المجيب
كلمة (المجيب) في اللغة اسم فاعل من الفعل (أجاب يُجيب) وهو مأخوذ من...
العربية
المؤلف | عبدالباري بن عواض الثبيتي |
القسم | خطب الجمعة |
النوع | نصي |
اللغة | العربية |
المفردات | الصيام |
كان المسلمون الأوائل يعيشون رمضان بقلوبهم ومشاعرهم، فإذا كان يوم صوم أحدهم فإنّه يقضي نهارَه صابرًا على الشدائد، متسلِّحًا بمراقبة الله وخشيته، بعيدًا عن كلّ ما يلوِّث يومَه ويشوِّه صومَه، لا يتلفّظ بسوء، ولا يقول إلاّ خيرًا وإلاّ صمتَ، أمّا ليلُه فكان يقضيه في صلاةٍ وتلاوةٍ للقرآن وذكرٍ لله تأسِّيًا برسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
أمّا بعد:
فاتقوا الله -عبادَ الله- حقَّ التقوى، قال الله -عز وجلّ-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
الأيّام تمرُّ مرَّ السّحاب، وتمضي السّنون سريعًا، ونحن في غمرةِ الحياةِ ساهون، وقلَّ من يتذكّر أو يتدبّر واقعَنا ومصيرَنا، قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا) [الفرقان: 62].
المسلِمُ في عمرِه المحدود وأيّامه القصيرةِ في الحياةِ قد جعلَ الله له مواسِمَ للخير، وأعطاه مِن شرَف الزمان والمكان ما يسدُّ به الخلَلَ ويقوِّم المعوَجَّ من حياته، ومن تلك المواسمِ شهرُ رمضان المبارك، قالَ تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 183].
في رَمضانَ تخفّ وطأةُ الشهوات على النفوسِ المؤمِنة، وتُرفَع أكُفُّ الضّراعةِ في اللّيل والنهار، فواحِدٌ يسأل العفوَ عن زلّته، وآخَر يسأل التوفيقَ لطاعتِه، وثالثٌ يستعيذ به من عقوبَتِه، ورابعٌ يرجو منه جميلَ مثوبتِه، وخامِس شَغلَه ذكرُه عن مسألتِه، فسبحان من وفَّقَهم وغيرُهم محروم.
شهر رمضان شهر قوّة وعطاء، شهر مثابرةٍ وإيمان، شهر عملٍ وصبر، وليس شهرَ الضعف والكسل والنوم، وخمولُ بعض الصائمين ولجوؤهم إلى النوم في نهاره والإقلال من العمل يخالف الحكمةَ من الصوم، ولا يتَّفق مع الغاية منه.
كان المسلمون الأوائل يعيشون رمضان بقلوبهم ومشاعرهم، فإذا كان يوم صوم أحدهم فإنّه يقضي نهارَه صابرًا على الشدائد، متسلِّحًا بمراقبة الله وخشيته، بعيدًا عن كلّ ما يلوِّث يومَه ويشوِّه صومَه، لا يتلفّظ بسوء، ولا يقول إلاّ خيرًا وإلاّ صمتَ، أمّا ليلُه فكان يقضيه في صلاةٍ وتلاوةٍ للقرآن وذكرٍ لله تأسِّيًا برسول الله –صلى الله عليه وسلم-.
ثمارُ الصومِ ونتائجُه مدَد من الفضائل، لا يحصيها العدّ، ولا تقَع في حساب الكَسول اللاهي الذي يضيِّعُ شهرَه في الاستغراقِ في النّوم وذَرعِ الأسواق ليلاً وقتلِ الوَقت لهوًا.
الصّيام جُنّة من النار كما روى أحمد عن جابر -رضي الله عنه- أنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "إنّما الصيام جنّة يستجِنّ بها العبدُ من النار". الصيامُ جنّة من الشهوات؛ فقد جاء في حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- أنَّ النبيّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "يا معشر الشباب: من استطاع منكم الباءةَ فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطِع فعليه بالصوم؛ فإنّه له وجاء". رواه البخاري ومسلم.
الصوم سبيلٌ إلى الجنة؛ فقد روى النسائيّ عن أبي أمامة قال: أتيتُ رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فقلتُ: مُرني بأمرٍ آخذه عنك، قال: "عليك بالصوم فإنه لا مِثلَ له".
وفي الجنّة بابٌ لا يدخل منه إلاَّ الصائمون؛ فعن سهل بن سعد -رضي الله عنه- أنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "إنَّ في الجنة بابًا يقال له: الريان، يدخل منه الصائمون يومَ القيامة، لا يدخل منه أحد غيرُهم، يقال: أين الصائمون؟! فيقومون لا يدخُل منه أحدٌ غيرهم، فإذا دخلوا أغلِقَ فلم يدخل منه أحد". أخرجه البخاري ومسلم.
الصيام يشفَع لصاحبه؛ فقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص -رضي الله عنهما- أنّ النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "الصيامُ والقرآن يشفعان للعبد يومَ القيامة، يقول الصيام: أي ربِّ، منعتُه الطعامَ والشهوات بالنهار فشفِّعني فيه، ويقول القرآن: منعتُه النومَ بالليل فشفِّعني فيه قال: فيشفَّعَان".
الصّومُ كفّارة ومغفِرةٌ للذّنوب؛ فإنّ الحسنات تكفِّر السيئاتِ، فقد قال من حديث أبي هريرةَ رضي الله عنه: "من صامَ رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدَّم من ذنبه".
