غرِقُوا في الشَّهوات واللذَّات، إنما هو في الحقيقةِ فَتحٌ ماديٌّ أجوَفُ، قد خلَا من البركة والطُّمأنينة ورِضا الله، وهو يجرِي أيضًا وفقَ سُنَّة الاستِدراجِ والإملاء والإمهال، كما قال ربُّنا - سبحانه -: (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام: 44، 45].

وثبَتَ عند أحمد والطبرانيِّ: عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إذا رأيتُم اللهَ يُعطِي العبدَ من الدنيا ما يُحبُّ، وهو مُقيمٌ على معاصِيه، فإنما ذلك استِدراجٌ».

وقد يطُولُ ذلك الاستِدراجُ والإمهالُ، وقد يقصُر، سُنَّةٌ ربَّانيَّةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ، (فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ[الحشر: 2].

أمة الإسلام: ومن سُنن الله الثابِتة المُضطردة: سُننُه المُتعلِّقةُ بنَصر دينِه وشَرعِه وأوليائِه وحِزبِه، وسُنن نُزولِ العذابِ وإهلاكِ الأُمم، وغيرها، فهذه سُننٌ خاصَّةٌ بيَّنَها ربُّنا - سبحانه وتعالى - أحسنَ بيانٍ؛ حيث جاء التأكيدُ على أن التوحيدَ والعملَ الصالِحَ هو السبيلُ الأوحَدُ لنَصر الأمةِ وتمكينِها في الأرض، مع الإعداد والقوَّة الماديَّة، (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ)[النور: 55]، وقال - سبحانه -: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ[الأنفال: 60].

وبيَّن القرآنُ أن أعداءَ الأمة لهم وقتٌ وأجلٌ مُعيَّن، فإذا جاءَ أجَلُهم نزلَ بهم العذابُ، وقد يشُكُّ البعضُ في ذلك؛ لما يرَى من تطاوُلِ أُمم الكُفر واستِعلائِها، وما علِمُوا أن ذلك يجرِي وفقَ سُنَّة ربَّانيَّة، وأن سُنَّة الله في إهلاكِ الظالِمين والطُّغاة قد تطُولُ، ولما تتحقَّقُ على أرضِ الواقِعِ، وقد تذهبُ أجيالٌ وتأتي أجيالُ، ثم تقَعُ سُنَّةُ الله في الظالِمين والطُّغاة، فلا يستأخِرُون عنها ولا يستقدِمُون.

ودعوةُ المظلُوم ينصُرُها الله ولو بعد حينٍ.

عبادَ الله: ومن أجَلِّ السُّنن الربَّانيَّة: قولُه - سبحانه -: (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ[إبراهيم: 7]، وقوله: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ[الأنفال: 46].

وأن مُخالفةَ الرسولِ - صلى الله عليه وآله وسلم -، وعِصيانَ أوامِرِه أوسَعُ أبوابِ الفشَلِ والهزيمةِ، والهلاكِ العامِّ، وظُهورِ الفساد في البَرِّ والبَحرِ.

ومن ألطَفِ سُنن الله وأدَقِّها: أن التغييرَ للخير والشرِّ لا يحصُلُ إلا إذا ابتدَأَ به العبدُ نفسُه، كما قال - سبحانه -: (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ[الرعد: 11]؛ فالبشرُ هم المسؤُولون ابتِداءً عن الصلاحِ والإصلاحِ، وهم المسؤُولون كذلك عن الفسادِ والانحِطاط.

ومن السُّنن الربَّانيَّة: سُنَّةُ المُداوَلَة بين الناس؛ فيومًا رخاءٌ ويومًا شدَّة، ويومًا نصرٌ ويومًا هزيمة، (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ) [آل عمران: 140].

ومن آثار سُنَّة المُداوَلَة هذه: أن يظهرَ الخبيثُ والمُنافِقُ، ويتميَّزَ عن المُؤمن الصادِقِ، وتلك سُنَّةُ التمييز العَجيبَة، (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179].

