الحسيب
(الحَسِيب) اسمٌ من أسماء الله الحسنى، يدل على أن اللهَ يكفي...
العربية
المؤلف | خالد بن سعود الحليبي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | أعلام الدعاة - أركان الإيمان |
ليس الإيمان بالتمني ولا بالادعاء، ولا بأخذ بعض الدين وترك بعضه حسب الهوى والرغبات، ولكنه دينه كامل، يجب أخذه كله، لقد كان أبو بكر مثالاً حيًّا للتدين، إذا دُعي للصلاة أجاب، وإذا دُعي للجهاد أجاب، وإذا دُعي للنفقة أجاب، لقد أنفق ماله كله لما حث النبي -صَلى الله عليه وسلم- على النفقة.
الخطبة الأولى:
الحمد لله الذي أرسل عبده ورسوله محمدًا -صلى الله عليه وسلمَ- (بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ) [الصف: 9]، ووقف معه (رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ) [النور: 37].
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
كنا في الجمعة الماضية مع عبد الله بن عثمان بن عامر من لؤي القرشي التيمي، المكنى بأبي بكر، الملقب بالصديق؛ لأنه صدّق النبي -صلى الله عليه وسلمَ-، وبالغ في تصديقه كما في صبيحة الإسراء وقد قيل له: إن صاحبك يزعم أنه أُسري به، فقال: إن كان قال فقد صدق! ويكفيه فخرًا أن قال الله -سبحانه- فيه مقرونا بصاحبه العظيم -صلى الله عليه وسلمَ-: (وَالَّذِي جَاء بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) [الزمر: 33]، بل هو أول من صدّق وآمن بالنبي -صلى الله عليه وسلمَ- من الرجال. وكان يسمى "الأوّاه" لرأفته.
وُلد بعد عام الفيل بسنتين وستة أشهر، ليكون ردءًا للنبي -صلى الله عليه وسلمَ- يصحبه ويصدقه ويخلفه، فكم لله من حكم تنوء بالعقول والأفهام.
أما خِلقته فقد كان رضي الله عنه أبيض نحيفًا، خفيف العارضين، معروق الوجه، ناتئ الجبهة، يخضب بالحناء والكَتَم.
وأما خلقه فقد كان رجلاً أسيفًا أي رقيق القلب رحيمًا، حازمًا قويًّا في الحق، حتى حمى الله به دينه في زمن الردة.
ولم يحز أحد من الفضائل بعد النبي -صلى الله عليه وسلمَ- ما حازه أبو بكر الصديق -رَضي الله عنه-؛ فعن ابن عمر -رضي الله تعالى عنهما- قال: "كنا نُخير بين الناس في زمن النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فنخير أبا بكر ثم عمر بن الخطاب ثم عثمان بن عفان -رضي الله تعالى عنهم-" [رواه البخاري].
وعن أبي الدرداء -رضي الله تعالى عنه- قال: "كنت جالسًا عند النبي -صلى الله عليه وسلمَ- إذ أقبل أبو بكر آخذًا بطرف ثوبه حتى أبدى عن ركبته، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "أما صاحبكم فقد غامر" فسلّم، وقال: إني كان بيني وبين ابن الخطاب شيء، فأسرعت إليه ثم ندمت، فسألته أن يغفر لي فأبى عليَّ، فأقبلت إليك، فقال: يغفر الله لك يا أبا بكر ثلاثًا، ثم إن عمر ندم فأتى منزل أبي بكر فسأل أَثَمَّ أبو بكر؟ فقالوا: لا، فأتى إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فسلم فجعل وجه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- يتمعر؛ حتى أشفق أبو بكر فجثا على ركبتيه، فقال: يا رسول الله، والله أنا كنتُ أظلمَ مرتين، فقال النبي -صلى الله عليه وسلمَ-: "إن الله بعثني إليكم فقلتم كذبتَ، وقال أبو بكر: صدق، وواساني بنفسه وماله، فهل أنتم تاركو لي صاحبي؟" مرتين فما أوذي بعدها [رواه البخاري] فأي فضل بعد هذا أن تكون مكانتك عند رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- قد وصلت إلى أن يدافع عنك، ويتمعر وجهه من أجلك، رضي الله عنك وأرضاك.
ولا عجب من النبي الوفي أن يتذكر هذا وغير هذا من المواطن الفدائية التي تميز بها الصديق -رضي َالله عنه-، وظلت في ذواكر الصحابة -رضيَ الله عنهم أجمعين-، تؤكد فضله عليهم، ولذا لما ذَكَرَ رجالٌ على عهد عمر -رضي َالله عنه- فكأنهم فضّـلوا عمر على أبي بكر -رضي الله عنهما-، فبلغ ذلك عمر -رضي َالله عنه- فقال: "والله لليلة من أبي بكر خير من آل عمر، وليوم من أبي بكر خير من آل عمر، لقد خرج رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- لينطلق إلى الغار ومعه أبو بكر، فجعل يمشي ساعة بين يديه وساعة خلفه، حتى فطن له رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: يا أبا بكر مالك تمشي ساعة بين يدي وساعة خلفي؟ فقال: يا رسول الله أذكر الطلب فأمشي خلفك، ثم أذكر الرصد فأمشي بين يديك. فقال: يا أبا بكر لو كان شيء أحببتَ أن يكون بك دوني؟ قال: نعم والذي بعثك بالحق ما كانت لتكون من مُلمّة إلا أن تكون بي دونك، فلما انتهيا إلى الغار قال أبو بكر: مكانك يا رسول الله حتى استبرئ الجحرة؟ فدخل واستبرأ، قم قال: انزل يا رسول الله، فنزل. فقال عمر: والذي نفسي بيده لتلك الليلة خير من آل عمر" [رواه الحاكم والبيهقي في دلائل النبوة].