الصّيام سببٌ للسّعادة في الدّارين، فقد قال من حديث أبي هريرةَ -رضي الله عنه-: "والذي نفسُ محمّد بيده، لخلوفُ فمِ الصائم أطيبُ عند الله من ريحِ المسك، للصائم فرحتان يفرحهما: إذا أفطر فرح، وإذا لقيَ ربّه فرحَ بصومِه". رواه البخاري ومسلم.
فهل نجعل من رمضان موسمًا للعودة إلى الله ومناسبةً للمحاسبة وإصلاحِ التّقصير في جنب الله؟! وهل يجعل طلبةُ العلم والدعاةُ من رمضانَ منطلقًا لتجديد الهمّة وتطهير النية؟! فهم يحملون أشرفَ دعوةٍ وأنبلَ غايةٍ، وهل يكون رمضانُ فرصة لكلّ مسلمٍ لينصرَ أخاه ظالمًا أو مظلومًا؟! ينصر المظلومَ بردّ ظلامتِه، وينصر الظالمَ بالأخذ على يديه؛ فيسود الصفاءُ المجتمعَ المسلم، هل يكون رمضان فرصةً للأغنياء والمترَفين ليعيشوا حاجةَ الفقراء ويشكروا النعمةَ بوضعها حيث أراد المنعِمُ، فيسهموا في إنقاذ الجائعين في الأمّة الإسلاميّة وما أكثرَهم؟! فإيمانهم معرَّض للخطر إذا لم يُطعَم جائعهم ويُكسَ عاريهم ويُغَث ملهوفُهم. هل يكون رمضان فرصةً لكلّ مسلم ليدركَ أن التساهلَ يؤدّي إلى الكبائر، فيقلع عن الغيبة والنميمة وسوء الظنّ والاحتقار والازدراء؟!
رمضان -عباد الله- مدرسة كبرى، نتدرَّب في ليله ونهاره، ونغذّي جوارحَنا بنفحاته؛ حتى تتحرّك جميعها كما أراد لها ربّها وخالقُها، وفي الحديث القدسيّ: "وما يَزال عبدِي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتَّى أحِبَّه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعَه الذي يسمع به، وبصرَه الذي يبصِر به، ويدَه التي يبطِش بها، ورجلَه التي يمشي عليها". رواه البخاري.
مدرسة الصيام تربِّي على الإرادة الجازمة والعزيمة الصادقةِ، تلك التي تكسِر غوائلَ الهوى وتردّ هواجسَ الشرِّ، أيّ إرادة قويّة، بل أيّ نظام أدقّ من أن ترى المؤمنَ في مشارق الأرض ومغاربها يمسك عن طعامه وشرابه مدّةً من الزمن، ثمّ يتناوله في وقتٍ معيّن، ثم يمسك زمامَ نفسه من أن تذلَّ لشهوةٍ أو تُسترَقَّ لنزوةٍ أو ينحرفَ في تيّار الهوى، بل إنه يقول لسلطان الهوى والشهوةِ: لا، وما أروعَها من إجابةٍ إذا كانَت في مَرضاةِ الله. لا يرفث، ولا يصخَب، ولا يفسُق، ولو جرح جاهِلٌ مشاعرَه واستثار كوَامِنَه لجَم نوازِعَ الشرّ بقوله: إني امرؤٌ صائِم.
الصيامُ الحقُّ يثمِر تطهيرَ القلبِ من الأحقادِ والمآثم والشرور، وكفَّ الألسن عن اللّغو، وغضَّ البصر عن الحرام، فمن الصائمين من ليس له من صيامه إلاّ الجوع والعطش. نعم، الذي يترك الطعامَ ويأكل بالغيبة لحومَ إخوانه، يكفّ عن الشراب ولكنّه لا يكفّ عن الكذب والغشّ والعدوان على الناس.
الصيام الحقُّ يجعل المسلمَ أوسع صدرًا وأندى لسانًا وأبعدَ عن المخاصمة والشرّ، وإذا رأى زلّةً احتملها، وإن وجد إساءةً صبر عليها، (إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ) [الزمر: 10].
بارَك الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَني وإياكم بما فيهِ من الآيات والذّكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفِر الله العظيمَ لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ فاستغفِروه، إنّه هو الغفورُ الرّحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إلهَ إلاّ الله وحده لا شريكَ له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أنّ سيّدنا ونبينا محمّدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبه وأتباعه.
أمّا بعد:
فاتقوا الله حقَّ التقوى، وراقبوه في السرِّ والنجوى.
من بركة هذا الشهر عظمُ فضلِ الأعمال الصالحة، ومنها قيام الليل، فقد كان الرسول –صلى الله عليه وسلم- يرغِّب في قيام رمضان فيقول: "من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفِر له ما تقدّم من ذنبه".
الصدقة؛ فقد كان النبيّ –صلى الله عليه وسلم- أجودَ الناس بالخير، وكان أجودَ ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل. رواه البخاري ومسلم.
ويُستحَبّ تعجيلُ الفطر والدعاءُ عند الإفطار، فقد روى الترمذيّ أن النبيَّ –صلى الله عليه وسلم- قال: "ثلاثةٌ لا ترَدّ دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطِر، ودعوة المظلوم".
ألا وصلّوا -عباد الله- على رسولِ الهدى، فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهمّ صلّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الأربعة الراشدين...