ولقد جاء البيانُ المُشرِقُ في القرآن والسنَّة مُؤكِّدًا على أن فشُوَّ الظُّلم والبغي، وغِياب العدل، وانتِشار المعاصِي والذنوبِ، والمُجاهَرة بها، والتَّرَفَ والإسرافَ من أعظم أسبابِ تغيُّر الأحوال، وزوال النِّعَم، وفُجاءَة النِّقم، ونقصِ العافِيَة والأرزاقِ، وقسوَة القلوبِ، وتناكُر النفوسِ وتباغُضِها، وتسليطِ بعضِ المُسلمين على بعضٍ بالقولِ والفعلِ.

كما قال ربُّنا - سبحانه -: (أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ) [النحل: 45- 47].

قال ابنُ جريرٍ - رحمه الله -: "يعني: أو يُهلِكَهم بتخوُّفٍ، وذلك بنقصٍ من أطرافِهم ونواحِيهم الشيءَ بعد الشيء؛ حتى يُهلِكَ جميعَهم".

وقال - سبحانه -: (وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ[القصص: 59]، وقال - سبحانه -: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) [المائدة: 13]، وقال - سبحانه -: (فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ[المائدة: 14]، وقال - سبحانه -: (وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا[الإسراء: 16].

وثبَتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «إنما أهلَكَ مَن كان قبلَكم: أنهم كانُوا إذا سرَقَ فيهم الشَّريفُ ترَكُوه، وإذا سرَقَ فيهم الضَّعيفُ أقامُوا عليه الحَدَّ، وايْمُ الله؛ لو أن فاطمةَ بنتَ محمدٍ سرَقَت لقطعتُ يدَها».

عباد الله: ومن سُنن الله العظيمة الأثَر: سُنَّةُ المُدافَعَة، أن يدفعَ الله الشرَّ بالخيرِ، والضلالَ بالهُدى، والمُفسِدين بالمُصلِحين، وهي من أعظم السُّنن التي تحفَظُ نِظامَ الكَون، وتحفَظُ الناسَ من الفسادِ والهلاكِ العامِّ، (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ[البقرة: 251].

بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعَنا بما فيه من الآياتِ والذكرِ الحكيم، أقولُ ما تسمَعون، وأستغفِرُ الله العظيمَ الجليلَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين من كلِّ ذنبٍ، فاستغفِرُوه، إنه هو الغفورُ الرحيمُ.

الخطبة الثانية:

اللهم لك الحمدُ حتى ترضَى، ولك الحمدُ إذا رضِيتَ، ولك الحمدُ بعد الرِّضا، والصلاةُ والسلامُ على خليلِ الرحمن، وشَفيعِ المُؤمنين: نبيِّنا وسيِّدنا محمدٍ، وعلى أبَوَيه الرُّسولَين الكريمَين: إبراهيم وإسماعيل، وعلى الآلِ الطيبين، والصحابةِ الأكرَمين، والتابعين لهم إلى يوم الدين.

وبعد .. أيها المُسلمون: إن أحداثَ الكَون والحياة والتاريخِ، وسِيَر الأُمم وارتِفاعها وانخِفاضِها، ورَغَد عيشِها وبُؤسِه، وضِيقِه وبحبُوحَته، وقيامِ الممالِكِ وزوالِها، وازدِهارِ العُمران وتخلُّفِه، كلُّ ذلك يتمُّ ويمضِي وفقَ سُننٍ ربَّانيَّةٍ صارِمةٍ قاطعةٍ، لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ، وهي مُتكرِّرةٌ مع وجودِ الحالِ المُقتضِي لذلك.

والمُسلمُ العاقلُ الحَصِيفُ هو من يسعَى إلى التعرُّفِ على هذه السُّنن الإلهيَّة، ويتفقَّهُ في دلالاتها وآثارِها، من خلالِ الآياتِ والنُّذُر، وأيامِ الله، والتأمُّل في القصَص القرآنيِّ والتاريخِ الغابِر، وقراءَتِه قراءةَ عِبرةٍ وعِظةٍ، ويتفكَّرُ في الأحداثِ والمواقِف؛ ليستكشِفَ هذه السُّنن التي هي غايةٌ في العدلِ والثَّباتِ والاضطِراد، وفي ذلك فوائِدُ كثيرةٌ، وثمراتٌ عُظمَى لا تُحصَى.