ولما هاجر مع رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- أخذ ماله كله في سبيل الله.
وأشار الرسول -صلى الله عليه وسلمَ- إلى خلافته في مواضع كثيرة؛ فقد روى البخاري ومسلم عن عائشة -رضي َالله عنها- قالت: قال لي رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ- في مرضه: "ادعي لي أبا بكر وأخاك حتى اكتب كتابًا، فإني أخاف أن يتمنى متمنٍّ ويقول قائل: أنا أولى، ويأبى الله والمؤمنون إلا أبا بكر".
وجاءت امرأة إلى النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فكلمته في شيء، فأمرها بأمر، فقالت: أرأيت يا رسول الله إن لم أجدك؟ قال: "إن لم تجديني فأتي أبا بكر" [رواه البخاري ومسلم].
بل أَمرنا أن نقتدي به -رضي َالله عنه- قال عليه الصلاة والسلام: "اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر" [رواه الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة، وهو حديث صحيح].
اللهم ارض عن أبي بكر وباقي الصحبة المباركة، واغفر لنا إنك أنت الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله عدد كل شيء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد:
فاتقوا الله وأطيعوه.
عباد الله: ليس الإيمان بالتمني، ولا بالادعاء، ولا بأخذ بعض الدين وترك بعضه؛ حسب الهوى والرغبات، ولكنه دينه كامل، يجب أخذه كله، لقد كان أبو بكر مثالاً حيًّا للتدين، إذا دُعي للصلاة أجاب، وإذا دُعي للجهاد أجاب، وإذا دُعي للنفقة أجاب، لقد أنفق ماله كله لما حث النبي -صَلى الله عليه وسلم- على النفقة، قال عمر بن الخطاب -رَضي الله عنه-: "أمرنا رسول الله -صَلى الله عليه وسلم- أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً فقلت: اليوم أسبقُ أبا بكر إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: ما أبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قال عمر قلت: والله لا أسبقه إلى شيء أبدًا" [رواه الترمذي].
لقد زكاه الله -سبحانه-، فقال جل وعلا: (وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى * الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى * وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى * إِلا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى * وَلَسَوْفَ يَرْضَى) [الليل: 17 - 21].
وهذه الآيات نزلت في أبي بكر -رضيَ الله عنه-، وهو من أول السابقين الأولين الذين قال الله عنهم: (وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 100].
وقد زكّـاه النبي -صلى الله عليه وسلمَ- فقال: "من جرّ ثوبه خيلاء لم ينظر الله إليه يوم القيامة" قال أبو بكر: "إن أحدَ شِقَّي ثوبي يسترخي إلا أن أتعاهد ذلك منه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "إنك لست تصنع ذلك خيلاء" [رواه البخاري].
لقد كان يبحث عن الأجر والثواب في كل موضع من مواضعه، روى مسلم عن أبي هريرة -رَضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "من أصبح منكم اليوم صائمًا؟" قال أبو بكر -رضي َالله عنه-: أنا، قال: "فمن تبع منكم اليوم جنازة؟" قال أبو بكر -رَضي الله عنه-: أنا، قال: "فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟" قال أبو بكر -رضي َالله عنه-: أنا، قال: "فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟" قال أبو بكر -رَضي الله عنه-: أنا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلمَ-: "ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة".
اللهم احشرنا في زمرة نبيك -صَلى الله عليه وسلم-، وخلفائه الراشدين المهديين من بعده أبي بكر وعمر وعثمان وعلي.
اللهم انصر الإسلام وأهله، واخذل الكفر وأهله، واحم المسجد الأقصى الشريف من أيدي أعدائه، وكن عونًا لأهله على طرد البغاة المعتدين من أكنافه، اللهم انصر إخواننا المجاهدين في كل مكان.
اللهم آمنا في أوطاننا، واحفظ لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وبارك لنا في دنيانا التي فيها معاشنا، وآخرتنا التي إليها معادنا.
اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، وارزقه البطانة الصالحة التي تعينه على الخير وتدله عليه، واجعله حربًا على أعدائك، سلمًا لأوليائك، ووفقه إلى ما تحبه وترضاه، إنك جواد كريم.
ربنا اغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين الأحياء منهم والميتين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وارض اللهم على الخلفاء الأربعة الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وعن بقية الآل والصحب أجمعين.