فالمُسلمُ الذي يفقَهُ هذه السُّنن العامَّة والخاصَّة يعرِفُ كيف تسِيرُ أقدارُ الله، ويقِفُ على شيءٍ من حِكَمها وغاياتِها وعِلَلها، فيُوافِقُ هذه السُّنن ولا يُصادِمُها، فيُرزَق البصيرَةَ والتوفيقَ والطُّمأنينةَ والثقةَ بالله، وينظُرُ في الأحداثِ بنُورٍ من الله، ويعظُمُ إيمانُه بربِّه؛ لأنه يعلَمُ أن الأمورَ كلَّها بأسبابِها ومُسبَّباتِها، ونتائِجِها ومُقدِّماتها هي بيَدِ الله وحدَه، فهو المُعِزُّ المُذِلُّ، الرافِعُ الخافِضُ، الباسِطُ القابِضُ، المُعطِي المانِعُ، مُقدِّرُ الأقدار، ومُصرِّفُ الأكوان.

والمُسلمُ الواعِي الذي يفقَهُ هذه السُّنن ينتفِعُ بها في حياتِه ومعاشِه، ويعرفُ طُرقَ ووسائِلَ العِزَّة والحياةِ الكريمة، ووالله إنه ليرَى أثرَها في حياته وخاصَّة أمرِه، ويتلمَّسُها ظاهرةً في أسبابِ غِناه وفَقرِه، وعلُوِّه وهُبُوطِه، وعِزِّه وذِلَّتِه، واستِقامَتِه وتعثُّرِه.

أمة الإسلام: هذه السُّنن الربَّانيَّةُ الصارِمةُ الشامِلةُ تُؤكِّدُ أن هذه الحياةَ ليست عبَثًا ولا فوضَى ولا همَلًا، بل هي حياةٌ قائمةٌ على نوامِيس وسُنن وقوانِين؛ فمَن يعمَل خيرًا يُجزَ به، ومَن يعمَل سُوءًا يُجزَ به، والله لا يُضيعُ أجرَ المُحسِنين.

ومن يفعَلِ الخيرَ لا يعدَمْ جوازِيَهُ

لا يذهَبُ العُرْفُ بين اللهِ والناسِ

 

واستِشرافُ هذه السُّنن، واستِكشافُها ومُوافقتُها يُحيِي في الإنسان الشُّعورَ بالإنسانيَّة والأمانة، ويصنَعُ منه رجُلًا عامِلًا مُجِدًّا مُثمِرًا بنَّاءً؛ لأنه يعلَمُ أنه أمام سُنن وقوانِين لا تُحابِي أحدًا، ولا تستَثنِي فردًا، بخِلافِ من يُهمِلُ علمَ السُّنن ويُغفِلُه، ولا يُقيمُ له وزنًا، فإنك تراه يتَّبشعُ هواه، ويُخالِفُ هذه السُّنن الربَّانيَّة ويُعانِدُها، فيعيشُ حياةَ الفوضويَّة والعبَثِيَّة والتفريطِ، والتَّبَعِيَّة والانهِزاميَّة، ثم إذا نزلَت به قارِعة، وغرِقَت به السفينة قال: أنَّى يكونُ هذا؟! (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) [آل عمران: 165].

فكلُّ مَن أعرضَ عن سُنن العِزَّة والتمكينِ والحياةِ الكريمةِ المُبارَكةِ، فإنه سوف يُخذلُ من حيث كان يظُنُّ أنه سيُوفَّق، وسيُهانُ ويُذلُّ من الجهةِ التي كان يعتقِدُ أنها ستُكرِمُه وتُعِزُّه، وترَى الفقرَ بين عينَيه، قد شتَّتَ الله عليه أمرَه، وجعلَه فُرُطًا.

سُنَّةٌ ربَّانيَّةٌ لا تتبدَّلُ ولا تتغيَّرُ، فاعتبِرُوا يا أُولِي الألبابِ والعقولِ والبصائِرِ، (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[طه: 124].

أيها المسلمون: السُّننُ الربَّانيَّةُ المبثُوثةُ في الكَون والحياة كثيرةٌ جدًّا ومُتنوِّعة، ولقد تحدَّث القرآنُ عنها في سُورٍ كثيرةٍ، وأفاضَ فيها بأسلوبِه المعهُود حلاوةً وطَلاوةً وتأصيلًا، كما في سُورة آل عمران، والأعراف، والأنفال، والتوبة، وهُودٍ، وإبراهيم، والإسراء، والكهف، والحجِّ، والنُّور، وغافِر، وغيرها كثيرٌ جدًّا، وتكاثَرَت النماذِجُ والأمثالُ النبويَّةُ في السنَّة المُشرَّفَة والسِّيرة العطِرَة.

فدُونَكم - يا مُسلمون - كلامَ الله، وسُنَّةَ نبيِّه - صلى الله عليه وآله وسلم - وسِيرتَه المُبارَكة؛ ففيها الهُدى التامُّ، والنُّورُ التامُّ، والكمالُ والجمالُ والجلالُ، والمُوفَّقُ السعيدُ مَن وفَّقه الله وبصَّرَه، وزكَّى قلبَه ونوَّرَه، والمخذُولُ المحرُومُ مَن أعرضَ عن هَديِ ربِّه واتَّبَعَ هوَاه ونسِيَ اللهَ، فانفرَطَت عليه أمورُه، وخبَطَ في هذه الحياةِ خَبطَ عشوَاء، فلم يُبالِ اللهُ به في أي أودِيَتِها هلَك، (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ * ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [غافر: 21، 22].

ثم صلُّوا وسلِّموا على سيِّد البشرية وهادِيها وسراجِها المنير: نبيِّنا وحبيبِنا وسيِّدنا محمدٍ، فإن الله - عزَّ وجل - قد أمَرَنا بالصلاةِ والسلامِ عليه؛ حيث قال في مُحكَم تنزيله: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

وثبَتَ عنه - صلى الله عليه وآله وسلم - أنه قال: «مَن صلَّى عليَّ واحدةً، صلَّى الله عليه بها عشرَ صلوات، ورفعَ له بها عشرَ درجات، وكتَبَ له بها عشرَ حسنات، وحطَّ عنه بها عشرَ خطيئات».

فاللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وأنعِم على سيِّدنا رسولِ الله، وعلى آلهِ وأزواجه وذريَّاته، وصحابتِه الكرامِ، وخُصَّ منهم: أبا بكرٍ الصدِّيقَ، وعُمرَ الفاروقَ، وعُثمانَ ذا النُّورَين، وعليًّا أبا الحسنَين، والتابعين لهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.

اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، اللهم أعِزَّ الإسلامَ والمسلمين، وأذِلَّ الشركَ والمُشركين.

اللهم انصُر دينَك وكتابَك وسُنَّة نبيِّك وعبادَك الصالِحين.

اللهم انصُر إخواننا المستضعفين في كل مكان، اللهم انصُرهم في فلسطين، وانصُرهم في بلادِ الشام، وفي العراق، وفي اليَمَن، وفي أراكان، وفي كل مكانٍ يا رب العالمين.

اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم انصُر إخواننا المجاهدين المرابطين على الحدود، اللهم كُن لهم عَونًا ونصيرًا ومُؤيِّدًا وظَهيرًا بقوَّتك يا قويُّ يا عزيز.

اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا، اللهم أصلِح أئمَّتَنا ووُلاةَ أمورِنا.

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا لما تُحبُّه وترضَاه، اللهم وفِّقه ونائبَيه لما فيه صلاحُ البلاد والعباد، واجعَلهم مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشرِّ برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين، اللهم اغفِر لنا ولوالِدِينا ولجميع المسلمين برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

وصلَّى الله وسلَّم وبارَك على نبيِّنا محمدٍ، وعلى آله وصحبِه أجمعين.